معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

قوله تعالى : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } . القرض : اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه ، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له رجاء ما أعد لهم من الثواب قرضاً ، لأنهم يعملونه لطلب ثوابه ، قال الكسائي : القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيء ، وأصل القرض في اللغة القطع ، سمي به القرض لأنه يقطع به من ماله شيئا يعطيه ليرجع إليه مثله ، وقيل : في الآية اختصار مجازه من ذا الذي يقرض عباد الله ، والمحتاجين من خلقه ، كقوله تعالى : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله ) أي يؤذون عباد الله ، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يقول يوم القيامة يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال : استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي " . وقوله عز وجل : ( يقرض الله ) أي ينفق في طاعة الله ( قرضاً حسناً ) قال الحسين بن علي الواقدي : يعني محتسباً ، طيبة بها نفسه ، وقال ابن المبارك : من مال حلال وقيل لا يمن به ولا يؤذي .

قوله تعالى : { فيضاعفه له } . قرأ ابن كثير وأبو جعفر وابن عامر ويعقوب ، فيضعفه ، وبابه بالتشديد ، ووافق أبو عمرو في سورة الأحزاب وقرأ الآخرون فيضاعفه بالألف مخففاً وهما لغتان ، ودليل التشديد قوله ( أضعافاً كثيرة ) لأن التشديد للتكثير ، وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بنصب الفاء ، وكذلك في سورة الحديد على جواب الاستفهام ، وقيل بإضمار أن ، وقرأ الآخرون برفع الفاء نسقاً على قوله : { يقرض } .

قوله تعالى : { أضعافاً كثيرة } . قال السدي هذا التضعيف لا يعلم إلا الله عز وجل ، وقيل سبعمائة ضعف .

قوله تعالى : { والله يقبض ويبسط } . قرأ أهل البصرة وحمزة يبسط ، هاهنا وفي الأعراف ، بسطة ، بالسين كنظائرهما ، وقرأهما الآخرون بالصاد قيل : يقبض بإمساك الرزق والنفس والتقتير ويبسط بالتوسيع وقيل : يقبض بقبول التوبة والصدقة ويبسط بالخلف والثواب ، وقيل : هو الإحياء والإماتة فمن أماته فقد قبضه ، ومن مد له في عمره فقد بسط له ، وقيل : هذا في القلوب ؟ لما أمرهم الله تعالى بالصدقة أخبر أنهم لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه ، قال : يقبض بعض القلوب فلا ينشط بخير ويبسط بعضها فيقدم لنفسه خيراً كما جاء في الحديث " القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء " الحديث .

قوله تعالى : { وإليه ترجعون } . أي إلى الله تعودون فيجزيكم بأعمالكم ، قال قتادة : " الهاء " راجعة إلى التراب كناية عن غير مذكور ، أي من التراب خلقهم وإليه يعودون .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

ولما كان القتال فى سبيل الله لا يتم إلا بالنفقة وبذل الأموال في ذلك ، أمر تعالى بالإنفاق في سبيله ورغب فيه ، وسماه قرضا فقال : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } فينفق ما تيسر من أمواله في طرق الخيرات ، خصوصا في الجهاد ، والحسن هو الحلال المقصود به وجه الله تعالى ، { فيضاعفه له أضعافا كثيرة } الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، بحسب حالة المنفق ، ونيته ونفع نفقته والحاجة إليها ، ولما كان الإنسان ربما توهم أنه إذا أنفق افتقر دفع تعالى هذا الوهم بقوله : { والله يقبض ويبسط } أي : يوسع الرزق على من يشاء ويقبضه عمن يشاء ، فالتصرف كله بيديه ومدار الأمور راجع إليه ، فالإمساك لا يبسط الرزق ، والإنفاق لا يقبضه ، ومع ذلك فالإنفاق غير ضائع على أهله ، بل لهم يوم يجدون ما قدموه كاملا موفرا مضاعفا ، فلهذا قال : { وإليه ترجعون } فيجازيكم بأعمالكم .

