الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

قوله تعالى : { لِّمَن مَّا فِي السَّمَوَاتِ } : " لمَنْ " خبرٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديم ؛ لاشتماله على ما له صدرُ الكلام فإنَّ " مَنْ " استفهامية والمبتدأ " ما " وهي بمعنى الذي ، والمعنى : لمن استقر الذي في السماوات . وقوله : { قُل للَّهِ } قيل : إنما أمَرَه أن يجيب وإن كان المقصود أن يُجيب غيرُه ؛ ليكون أولَ مَنْ بادر الاعتراف بذلك ، وقيل : لمَّا سألهم كأنهم قالوا : لمن هو ؟ فقال الله : قل لله ، ذكره الجرجاني . فعلى هذا قوله : " قل لله " جواب للسؤال المضمر الصادر من جهة الكفار ، وهذا بعيدٌ ، لأنهم لم يكونوا يشكُّون في أنه لله ، وإنما هذا سؤال تبكيت وتوبيخ ، ولو أجابوا لم يَسَعْهم أن يُجيبوا إلا بذلك . وقوله " لله " خبر مبتدأ محذوف ، أي هو أو ذلك لله .

قوله : { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ } أي قضى وأوجب إيجابَ تَفَضُّلٍ لا أنه مستحق عليه تعالى . وقيل : معناه القسم ، وعلى هذا فقوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } جوابُه ؛ لِما تضمن من معنى القسم ، وعلى هذا فلا توقُّفَ على قوله " الرحمة " قال الزجاج : " إن الجملة من قوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } في محل النصب على أنها بدل من " الرحمة " ، لأن فَسَّر قوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } بأنه أمهلكم وأمدَّ لكم في العمر والرزق مع كفركم ، فهو تفسير للرحمة . وقد ذكر الفراء هذين الوجهين : أعني أن الجملة تَمَّتْ عند قوله " الرحمة " أو أن " ليجمعنكم " بدلٌ منها فقال : " إن شئت جعلت الرحمة غايةَ الكلام ثم استأنفت بعدها " ليجمعنكم " وإن شِئْتَ جَعَلْتَها في موضع نصب كما قال :

{ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ } [ الأنعام : 54 ] . قلت : واستشهاده بهذه الآيةِ حسن جداً .

ورَدَّ ابن عطية هذا بأنه يلزم دخولُ نونِ التوكيد في الإِيجاب قال : " وإنما تدخل على الأمر والنهي وجواب القسم " . ورَدَّ الشيخ حصر ابن عطية وردَ نون التوكيد فيما ذكر . وهو صحيح ، وردَّ كونَ " ليجمعنَّكم " بدلاً من الرحمة بوجه آخر ، وهو أنَّ " ليجمعنَّكم " جوابُ قسمٍ ، وجملة الجواب وحدها لا موضع لها من الإِعراب ، إنما يُحْكَمُ على موضع جملتي القسم والجواب بمحلِّ الإِعراب " . قلت : وقد خلط مكي المذهبين وجعلهما مذهباً واحداً فقال : " ليجمعنَّكم " في موضع نصبٍ على البدل من " الرحمة " واللام لام القسم . فهي جواب " كتب " لأنه بمعنى : أوجب ذلك على نفسه ، ففيه معنى القسم ، وقد يظهر جوابٌ عما أورده الشيخ على غير مكي ، وذلك أنهم جعلوا " ليجمعنَّكم " بدلاً من " الرحمة " ، يعني هي وقسيمها المحذوف ، واستغنوا عن ذكر القسم بها ؛ لأنها مذكورةٌ في اللفظ ، فكأنهم قالوا : وجملة القسم في محل نصب بدلاً من الرحمة ، وكما يقولون جملة القسم ويستغنون به عن ذِكْرِهم جملةَ الجواب كذلك يستغنون بالجواب عن ذكر القسم لاسيما وهو غير مذكور .

وأمَّا مكي فلا يظهر هذا جواباً له ؛ لأنه نصَّ على أنه جوابٌ ل " كَتَبَ " فَمِنْ حيث جعله جواباً لكَتَبَ لا محلَّ له ، ومن حيث جَعَلَه بدلاً كان مَحَلُّه النصب فتنافيا . والذي ينبغي في هذه الآية أن يكون الوقفُ عند قوله " الرحمة ، وقوله " ليجمعنَّكم " جواب قسم محذوف ، اي : والله ليجمعنكم ، والجملة القسمية لا تعلُّق لها بما قبلها من حيث الإِعراب ، وإن تعلَّقَتْ به من حيث المعنى .

