معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

قوله تعالى : { قل لمن ما في السموات والأرض } ، فإن أجابوك وإلا .

قوله تعالى : { قل } ، أنت .

قوله تعالى : { لله } ، أمره بالجواب عقيب السؤال ليكون أبلغ في التأثير وآكد في الحجة .

قوله تعالى : { كتب } ، أي : قضى .

قوله تعالى : { على نفسه الرحمة } ، هذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال عليه ، وإخباره بأنه رحيم بالعباد ، لا يعجل بالعقوبة ، ويقبل الإنابة والتوبة .

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن همام بن منبه قال : ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما قضى الله الخلق كتب كتاباً فهو عند الله فوق العرش : إن رحمتي غلبت غضبي ) .

وروي أبو الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن رحمتي سبقت غضبي ) .

أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكركاني ، أنا أبو طاهر الزنادي ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا عبد الرحمن المروزي ، أخبرنا عبد الله ابن المبارك ، أنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن لله مائة رحمة ، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن ، والإنس ، والبهائم ، والهوام ، فيها يتعاطفون ، وبها يتراحمون ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ) .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا ابن أبي مريم ، ثنا أبو غسان ، حدثني زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم قال : ( قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي ، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها ، تسعى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها ، وأرضعته ، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم : ( أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟ فقلنا : لا ، وهي تقدر على أن لا تطرحه ، فقال : الله أرحم بعباده من هذه بولدها ) .

قوله تعالى : { ليجمعنكم } ، اللام فيه لام القسم ، والنون نون التوكيد ، مجازه والله ليجمعنكم .

قوله تعالى : { إلى يوم القيامة } ، أي : في يوم القيامة ، وقيل معناه ليجمعنكم في قبوركم إلى يوم القيامة .

قوله تعالى : { لا ريب فيه الذين خسروا } ، غبنوا .

قوله تعالى : { أنفسهم فهم لا يؤمنون } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

{ 12 } { قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { قُلْ } لهؤلاء المشركين بالله ، مقررا لهم وملزما بالتوحيد : { لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : مَن الخالق لذلك ، المالك له ، المتصرف فيه ؟

{ قُلْ } لهم : { لِلَّهِ } وهم مقرون بذلك لا ينكرونه ، أفلا حين اعترفوا بانفراد الله بالملك والتدبير ، أن يعترفوا له بالإخلاص والتوحيد ؟ " .

وقوله { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } أي : العالم العلوي والسفلي تحت ملكه وتدبيره ، وهو تعالى قد بسط عليهم رحمته وإحسانه ، وتغمدهم برحمته وامتنانه ، وكتب على نفسه كتابا أن رحمته تغلب غضبه ، وأن العطاء أحب إليه من المنع ، وأن الله قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة ، إن لم يغلقوا عليهم أبوابها بذنوبهم ، ودعاهم إليها ، إن لم تمنعهم من طلبها معاصيهم وعيوبهم ، وقوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ } وهذا قسم منه ، وهو أصدق المخبرين ، وقد أقام على ذلك من الحجج والبراهين ، ما يجعله حق اليقين ، ولكن أبى الظالمون إلا جحودا ، وأنكروا قدرة الله على بعث الخلائق ، فأوضعوا في معاصيه ، وتجرءوا على الكفر به ، فخسروا دنياهم وأخراهم ، ولهذا قال : { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

ثم ساق القرآن الكريم ألوانا من البراهين الدالة على وحداينة الله وقدرته وعلى أنه هو المهيمن على هذا الكون ، فقال - تعالى - : { قُل لِّمَن . . . } .

المعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين - على سبيل التوبيخ والتنبيه - من الذى يملك السموات والأرض وما فيهما من إنس وجن وحيوان ونبات وغير ذلك من المخلوقات ، إن الإجابة الصحيحة التى يعترفون بها ولا يستطيعون إنكارها أن جميع المخلوقات لله رب العالمين . قال - تعالى - { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } فالمقصود بالاستفهام تبكيتهم على عنادهم ، وتنبيههم إلى ضلالهم لعلهم يثوبون إلى رشدهم .