ففي هذه الآيات دليل على أن الأسباب لا تنفع مع القضاء والقدر ، وخصوصا الأسباب التي تترك بها أوامر الله . وفيها : الآية العظيمة بإحياء الموتى أعيانا في هذه الدار . وفيها : الأمر بالقتال والنفقة في سبيل الله ، وذكر الأسباب الداعية لذلك الحاثة عليه ، من تسميته قرضا ، ومضاعفته ، وأن الله يقبض ويبسط وإليه ترجعون .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

ثم أمر الله - تعالى - عباده بأن ينفقوا أموالهم في الأعمال الصالحة التي من أعظمها الجهاد في سبيله فقال - تعالى - : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } .

قال القرطبي : " القرض : اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء . وأقرض فلان فلانا أي أعطاه ما يتجازاه . واستقرضت من فلان أي طلبت منه القرض فأقرضني . واقترضت منه أي أخذت القرض . وأصل الكلمة القطع ومنه المقراض . وأقرضته أي قطعت له من مالي قطعة يجازي عليها . . . ثم قال : والتعبير بالقرض في هذه الآية إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه ، والله هو الغني الحميد ، لكنه - تعالى - شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء . . "

والمعنى : من هذا المؤمن القوي الإِيمان الذي يقدم ماله في الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله ، وفي غير ذلك من وجوه الخير كمعاونة المحتاجين ، وسد حاجة البائسين ، ومساعدة الأمة الإِسلامية بما يفيدها ويعليى من شأنها ، { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } أي : فيرد الله - تعالى - إلى هذا الباذل المعطي المقرض بدل ما أعطى وبذل وأقرض أمثالاً كثيرة لا يعلم مقدارها إلا الله أكرم الأكرمين . إذ المضاعفة معناهها إعطاء الشخص أضعاف أي أمثال ما أعطى وبذل .

والاستفهام في قوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله . . . } للحض على البذل والعطاء ، وللتهيج على الاتصاف بالصفات الكريمة ، حتى لكأن المستفهم لا يردي من هو الأهل لهذه الصفات ويريد أن يعرف من هو أهل لها .

و { مَّن } اسم استفهام مبتدأ ، و { ذَا } اسم إشارة خبره ، والذي وصلته صفة لاسم الإِشارة أو بدل منه .

وقوله : { قَرْضاً حَسَناً } حث للناس على إخلاص النية ، وتحرى الحلال فيما ينفقون ، لأن الإِنسان إذا تصدق بمال حرام ، أو قصد بنفقته الرياء أو المباهاة لا يكون عمله متقبلا عند الله ، وإنما يتقبل الله العمل ويضاعفه لمن قصد به وجهه ، وكن المتصدق به مالا حالا خالصا من الشبهات .

فالله - تعالى - طيب لا يقبل إلا ما كان طيبا .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .

القبض : ضد البسط . يقال : قبضه بيده يقبضه أي تناوله . وقبض عليه بيده أي أمسكه . ويقال لإِمساك اليد عن البذل قبض ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } أي يمتنعون عن الإِنفاق .

والبسط معنه المد والتوسعة . يقال بسط يده أي : مدها . وبسط المكان القوم . وسعهم .

والمعنى : والله - تعالى - بيده الإِعطاء والنمع فهو يسلب تارة ويعطي أخرى ، أو يسلب قوما ويعطي آخرين ، أو يضيق على بعض ويوسع على بعض حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكمة والمصلحة ، وما دام الأمر كذلك فلا تبخلوا بما وسع عليكم كيلا تتبدل أحوالكم من الغنى إلى الفقر ، ومن السعة إلى الضيق . وأنتم جميعا سترجعون إليه وحده ، وسيجازي - سبحانه - الأسخياء بما يستحقون من كريم الثواب والبخلاء بما هم أهله من شديد العقاب .

فأنت ترى أن في هذه الآية الكريمة ألوان من الحض على الإِنفاق في وجوه الخير ومن ذلك التعبير بالاستفهام ، لأنه للتنبيه وبعث النفوس إلى التدبر والاستجابة .

ومن ذلك - أيضاً - التعبير بقوله : { مَّن ذَا الذي . . } فقد جمع هذا التعبير بين اسم الإِشارة والاسم الموصول في الاستفهام ، ولا يستفهم بتلك الطريقة إلا إذا كان المقام ذا شأن وخطر ، وكان المخاطب لعظم قدره من شأنه أن يشار إليه وأن يتحدث عنه ومن ذلك تسميته ما يبذل الباذل قرضا ، ولمن هذا القرض إنه لله الذي بيده خزائن السموات والأرض والذي سيرد للباذل أضعاف ما بذل ، فكأنه - سبحانه - يقول لنا : إن ما تدفعونه لن يضيع عليكم بل هو قرض منكم لي ، وسأرده لكم بأضعاف ما دفعتم وأعطيتم . ومن ذلك إخفاء مرات المضاعفة ووصفها بالكثرة في قوله : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } أي لا يعلم مقدارها إلا الله .

ومن ذلك التعبير بقوله { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } لأنه ما دام العطاء والمنع من الله فلماذا يبخل البخلاء ويقتر المقترون ؟ إن على الغني أن يستشعر نعمة الله عليه وأن يتحدث بها بدون رياء وأن ينفق منها في وجوه الخير حتى يزيده الله من فضله ، وإلا ففي قدرة الله أن يسليها منه ، ويحاسبه على بخله حسابا عسيراً .

هذه بعض وجوه المبالغة التي اشتملت عليها الآية لحض الناس على الإِنفاق في الجهاد وفي وجوه الخير ، ولقد استجاب السف الصالح لهذه التوجيهات ، وحكى لنا التاريخ أمثلة كريمة من سخائهم وبذلهم .

ومن خير الأمثلة على ذلك ما جاء عن عبد الله بن مسعود قال : " لما نزلت : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } " قال أبو الدحداح : يا رسول الله أو إن الله - تعالى - يريد منا القرض ؟ " قال نعم يا أبا الدحداح " قال أرني يدك . فناوله النبي صلى الله عليه وسلم يده . فقال أبو الدحداح : فإني أقرضت الله - تعالى - حائطا فيه ستمائة نخلة . ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله ، فناداها : يا أم الدحداح ، قالت : لبيك قال : أخرجي قد أقرضت ربي حائطاً فيه ستمائة نخلة " .

وفي رواية لزيد بن أسلم " أن أبا الدحداح قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية والله لا أملك غيرهما قد جعلتهما قرضا لله - تعالى - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اجعل إحداهما والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك " قال : فأشهدك يا رسول أني قد جعلت خيرهما لله وهو حائط فيه ستمائة نخلة . قال : " إذا يجزيك الله به الجنة ، ثم انطلق أبو الدحداح إلى زوجته وهي مع صبيانها في الحديثة تدور تحت النخل فأخبرها بما فعل . فأقبلت على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر " .

وبهذا نرى السلف الصالح قد امتثل ما أمره الله به من إنفاق في سبيله ومن جهاد لإِعلاء كلمته فهل آن الأوان للمسلمين أن ينهجوا نهجهم لكي يسعدوا كما سعدوا ، وينالوا أشرف حياة وأعزها ؟ اللهم خذ بيدنا إلى ما يرضيك .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

{ من ذا الذي يقرض الله } { من } استفهامية مرفوعة الموضع بالابتداء ، و{ إذا } خبره ، و{ الذي } صفة ذا أو بدله ، وإقراض الله سبحانه وتعالى مثل لتقديم العمل الذي به يطلب ثوابه . { قرضا حسنا } إقراضا حسنا مقرونا بالإخلاص وطيب النفس أو مقرضا حلالا طيبا . وقيل : القرض الحسن بالمجاهدة والإنفاق في سبيل الله { فيضاعفه له } فيضاعف جزاءه ، أخرجه على صورة المغالبة للمبالغة ، وقرأ عاصم بالنصب على جواب الاستفهام حملا على المعنى ، فإن { من ذا الذي يقرض الله } في معنى أيقرض الله أحد .

