ولما كانوا يوجهون لكل من أفعالهم هذه وجهاً صالحاً ، بين فساد قصدهم بقوله ذاماً غاية الذم بالتعبير بلفظ الشح الذي هو التناهي في البخل ، فهو بخل بما في اليد وأمر للغيب بالبخل فهو بخل {[55276]}إلى بخل{[55277]} خبيث قذر متمادى فيه مسارع إليه { أشحة } أي يفعلون ما تقدم والحال أن{[55278]} كلاً منهم شحيح { عليكم } أي بحصول نفع منهم أو من غيرهم بنفس أو مال .
ولما كان التقدير : في حال الأمن ، أتبعه بيان حالهم في الخوف فقال : { فإذا جاء الخوف } أي لمجيء أسبابه من الحرب ومقدماتها { رأيتهم } أي أيها المخاطب { وينظرون } وبين بعدهم حساً ومعنى بحرف الغاية فقال : { إليك } أي حال كونهم { تدور } يميناً وشمالاً بإدارة الطرف { أعينهم } أي زائغة{[55279]} رعباً وخوراً ، تم شبهها في سرعة تقلبها لغير قصد صحيح فقال : { كالذي } أي كدوران عين الذي ، وبين شدة العناية بتصوير{[55280]} ذلك بجعل المفعول عمدة ببناء الفعل له فقال : { يغشى عليه } مبتدئاً غشيانه { من الموت } سنة الله في أن كل من عامل الناس بالخداع ، كان قليل الثبات عند القراع{[55281]} ؛ ثم ذكر خاصة أخرى لبيان جبنهم فقال : { فإذا ذهب الخوف{[55282]} } أي بذهاب أسبابه { سلقوكم } أي تناولوكم تناولاً صعباً جرأة ووقاحة ، ناسين ما وقع منهم عن قرب من الجبن والخور{[55283]} { بألسنة حداد } ذربة قاطعة فصيحة بعد أن كانت عند الخوف في غاية اللجلجة{[55284]} لا تقدر على الحركة من قلة الريق ويبس الشفاه ، وهذا لطلب{[55285]} العرض الفاني من الغنيمة أو غيرها ؛ ثم بين المراد بقوله : { أشحة } أي شحاً مستعلياً { على الخير } أي المال الذي عندهم ، وفي اعتقادهم أنه لا خير غيره ، شحاً لا يريدون أن يصل شيء منه {[55286]}إليكم ولا يفوتهم{[55287]} شيء منه ، وهذه سنة{[55288]} أخرى في أن من كان صلباً في الرخاء كان رخواً حال الشدة وعند اللقاء ، وإنما فسرت الشح بهذا لأن مادته بترتيبها تدور على الجمع الذي انتهى فأشرف على الفساد{[55289]} ، من الحشيش والمحشة ، وهي الدبر ، فهو جمع يتبعه في الأغلب نكد وأذى ، ومن لوازم مطلق الجمع القوة فتتبعها الصلابة ، فربما نشأت القساوة ، وربما نشأت{[55290]} عن الجمع الفرقة فلزمتها الرخاوة ، فمن الجمع النكد الشح وهو البخل والحرص ، وشح النفس حرصها على ما ملكت ، قال القزاز : وجمع الشحيح في أقل العدد أشحة ، ولم أسمع غيره ، وحكى أبو يوسف : أشحاء - بالمد في الكثير ، والرجلان يتشاحان عن الأمر - إذا كان كل{[55291]} منهما يريد أن{[55292]} لا يفوته ، وزند شحاح : لا يورى ، وماء شحاح : نكد غير غمر - لأنه اشتد اجتماعه في مكانه ، واشتدت أرضه باجتماع أجزائها فصلبت جداً فضنت به .
