قوله تعالى : { إنما حرم عليكم الميتة } . قرأ أبو جعفر الميتة في كل القرآن بالتشديد والباقون يشددون البعض . والميتة كل ما لم تدرك ذكاته مما يذبح .
قوله تعالى : { والدم } . أراد بالدم الجاري يدل عليه قوله تعالى ( أو دماً مسفوحاً ) . واستثنى الشرع من الميتة السمك والجراد ، ومن الدم الكبد والطحال فأحلها .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحلت لنا ميتتان ودمان ، الميتتان الحوت والجراد ، والدمان ، أحسبه قال : الكبد والطحال " .
قوله تعالى : { ولحم الخنزير } . أراد به جميع أجزائه فعبر عن ذلك باللحم لأنه معظمه .
قوله تعالى : { وما أهل به لغير الله } . أي ما ذبح للأصنام والطواغيت ، وأصل الإهلال رفع الصوت . وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح . وإن لم يجهر بالتسمية مهل . وقال الربيع بن أنس وغيره وما أهل به لغير الله قال ما ذكر عليه اسم غير الله .
قوله تعالى : { فمن اضطر } . بكسر النون وأخواته قرأ عاصم وحمزة ، ووافق أبو عمرو إلا في اللام والواو مثل ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) " ويعقوب " إلا في الواو ، ووافق ابن عامر في التنوين ، والباقون كلهم بالضم ، فمن كسر قال : لأن الجزم يحرك إلى الكسر ، ومن ضم فضمه أول الفعل نقل حركتها إلى ما قبلها ، وأبو جعفر بكسر الطاء ، ومعناه فمن اضطر إلى أكل ميتة أي أحوج وألجئ إليه .
قوله تعالى : { غير } . نصب على الحال ، وقيل على الاستثناء وإذا رأيت غير ، لا يصلح في موضعها " إلا " فهي حال ، وإذا صلح في موضعها " إلا " فهي استثناء .
قوله تعالى : { باغ ولا عاد } . أصل البغي قصد الفساد ، يقال بغى الجرح يبغي بغياً إذا ترامى إلى الفساد ، وأصل العدوان الظلم ومجاوزة الحد يقال عدا عليه عدواً وعدواناً إذا ظلم . واختلفوا في معنى قوله غير باغ ولا عاد فقال بعضهم : غير باغ أي : خارج على السلطان ، ولا عاد : متعد عاص بسفره ، بأن خرج لقطع الطريق أو لفساد في الأرض . وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير . وقالوا لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة إذا اضطر إليها ولا أن يترخص المسافر حتى يتوب ، وبه قال الشافعي : لأن إباحته له إعانة له على فساده ، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل واختلفوا في تفصيله . فقال الحسن وقتادة : غير باغ بأكله من غير اضطرار . ولا عاد أي لا يعدو لشبعه . وقيل غير باغ أي غير طالبها وهو يجد غيرها ولا عاد أي غير متعد ما حد له فما يأكل حتى يشبع ، ولكن يأكل منها قوتاً مقدار ما يمسك رمقه . وقال مقاتل بن حيان : غير باغ أي مستحل لها . ولا عاد أي متزود منها . وقيل غير باغ أي غير مجاوز للقدر الذي أحل له ، ولا عاد أي لا يقصر فيما أبيح له فيدعه ، قال مسروق : من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار .
واختلف العلماء في مقدار ما يحل للمضطر أكله من الميتة ، فقال بعضهم : مقدار ما يسد رمقه . وهو قول أبو حنيفة رضي الله عنه وأحد قولي الشافعي . والقول الآخر يجوز أن يأكل حتى يشبع وبه قال مالك رحمه الله تعالى . وقال سهل بن عبد الله : غير باغ مفارق للجماعة ، ولا عاد : مبتدع مخالف للسنة ، ولم يرخص للمبتدع في تناوله المحرم عند الضرورة .
قوله تعالى : { فلا إثم عليه } . فلا حرج عليه في أكلها .
ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث فقال { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } وهي : ما مات بغير تذكية شرعية ، لأن الميتة خبيثة مضرة ، لرداءتها في نفسها ، ولأن الأغلب ، أن تكون عن مرض ، فيكون زيادة ضرر{[118]} واستثنى الشارع من هذا العموم ، ميتة الجراد ، وسمك البحر ، فإنه حلال طيب .