وقرأ ابن كثير { فيضعفه } بالرفع والتشديد وابن عامر ويعقوب بالنصب . { أضعافا كثيرة } كثرة لا يقدرها إلا الله سبحانه وتعالى . وقيل الواحد بسبعمائة ، و " أضعافا " جمع ضعف ونصبه على الحال من الضمير المنصوب ، أو المفعول الثاني لتضمن المضاعفة معنى التصيير أو المصدر على أن الضعف اسم مصدر وجمعه للتنويع . { والله يقبض ويبسط } يقتر على بعض ويوسع على بعض حسب ما اقتضت حكمته ، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم كيلا يبدل حالكم . وقرأ نافع والكسائي والبزي وأبو بكر بالصاد ومثله في الأعراف في قوله تعالى : { وزادكم في الخلق بسطة } { وإليه ترجعون } فيجازيكم على حسب ما قدمتم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 245 )

ثم قال تعالى : { من ذا الذي يقرض الله } الآية ، فدخل في ذلك المقاتل في سبيل الله فإنه يقرض رجاء الثواب ، كما فعل عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة ، ويروى أن هذه الآية لما نزلت قال أبو الدحداح( {[2358]} ) : «يا رسول الله أَوَ إن الله يريد منا القرض ؟ » قال : «نعم ، يا أبا الدحداح » ، قال : فإني قد أقرضت الله حائطي « : لحائط فيه ستمائة نخلة ، ثم جاء الحائط وفيه أم الدحداح ، فقال : اخرجي فإني قد أقرضت ربي حائطي هذا ، قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » كم من عذق مذلل( {[2359]} ) لأبي الدحداح في الجنة »( {[2360]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويقال فيه ابن الدحداحة( {[2361]} ) ، واستدعاء القرض في هذه الآية إنا هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه من شبه القرض بالعمل للثواب ، والله هو الغني الحميد ، لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا ما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض ، كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء ، وقد ذهبت اليهود في مدة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التخليط على المؤمنين بظاهر الاستقراض وقالوا إلهكم محتاج يستقرض ، وهذا بين الفساد( {[2362]} ) ، وقوله { حسناً } معناه تطيب فيه النية ، ويشبه أيضاً أن تكون إشارة إلى كثرته وجودته ، واختلف القراء في تشديد العين وتخفيفها ورفع الفاء ونصبها وإسقاط الألف وإثباتها من قوله تعالى : { فيضاعفه } فقرأ ابن كثير " فيضعّفُه " برفع الفاء من غير ألف وتشديد العين في جميع القرآن وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه نصب الفاء في جميع القرآن ، ووافقه عاصم على نصب الفاء إلا أنه أثبت الألف في " فيضاعفه " في جميع القرآن ، وكان أبو عمرو لا يسقط الألف من ذلك كله إلا من سورة الأحزاب . قوله تعالى : { يضعف لها العذاب } [ الأحزاب : 30 ] ، فإنه بغير ألف كان يقرأه ، وقرأ حمزة والكسائي ونافع ذلك كله بالألف ورفع الفاء . فالرفع في الفاء يتخرج على وجهين : أحدهما العطف على ما في الصلة .

وهو يقرض ، والآخر أن يستأنف الفعل ويقطعه ، قال أبو علي : «والرفع في هذا الفعل أحسن » .