و " إلى " على بابها أي : ليجمعنَّكم منتهين إلى يوم القيامة . وقيل : هي بمعنى اللام كقوله : { إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ } [ آل عمران : 9 ] وقيل : بمعنى " في " أي : ليجمعنَّكم في يوم القيامة . وقيل : هي زائدة أي : ليجمعنكم يوم القيامة ، وقد يشهد له قراءة من قرأ { تهوى إليهم } بفتح الواو أنه ضرورةَ هنا إلى ذلك .

قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } تقدم نظيره في أول البقرة . والجملة حال من " يوم " ، والضمير في " فيه " يعود على اليوم ، وقيل : يعود على الجمع المدلول عليه بالفعل لأنه رَدٌّ على منكري الحشر .

قوله : { الَّذِينَ خَسِرُواْ } فيه ستة أوجه ، أحدها : أنه منصوبٌ بإضمار " أذمُّ " وقدَّره الزمخشري ب أريد ، وليس بظاهر . الثاني : أنه مبتدأ أخبر عنه بقوله { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وزيدت الفاءُ في خبره لِما تضمَّن من معنى الشرط ، قاله الزجاج كأنه قيل : مَنْ يخسرْ نفسه فهو لا يؤمن . الثالث : أنه مجرور على أنه نعت للمكذبين . الرابع : أنه بدل منهم ، وهذان الوجهان بعيدان . الخامس : أنه منصوبٌ على البدل من ضمير المخاطب ، وهذا قد عَرْفْتَ ما فيه غيرَ مرَّةٍ ، وهو أنه هل يُبْدَل من ضمير الحاضر بدلُ كل من كل في غير إحاطة ولا شمول أم لا ؟ ومذهب الأخفش جوازه ، وقد ذكرْنا دليل الجمهور ودلائله وما أُجيب عنها فأغنى عن إعادتها . وردَّ المبرد عليه مذهبه بأنه البدل من ضمير الخطاب لا يجوز ، كما لا يجوز : " مررت بك زيدٍ " وهذا عجيب ؛ لأنه استشهد بمحل النزاع وهو : مررت بك زيدٍ . ورَدَّ ابنُ عطية ردَّه فقال : " ما في الآية مخالفٌ للمثال ؛لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني ، فإذا قلت : " مررت بك زيدٍ " فلا فائدة في الثاني ، وقوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } يصلح لمخاطبة الناس كافةً فيفيدنا إبدال " الذين " من الضمير أنهم هم المختصُّون بالخطاب ، وخُصُّوا على جهة الوعيد ، ويجيء هذا إبدالَ البعض من الكل " .

قال الشيخ : " هذا الردُّ ليس بجيد لأنه إذا جَعَلْنا " ليجمعنَّكم " صالحاً لخطاب جميع الناس كان " الذين " بدل بعض ، ويحتاج إذ ذاك إلى ضميرٍ ، تقديره : خسروا أنفسهم منهم .

وقوله " فيفيدنا إبدال الذين من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخُصُّوا على جهة الوعيد " وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل ، فتناقض أول كلامه مع آخره ؛ لأنه من حيث الصلاحيةُ بدل بعض ، ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدلَ كل فتناقضا " . قلت : ما أبعدَه عن التناقض ، لأن بدل البعض من الكل من جملة المخصِّصات كالتخصُّص بالصفة والغاية والشرط ، نصَّ أهل العلم على ذلك ، فإذا تقرر هذا فالمبدل منه بالنسبة إلى اللفظ في الظاهر عام ، وفي المعنى ليس المراد به إلا ما أراده المتكلم فإذا ورد : " اقتلوا المشركين بني فلان " مثلاً فالمشركون صالح لكل مشرك من حيث اللفظ ، ولكنَّ المراد به بنو فلان ، فالعموم في اللفظ والخصوص في المعنى ، فكذا قول أبي محمد يَصْلُح لمخاطبة الناس ، معناه أنه يَعُمُّهم لفظاً . وقوله " فيفيدنا إبدال الضمير إلى آخره " هذا هو المخصِّص فلا يجيء تناقضٌ البتةَ ، وهذا مقرر في علم أصول الفقه .

السادس : أنه مرفوع على الذمِّ ، قاله الزمخشري ، وعبارته فيه وفي الوجه الأول : " نصبٌ على الذمِّ أو رفعٌ ، أي : أريد الذين خسروا أنفسهم ، أو أنتم خسروا أنفسهم " انتهى . قلت : إنما قَدَّر المبتدأ " أنتم " ليرتبط مع قوله " ليجمعنَّكم " وقوله " خسروا أنفسهم " من مراعاة الموصول ، ولو قال : " أنتم الذين خسروا أنفسهم " مراعاةً للخطاب لجاز ، تقول : أنت الذي قعد ، وإن شئت : قَعَدْت .