قال الإمام الرازى : وقوله : { قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض } سؤال ، وقوله { قُل للَّهِ } جواب . فقد أمره الله - تعالى - بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا ، وهذا إنما يحسن فى الموضع الذى يكون الجواب قد بلغ فى الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ، ولا يقدر على دفعه دافع ، وهنا كذلك لأن القوم كانوا معترفين بأن العالم كله لله وتحت تصرفه وقهره وقدرته " .

ثم قال - تعالى - { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } أى : أوجب - سبحانه - على نفسه رحمته التى وسعت كل شىء والتى من مظاهرها أنه منح خيره ونعمه فى الدنيا للطائعين والعصاة ، وأنه سيحاسبهم يوم القيامة على أعمالهم فيجازى الذين أساءوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .

وفى الصحيحين عن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش ، إن رحمتى تغلب غضبى " .

وجملة ، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ، يرى بعض العلماء أنها جواب لقسم محذوف أى : والله ليجمعنكم ، وجملة القسم والجواب لا محل لها من الإعراب ، وإن تعلقت بما قبلها من حيث المعنى وعلى هذا الرأى يكون الكلام قد تم عند قوله - تعالى - { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } .

ويرى الزجاج ومن شايعه أن جملة ( ليجمنعكم ) فى محل نصب بدل من الرحمة ، وفسر ( ليجمعنكم ) بمعنى أمهلكم وأمد لكم فى العمر والرزق مع كفركم ، فهو تفسير الرحمة ، كما قال - تعالى - فى السورة نفسها ( كتب على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ) .

والمقصود بهذه الجملة الكريمة ( ليجمعنكم ) بيان عدل الله بين عباده . فهو لم يجمعهم يوم القيامة لتعذيبهم جميعا ، وإنما يجمعهم لإثابة المحسن ومعاقبة المسىء .

ولما كان الكافرون ينكرون حصول البعث والحساب فقد أكد الله - تعالى - حصولهما باللام وبنون التوكيد الثقيلة ، وبتعدية الفعل بإلى دون فى للإشارة إلى أن هذا الجمع نهايته يوم القيامة - وبأنه يوم لا ينبغى لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته .

ثم ختمت الآية الكريمة ببيان عاقبتهم السيئة فقال - تعالى - { الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .

أى : الذين خسروا أنفسهم بانطماس فطرتهم ، وإصرارهم على العناد والجمود ، لا يتسرب الإيمان إلى قلوبهم لأنها قست وأظلمت .

قال الآلوسى : ( الفاء ) فى قوله ( فهم لا يؤمنون ) - للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم ، فإن إبطال العقل والانهماك فى التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

{ قل لمن ما في السماوات والأرض } خلقا وملكا ، وهو سؤال تبكيت . { قل لله } تقريرا لهم وتنبيها على أنه المتعين للجواب بالإنفاق ، بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره . { كتب على نفسه الرحمة } التزمها تفضلا وإحسانا والمراد بالرحمة ما يعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته ، والعلم بتوحيده بنصب الأدلة ، وإنزال الكتب والإمهال على الكفر . { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } استئناف وقسم للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر أي : ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة ، فيجازيكم على شرككم . أو في يوم القيامة وإلى بمعنى في . وقيل بدل من الرحمة بدل البعض فإنه من رحمته بعثه إياكم وإنعامه عليكم . { لا ريب فيه } في اليوم أو الجمع . { الذين خسروا أنفسهم } بتضييع رأس مالهم . وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم ، وموضع الذين نصب على الذم أو رفع على الخبر أي : وأنتم الذين أو على الابتداء والخبر . { فهم لا يؤمنون } والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم ، فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع من الإيمان .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

قال بعض أهل التأويل : في الكلام حذف تقديره : { قل لمن ما في السماوات والأرض } ؟ فإذا تحيروا ولم يجيبوا ، قل لله ، وقالت فرقة : المعنى أنه أمر بهذا السؤال فكأنهم لما لم يجيبوا ولا تيقنوا سألوا فقيل له : قل لله ، والصحيح أن الله عز وجل أمر محمداً عليه السلام بقطعهم بهذه الحجة الساطعة والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم ولا عند أحد ، ليعتقد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم ثم يتركب احتجاجه عليه ، جاء ذلك بلفظ استفهام وتقرير في قوله : { لمن ما في السماوات والأرض } والوجه في الحجة ، كما تقول لمن تريد غلبته بآية تحتج بها عليه ، كيف قال الله في كذا ؟ ثم تسبقه أنت إلى الآية فتنصها عليه ، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : يا أيها الكافرون العادلون بربهم { لمن ما في السماوات والأرض } ؟ ثم سبقهم فقال : { لله } ، أي لا مدافعة في هذا عندكم ولا عند أحد ، ثم ابتدأ يخبر عنه تعالى : { كتب على نفسه الرحمة } معناه قضاها وأنفذها . وفي هذا المعنى أحاديث عن النبي عليه السلام تتمضن كتب الرحمة ، ومعلوم من غير ما موضع من الشريعة أن ذلك للمؤمنين في الآخرة ولجميع الناس في الدنيا ، منها ( إن الله تعالى خلق مائة رحمه فوضع منها واحدة في الأرض فبها تتعاطف البهائم وترفع الفرس رجلها لئلا تطأ ولدها . وبها تتعاطف الطير والحيتان ، وعنده تسع وتسعون رحمة ، فإذا كان يوم القيامة صير تلك الرحمة مع التسعة والتسعين وبثها في عباده{[4834]} ) .

قال القاضي أبو محمد : فما أشقى من لم تسعه هذه الرحمات تغمدنا الله بفضل منه ، ومنها حديث آخر أن الله عز وجل كتب عنده كتاباً فهو عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي{[4835]} ، ويروى : نالت غضبي ، ومعناه سبقت ، وأنشد عليه ثابت بن قاسم :

أَبَني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا *** نالا الملوك وفكَّكا الأغلالا{[4836]}

ويتضمن هذا الإخبار عن الله تعالى بأنه كتب الرحمة تأنيس الكفار ونفي يأسهم من رحمة الله إذا تابوا ، وأن باب توبتهم مفتوح ، قال الزجاج : { الرحمة } هنا إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا ، وحكى المهدوي : أن جماعة من النحويين قالت : إن { ليجمعنكم } هو تفسير { الرحمة } تقديره : أن يجمعكم فيكون { ليجمعنكم } في موضع نصب على البدل من { الرحمة } ، وهو مثل قوله : { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين }{[4837]} المعنى : أن يسجنوه .

قال القاضي أبو محمد :

يلزم على هذا القول أن تدخل النون الثقيلة في الإيجاب ، وهو مردود ، وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص الواجب في القسم{[4838]} .

وقالت فرقة وهو الأظهر : إن اللام لام قسم والكلام مستأنف ، ويتخرج ذلك في { ليسجننه } وقالت فرقة { إلى } بمعنى في ، وقيل على بابها غاية وهو الأرجح ، و { لا ريب فيه } لا شك فيه ، أي هو في نفسه وذاته لا ريب فيه ، وقوله تعالى : { الذين خسروا أنفسهم } الآية قيل إن { الذين } منادى .

قال القاضي أبو محمد : وهو فاسد لأن حرف النداء لا يسقط مع المبهمات ، وقيل : هو نعت المكذبين الذين تقدم ذكرهم ، وقيل : هو بدل من الضمير في { ليجمعنكم } ، قال المبرد : ذلك لا يجوز كما لا يجوز مررت بك زيد .

قال القاضي أبو محمد : وقوله في الآية { ليجمعنكم } مخالف لهذا المثال لأن الفائدة في البدل مترقبة من الثاني ، وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني ، وقوله : { ليجمعنكم } يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال { الذين } من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب هنا ، وخصوا على جهة الوعيد ، ويتضح فيها الوعيد إذا جعلنا اللام للقسم وهو القول الصحيح ويجيء هذا بدل البعض من الكل{[4839]} .

وقال الزجاج { الذين } رفع بالابتداء وخبره { فهم لا يؤمنون } ، وهذا قول حسن ، والفاء في قوله : { فهم } جواب على القول بأن { الذين } رفع بالابتداء لأن معنى الشرط حاصل تقديره ، من خسر نفسه فهو لا يؤمن ، وعلى القول بأن { الذين } بدل من الضمير هي عاطفة جملة على جملة ، و{ خسروا } معناه غبنوا أنفسهم بأن وجب عليها عذاب الله وسخطه ، ومنه قول الشاعر [ الأعشى ] : [ السريع ]

لا يأخُذُ الرَشْوَةَ في حُكْمِهِ *** ولا يبالي غَبَنَ الخَاسِرِ{[4840]}


[4834]:-أخرجه أحمد، ومسلم، والبيهقي في الأسماء والصفات- عن سلمان مع اختلاف في الألفاظ، وأخرج مثله عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سلمان أيضا، ونصه: (إنا نجد في التوراة أن الله خلق السماوات والأرض، ثم جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة وأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها يتباذلون، وبها يتزاورون، وبها تحن الناقة، وبها تنتج البقرة، وبها تيعر الشاة (أي: تصيح)، وبها تتابع الطير، وبها تتابع الحيتان في البحر، فإذا كان يوم القيامة جمع تلك الرحمة إلى ما عنده، ورحمته أفضل وأوسع). (الدر المنثور- وفتح القدير).
[4835]:- هذا الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما من طريق الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة. (الدر المنثور- وفتح القدير وابن كثير).
[4836]:- فهو يصفها بأنهما سبقا الملوك في الشجاعة والكرم.
[4837]:- الآية (35) من سورة (يوسف).
[4838]:-قال أبو حيان تعليقا على رأي ابن عطية هذا: "وهذا الذي ذكره لا يحصر مواضع دخول نون التوكيد، ألا ترى دخولها في الشرط وليس واحدا مما ذكر نحو قوله تعالى: {وإما ينزغنك}، وكذلك قوله: "وباختصاص من الواجب في القسم" ليس على إطلاقه، بل له شروط ذكرت في علم النحو". اهـ.(البحر المحيط 4/ 82).
[4839]:- القول بأن {الذين خسروا...} بدل من الضمير في {ليجمعنكم} هو قول الأخفش- وقد ردّه المبرد ودليله على ذلك أن البدل من ضمن الخطاب لا يجوز كما لا يجوز في قولك: "مررت بك زيد"، وجاء ابن عطية فردّ كلام المبرد بالتفرقة بين الآية وبين المثال الذي ذكره المبرد، وحجته أن الفائدة من البدل عادة تكون مترقبة من الثاني، وهذا لا يتحقق في مثال المبرد، لكنه يتحقق في الآية كما شرحه ابن عطية، وجاء أبو حيان فناقش ابن عطية بقوله ما معناه: كلامه يقتضي أن يكون بدل بعض من كل كما ذكر ويحتاج إذ ذاك إلى ضمير يمكن تقديره: "الذين خسروا أنفسهم منهم"، وقوله: "إن البدل يفيدنا أنهم هم المختصون بالخطاب، وخصوا على جهة الوعيد" يقتضي أن يكون بدل كل من كل، وفي هذا تناقض. ولنا أن ندافع عن ابن عطية فنقول: إذا كان قوله تعالى: {ليجمعنكم} يصلح لمخاطبة الناس كافة فإنه يصلح أيضا لمخاطبة الكفار المستهزئين تبعا لسياق الآيات، فإن جعلناه خطابا لجميع الناس كان [الذين خسروا] بدل بعض من كل، وإن جعلناه خطابا للكفار المستهزئين فقط كان بدل كل من كل، ولا تناقض. والله أعلم. وابن عطية قال: "يصلح" ولم يقل: "يجب أن يكون خطابا لجميع الناس".
[4840]:- هذا البيت للأعشى من قصيدة قالها يهجو علقمة بن علاثة ويمدح عامر بن الطفيل في المنافرة التي جرت بينهما، والبيت في مدح الحكم الذي كان يحكم بين المتنافرين، ومطلع القصيدة: شاقتك من قتلة أطلالها بالشطّ فالوتر إلى حاجر قال صاحب اللسان: "الغبن بالتسكين في البيع، والغبن بالتحريك في الرأي"، ثم قال: وقد حكي غير ذلك.