قال القاضي أبو محمد : لأن النصب إنما هو بالفاء في جواب الاستفهام ، وذلك إنما يترتب إذا كان الاستفهام عن نفس الفعل الأول ثم يجيء الثاني مخالفاً له . تقول : أتقرضني فأشكرك ، وها هنا إنما الاستفهام عن الذي يقرض لا عن الإقراض ، ولكن تحمل قراءة ابن عامر وعاصم في النصب على المعنى ، لأنه لم يستفهم عن فاعل الإقراض إلا من أجل الإقراض ، فكأن الكلام أيقرض أحد الله فيضاعفه له ، ونظير هذا في الحمل على المعنى قراءة من قرأ { من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم } [ الأعراف : 186 ] بجزم { نذرهم }( {[2363]} ) ، لما كان معنى قوله { فلا هادي له } [ الأعراف : 186 ] فلا يهد وهذه الأضعاف الكثيرة هي إلى السبعمائة التي رويت ويعطيها مثال السنبلة( {[2364]} ) ، وقرأ ابن كثير { يبسط } بالسين ، ونافع بالصاد في المشهور عنه( {[2365]} ) ، وقال الحلواني عن قالون عن نافع : إنه لا يبالي كيف قرأ بسطة ويبسط بالسين أو بالصاد ، وروى أبو قرة عن نافع { يبسط } بالسين ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يسعر بسبب غلاء خيف على المدينة ، فقال : «إن الله هو الباسط القابض ، وإني لأرجوا أن ألقى الله ولا يتبعني أحد بمظلمة في نفس ولا مال »( {[2366]} ) .


[2358]:- صحابي جليل، قال أبو عمر بن عبد البر: لم أقف على اسمه ونسبه إلا أنه حليف الأنصار، فهو أنصاري بالحلف. وقال الحافظ بن حجر: إنه عاش إلى زمن معاوية رضي الله عنهما.
[2359]:- من ذلك قوله تعالى: [وذُلِّلت قطوفها تدليلا] وفي رواية: (كم من عذق رداح، ودار فياح، لأبي الدحداح).
[2360]:- روى ذلك البزار، وابن أبي حاتم، وابن جرير، من طريق حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود، ورواه الحافظ ابن مردويه، وابن جرير أيضا من حديث زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وروى الإمام القرطبي في تفسيره حديث ابن مسعود بإسناده الخاص.
[2361]:- جاء في "الإصابة" (4/60) – أن الذي يقال له: أبو الدحداحة – اسمه (ثابت) وثابت هذا جُرح في أحد فقيل: مات بها، وقيل: انتفضت فمات بعد ذلك بمدة وهو الراجح وأما صاحب الترجمة فعاش إلى زمن معاوية – وروى- فيما أخرجه أبو نعيم- أنه قال لمعاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت الدنيا همته حرّم الله عليه جواري...) ومعنى هذا أن أبا الدحداح المذكور هنا لا يقال له: أبو الدحداحة.
[2362]:- لما نزل قوله تعالى: [من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة] قال أبو الدحداح: إن الله كريم استقرض من ما أعطانا، وفي رواية: قال أبو الدحداح: يستقرضنا وهو غني، فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم – ليدخلكم الجنة)، وقالت اليهود: إن الله فقير ونحن أغنياء، ففهْمُ أبي الدحداح هو الفِقْه وهو الباطن المراد المقصود، وفهم اليهود لم يزد على مجرد القول العربي الظاهر، ثم حمل استقراض الرب الغني على استقراض العبد الفقير عافانا الله من ذلك. ومن هنا نعلم أن كل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية والإقرار لله بالربوبية فذلك هو الباطن المراد الذي أنزل القرآن من أجله – وأما الفرقة الثالثة فقد شحت وبخلت فما أقرضت ولا تصدقت: [ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء].
[2363]:- من الآية (186) من سورة الأعراف، وقد قُرئ بالياء والنون مع الرفع، وبالياء لا غير مع الجزم.
[2364]:- أخرج البخاري ومسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ربه عز وجل – قال: (إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، ثم بيّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة) انتهى.
[2365]:- مقابلة ما رواه أبو قرة عن نافع من قراءته بالسين.
[2366]:- رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن جرير، وفي هذا الحديث النهي عن التسعير، وأجاز الإمام مالك وبعض الأئمة ذلك إذا ظهرت مصلحته، وكانت له فائدة مرجوة، وأجابوا عن هذا الحديث بأنه محمول على صورتين – الأولى: أن يسعر الثمن ويقال: لا تبيعوا إلا به ربحتم أو خسرتم، والثانية: التسعير على الجالب – فهاتان الصورتان لا يجوز التسعير فيهما، وذلك محل اتفاق.