وأرض شحاح : صلبة ، قال القزاز : وبه شبه الزند ، والشحشاح : الحاد والسيىء الخلق والماضي في كلام أو سير ، والمواظب على الشيء ، لأن ذلك من لوازم الحدة الناشئة عن القوة الناشئة عن الجمع ، ومن هنا قيل للخطيب البليغ والشجاع والغيور : {[55293]}شحشح وشحشاح ، والشحشح{[55294]} من الغربان : الكثير الصوت ، ومن الحمير : الخفيف ، ومن القطا : {[55295]}السريعة ، والشحشاح{[55296]} : الطويل - كأنه جمع طولين ، وشحشح البعير في الهدير - إذا لم يخلصه ، كأنه جمع{[55297]} إلى الهدير ما ليس بهدير ، والشحشحة : صوت الصرد - لكثرة اتصالها ، فهي ترجع إلى الحدة التي ترجع إلى القوة الناشئة عن الجمع ، وترديد البعير في الهدير والطيران السريع والحذر ، فإنه يدل على اجتماع القلب وثقوب الذهن ، وامرأة شحشاح - كأنها رجل في قوتها ، والمشحشح - {[55298]}كالمسلسل : القليل الخير ، وإبل شحائح : قليلة الدر ، وذلك من الجمع والصلابة الناشئة عن القساوة والنكد ، {[55299]}والشحيح من الأرض ما يسيل من أدنى مطر ، لصلابتها وشدة اجتماع بعضها إلى{[55300]} بعض ، والشحشح أيضاً من الأرض ما لا يسيل إلا من مطر كثير ضد الأول ، وذلك ناظر إلى جمعها للمطر لغوره{[55301]} فيها لما في أجزائها من التفرق الذي تقدم أنه من لوازم الجمع ، ومن مطلق الجمع : الفلاة الواسعة - لأنها جامعة لما يراد جمعه ، والشحاح : شعاب صغار تدفع الماء إلى الوادي ، فهي بمدها جامعة ، وبكونها صغاراً نكدة ومجتمعة في نفسها ، ومن الجمع : الحشيش ، وهو اليابس من العشب ، وأصله ما جمع منه .
والمحش{[55302]} : الموضع{[55303]} الكثير الحشيش والخير ، لأن الجمع ربما نشأ عنه رفق ، وكثرة الحشيش يلزمها الرفق بعلفه للدواب ، ويكون أرضه طيبة ، ومنه{[55304]} حش الحشيش : قطعه ، وفلاناً : أصلح من حاله ، والمال : كثره ، وزيداً بعيراً أو ببعير : أعطاه إياه ، والحش - بالفتح : المخرج ، والمحشة : الدبر ، والحش : البستان ذو النخل المجتمع ، سمى الخلاء به لأن العرب كانت تقضي الحاجة فيه ، وحش طلحة وحش كوكب : موضعان بالمدينة ، وحش{[55305]} الولد في البطن : يبس ، وأحشت المرأة فهي محش - إذا يبس الولد في جوفها ، والحش - بالضم : الولد الهالك في البطن ، وحششت{[55306]} الفرس : جمعت له الحشيش ، وأحششت الرجل : أعنته على جمع الحشيش ، والحشاش : الجوالق فيه الحشيش{[55307]} ، وأحش الكلأ : أمكن لأن يُحَش ، والمستحشة من النوق التي دقت أوظفتها{[55308]} ، أي ما فوق رسغها إلى ساقها ، وذلك من عظمها وكثرة شحمها ، واستحش الغصن : طال - كأنه جمع طولين ، أو صار بحيث يجمع ورقاً كثيراً ، واستحش ساعدها كفها أي{[55309]} عظم حتى صغرت الكف عنده ، وألق الحش بالإش أي الشيء بالشيء ، وحش الودي من النخل{[55310]} : يبس ، ومن الجمع : حش الصيد : جمعه من جانبيه ، والفرس : ألقى له حشيشاً ، قال