الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

قوله سبحانه : { قُل لِّمَن مَّا فِي السموات والأرض قُل لِلَّهِ }[ الأنعام :12 ] .

قال بعض أَهْلِ التَّأوِيلِ : تَقْدِيرُ الكلام : قُلْ لِمَنْ مَا فِي السموات والأرض ، فإذا تحيروا فلم يُجِيبُوا ( قل للَّه ) ، والصحيح من التَّأويل أن اللَّه عزَّ وَجَلَّ أمر نبيه عليه السلام أن يَقْطَعَهُمْ بهذه الحُجَّةِ ، والبرهان القطعي ، الذي لا مُدَافَعَةَ فيه عندهم ، ولا عند أَحَدٍ ليعتقدَ هذا المعتقد الذي بينه وبينهم ، ثم يَتَرَكَّب احْتِجَاجُهُ عليه ، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : يأيها الكافرون العَادِلُونَ بربهم ، لمن ما في السموات والأَرْضِ ، ثم سَبَقَهُمْ فقال : ( للَّه ) أي لا مُدَافَعَةَ في هذا عندكم ، ولا عند أحد .

ثم ابتدأ يخبر عن اللَّه تعالى : { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } معناه : قضاها وأَنْفَذَهَا ، وفي هذا المعنى أحاديث صَحِيحَةٌ ، ففي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ » ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ( جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مَائَةً جُزْءٍ ، فأمسك عنده تِسْعَةً وَتِسْعِينَ ، وَأنْزَلَ في الأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً ، فمن ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلاَئِقُ ، حتى تَرْفَعُ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا ، خَشْيَةَ أن تُصِيبَهُ ) . ولمسلم في طَرِيقٍ آخر : " كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طبَاقُ مَا بَيْنِ السَّمَاءِ والأَرْضِ ، فإذا كان يَوْمُ القِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بهذه الرَّحْمة " . وخرج مسلم ، والبخاري ، وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لما خَلَقَ اللَّه الخَلْقَ كَتَبَ في كِتَابٍ ، فهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ : إن رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي ) . وفي طريق : ( سَبَقَتْ غَضَبِي ) إلى غير ذلك من الأحاديث ، انتهى .

قال ( ع ) : فما أشقى مَنْ لم تَسَعْهُ هذه الرَّحَمَاتُ ، تَغَمَّدَنَا اللَّهِ بِفَضْلٍ منه .

ويتضمن هذا الإخبار عن اللَّه سبحانه بأنه كتب الرَّحْمَةَ لتأنيس الكفار ، ونفي يَأْسهم من رَحْمَةِ اللَّه إذا أَنَابُوا .

واللام في قوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } لام قَسَم ، والكلام مستأنف ، وهذا أظهر الأَقْوَالِ وأصحها .

وقوله سبحانه : { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }[ الأنعام :12 ] .

{ الذين } رفع بالابتداء ، وخبره : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .