فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

{ قل لمن ما في السموات والأرض } هذا احتجاج عليهم قاطع ، وتبكيت لهم ساطع ، لا يقدرون على التخلص منه أصلا { ولمن } خبر مقدم والمبتدأ ما هي بمعنى الذي ، وجملة { قل لله } تقرير لهم وتنبيه على أنه المتعين للجواب بالإتفاق بحيث لا يتأتى لأحد أن يجيب بغيره كما نطق به قوله { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } . وإذا ثبت أن له ما في السموات والأرض إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقوبة ولكنه { كتب على نفسه الرحمة } أي : وعد بها فضلا منه وتكرما لا أنه مستحق عليه وذكر النفس هنا عبارة عن تأكد وعده وارتفاع الوسائط دونه . وفي الكلام ترغيب للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وتسكين خواطرهم بأنه رحيم بعباده لا يعالجهم بالعقوبة وأنه يقبل منهم الإنابة والتوبة ، ومن رحمته لهم إرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأدلة .

وقد أخرج مسلم وأحمد وغيرهما عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( خلق الله يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة منها رحمة يتراحم بها الخلق وتسعة وتسعون ليوم القيامة فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة ) {[679]} .

وثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما قضى الله الخلق وكتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي ) {[680]} وقد روي من طرق أخرى بنحو هذا .

قيل معنى الجملة القسم ، وعلى هذا فقوله { ليجمعنكم } جوابه لما تضمنه معنى القسم وقال الزجاج : إنها بدل من الرحمة لأنه فسره بأنه أمهلكم وأمد لكم في العمر والرزق مع كفركم ، فهو تفسير للرحمة وقد ذكره الفراء أيضا ورده ابن عطية وقال : هو جواب قسم محذوف أي والله ليجمعنكم .

وقيل المعنى ليجمعنكم في القبور مبعوثين أو محشورين وقيل اللام بمعنى أن أي أن يجمعنكم كما في قوله تعالى : { ليسجننه } أي أن يسجنوه وقيل زائدة وقيل : إن جملة ليجمعنكم مسوقة للترهيب بعد الترغيب وللوعيد بعد الوعد ، أي إن أمهلكم برحمته فهو مجازيكم يجمعكم ثم يعاقب من يستحق عقوبته من العصاة .

{ إلى يوم القيامة } إلى بمعنى ( في ) وقيل المعنى في قبوركم إلى اليوم الذي أنكرتموه وهو يوم القيامة { لا ريب فيه } أي لا شك في اليوم أو في الجمع .

{ الذين خسروا أنفسهم } أي ليجمعن المشركين الذين غبنوا أنفسهم باتخاذهم الأصنام فعرضوا أنفسهم لسخط الله وأليم عقابه فكانوا كمن خسر شيئا ، وأصل الخسار الغبن يقال خسر الرجل إذا غبن في بيعه { فهم لا يؤمنون } لما سبق عليهم القضاء بالخسران فهو الذي حملهم على الامتناع من الإيمان بحيث لا سبيل لهم إليه أصلا .


[679]:مسلم 2753.
[680]:صحيح الجامع الصغير 5090.