{ وَالدَّمَ } أي : المسفوح كما قيد في الآية الأخرى .
{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } أي : ذبح لغير الله ، كالذي يذبح للأصنام والأوثان من الأحجار ، والقبور ونحوها ، وهذا المذكور غير حاصر للمحرمات ، جيء به لبيان أجناس الخبائث المدلول عليها بمفهوم قوله : { طَيِّبَاتِ } فعموم المحرمات ، تستفاد من الآية السابقة ، من قوله : { حَلَالًا طَيِّبًا } كما تقدم .
وإنما حرم علينا هذه الخبائث ونحوها ، لطفا بنا ، وتنزيها عن المضر ، ومع هذا { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي : ألجئ إلى المحرم ، بجوع وعدم ، أو إكراه ، { غَيْرَ بَاغٍ } أي : غير طالب للمحرم ، مع قدرته على الحلال ، أو مع عدم جوعه ، { وَلَا عَادٍ } أي : متجاوز الحد في تناول ما أبيح له ، اضطرارا ، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال ، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها ، { فَلَا إِثْمَ } [ أي : جناح ] عليه ، وإذا ارتفع الجناح الإثم{[119]} رجع الأمر إلى ما كان عليه ، والإنسان بهذه الحالة ، مأمور بالأكل ، بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة ، وأن يقتل نفسه .
فيجب ، إذًا عليه الأكل ، ويأثم إن ترك الأكل حتى مات ، فيكون قاتلا لنفسه .
وهذه الإباحة والتوسعة ، من رحمته تعالى بعباده ، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين ، وكان الإنسان في هذه الحالة ، ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها - أخبر تعالى أنه غفور ، فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال ، خصوصا وقد غلبته الضرورة ، وأذهبت حواسه المشقة .
وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة : " الضرورات تبيح المحظورات " فكل محظور ، اضطر إليه الإنسان ، فقد أباحه له ، الملك الرحمن . [ فله الحمد والشكر ، أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا ] .
وقوله - تعالى - { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } بيان لما حرمه الله - تعالى - علينا من المطاعم رعاية لمنفعتنا .
و { الميتة } في عرف الشرع : ما مات حتف أنفه ، أو قتل على هيئة غير مشروعة ، فيدخل فيها : المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما عدا عليها السبع ، ويدخل في حكم الميتة ما قطع من جسم الحيوان الحي للحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي واقد الليثي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة " .
وكان الأكل من الميتة محرماً ، لفساد جسمها بذبول أجزائه وتعفنها ، ولأنها أصبحت بحالة تعافها الطباع السليمة لقذارتها وضررها .
قال الآلوسي : وأضاف - سبحانه - الحرمة إلى العين - مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي صفات فعل المكلف وليست مما تتعلق بالأعيان - إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده ، حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ ، وخرج عن حكم الميتة السمك والجراد ، للحديث الذي أخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد والكبد والطحال " وللعرف أيضاً ، فإنه إذا ما قال القائل : أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب ، واستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافاً لمن أباحه " .
والدم المحرم : ما يسيل من الحيوان الحي كثيراً كان أم قليلا وكذلك يحرم من دم الحيوان ما جرى منه بعد تذكيته ، وهو الذي عبر عنه القرآن بالمسفوح في قوله - تعالى - : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً . . . } والدم المسفوح : هو الدم الجاري المهراق من البهيمة بعد ذبحها .
أما الدم المتبقي في أجزاء لحم البهيمة بعد تذكيتها فلا شيء فيه .
قال القرطبي : وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوي ، ومعفو عما تعم به البلوي . والذي تعم به البلوي هو الدم في اللحم وعروقه . . . وقد روت عائشة - رضي الله عنها - قالت : كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة ، والإصر والمشقة في الدين موضوع ، وهذا أصل في الشرع .
وقد عرف عن بعض العرب في الجاهلية أنهم كانوا يأخذون الدم من البهائم عند ذبحها ، فيضعونه في أمعائها ثم يشوونها بالنار ويأكلونها ويسمون ذلك بالفصد .