القزاز : وهو يبس الكلأ ، وأصله ما جمع ، ومنه : أحشك وتروثني{[55311]} - يضرب لمن أساء إلى من أحسن إليه ، ومرت الإبل تحش الأرض . أي تجمع الحشيش ، وقيل : هو من سرعة مرها ، وفيه مع كثرة الجمع للخطى بتقاربها معنى الحدة ، ومنه حش الفرس : أسرع ، ومن الإشراف على الفساد : الحش - بالفتح وهو النخل الناقص القصير ليس بمسقي ولا معمور ، والحشاشة : رمق النفس ، يقال : ما بقي من فلان إلا حشاشة أي رمق يسير يحيي به ، وعبارة القاموس ، والحشاش والحشاشة ، بقية الروح في المريض والجريح ، فهذا بين في الإشراف على الفساد كما تقدم ، وهو أيضاً من الفرقة التي قد تلزم الجمع ومنه تحشحشوا أي تفرقوا ، ومنه قلة الاستحشاش{[55312]} ، وهو قلة القوم ، ومن الحدة الناشئة عن القوة الناشئة : عن الجمع حششت النار أي أوقدتها وجمعت الحطب إليها ، وكل ما قوي{[55313]} بشيء فقد حش به ، والمحش : حديدة يوقد بها النار أي تحرك ، والشجاع ، قال القزاز ، وهو محش حرب - إذا كان يسعرها بشجاعته ، وحش فلان الحرب - إذا هيجها ، ومنه تحشحشوا{[55314]} أي تحركوا ، ومن مطلق الحدة : أحششته عن حاجته{[55315]} : أعجلته عنها ، ومن الجمع والقوة : حش سهمه بالقذذ - إذا راشه فألزقها من نواحيه ، وحشاشاك أن تفعل كذا أي قصاراك أي نهاية جمعك {[55316]}لكل ما تقوى به{[55317]} ، وحشاشا كل شيء : جانباه ، والحشة - بالضم : القبة{[55318]} العظيمة ، لكثرة جمعها وقوة تراصّها .
ولما وصفهم سبحانه بهذه الدنايا .
أخبر بأن أساسها وأصلها الذي نشأت عنه{[55319]} عدم الوثوق بالله لعدم الإيمان فقال : { أولئك } أي البغضاء البعداء الذين محط أمرهم الدنيا { ولم يؤمنوا } أي لم يوجد منهم إيمان بقلوبهم وإن أقرت به ألسنتهم .
ولما كان العمل لا يصح بدون الإيمان ، سبب عن ذلك قوله : { فأحبط الله } أي بجلاله وتفرده في{[55320]} كبريائه وكماله { أعمالهم } أي أبطل أرواحها ، فصارت أجساداً لا أرواح لها ، فلا نفع لهم بشيء منها لأنها كانت في الدنيا صوراً مجردة عن الأرواح التي هي القصود الصالحة ، فإنهم لا قصد لهم بها إلا التوصل إلى الأعراض الدنيوية ، وهذا إعلام بأن من كانت الدنيا أكبر همه فهو غير مؤمن ، وأنه يكون خواراً{[55321]} عند الهزاهز ، ميالاً إلى دنايا الشجايا والغرائز .
ولما كان من عمل عملاً لم يقدر غيره وإن كان أعظم منه أن يبطل نفعه به إلا بسعر شديد ، قال تعالى : { وكان ذلك } أي الإحباط العظيم مع ما لهم من الجرأة في الطلب والإلحاف عند السؤال{[55322]} وقلة الأدب { على الله } بما له من صفات العظمة التي تخشع لها الأصوات ، وتخرس الألسن الذربات { يسيراً * } لأنه لا نفع إلا منه{[55323]} وهو الواحد القهار ، وأما غيره فإنما عسر عليه ذلك ، لأن النفع من غيره - وإن كان منه حقيقة{[55324]} - قهره غيره بالشفاعات ووجود{[55325]} النكد أو غيرها عليه ،