قال بعضهم : والحكمة في تحريم الدم أنه تستقذره النفوس الكريمة ، ويفضي شربه أو أكله إلى الإِضرار بالنفس ، وفضلا عن ذلك فإن تعاطيه يورث ضراروة في الإِنسان ، وغلظة في الطباع فيصير كالحيوان المفترس ، وهذا مناف لمقصد الشريعة التي جاءت لإتمام مكارم الأخلاق .
وحرمة الخنزير شاملة للحمة وشحمه وجلده . وإنما خص لحمه بالذكر ، لأنه الذي يقصد بالأكل ، ولأن سائر أجزاء الخنزير كالتابعة للحمه . وبعض الفقهاء يرى أنه لا بأس من الانتفاع بشعر الخنزير في الخرازة - أي : خياطة الجلود وغيرها - ، وبعضهم كره ذلك .
ومن الحكم في تحريم لحم الخنزير قذاراته ، واشتماله على دودة تضر ببدن آكله وقد أثبت ذلك العلم الحديث .
وما يقوله قوم من أن وسائل العلم الحديث قد تقدمت ، وصار في الإِمكان التغلب على ما في لحم الخنزير من أضرار هذا القول مردود بأن العلم الحديث قد احتاج إلى ثلاثة عشر قرناً ليكتشف آفة واحدة في لحم الخنزير ، فمن ذا الذي يجزم بأنه ليس هناك آفات أخرى في هذا اللحم لم يعرفها العلم حتى الآن ؟
إن الشريعة التي سبقت العلم الحديث بأكثر من ثلاثة عشر قرناً أولى بالاتباع ، وأجدر بالطاعة فيما أحلته وحرمته مما يقوله الناس ، لأنها من عند الله العليم بشئون عباده ، الخبير بما ينفعهم وبما يضرهم .
وقوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } معطوف على ما قبله من المحرمات . و { أُهِلَّ } من الإِهلال ، وهو رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقاً ، ومنه إهلال الصبي ، والإِهلال بالحج . وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا عليها أسماءها - كاللات والعزى - ورفعوا بها أصواتهم ، وسمى ذلك إهلالا .
فالمراد بما أهل به لغير الله : ما ذبح للأصنام وغيرها ، ومنه ما يذبحه المجوسي للنار . ومنه عند جمهور العلماء : ذبائح أهل الكتاب إذا ذكر عليها اسم عزير أو عيسى ، لأنها مما أهل به لغير الله .
وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام ، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقاً ، لعموم قوله - تعالى - في سورة المائدة سوهي من آخر سورة نزولا : ( وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ ) أي ذبائحهم ، وهو - سبحانه - يعلم ما يقولون .
وروى الحسن عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إذا ذكر الكتابي اسم غير الله على ذبيحته وأنت تسمع فلا تأكل ، فإن غاب عنك فكل ، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون .
وقد روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " إن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : سموا عليه أنتم وكلوه . قالت : وكانوا حديثي عهد بكفر " .
فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه ، بل المحرم ما علم أن غير اسم الله من الأوثان والأنداد ونحو ذلك قد ذكر عليه .
فأنت ترى أن تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير كان لاستقذار الأكل من هذه الثلاثة ، أي : لعله ذاتية فيها ، أما تحريم ما أهل به لغير الله فليس لعلة فيه ، ولكن للتوجه به إلى غير الله .
وهي علة روحية تنافي سلامة القلب ، وطهارة الروح ، ووحدة المتجه فما ذكر عليه سوى اسم الله من الذبائح ملقح بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية ، وفي ذلك حض للناس على إخلاص العبادة لله - تعالى - ، وزجدر لهم عن التقرب إلى أحد سواه .
وقوله - تعالى : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } بيان لحالات الضرورة التي يباح للإِنسان فيها أن يأكل من تلك المحرمات .
و { اضطر } من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء . يقال : اضطره إلى هذا الشيء . أي : أحوجه وألجأه إليه مأخوذ من الإضرار ، وهو حمل الإِنسان على أمر بكرهه ، وقهره عليه بقوة يناله بدفعها الهلاك .
و { بَاغٍ } من البغاء وهو الطلب . تقول : بغيته بغاء وبغيا وبغية أي : طلبته .
و { عَادٍ } اسم فاعل بمعنى متعد ، تقول . عدا طوره إذا تجاوز حده وتعداه إلى غير فهو عاد ، ومنه قوله - تعالى - في شأن قوم لوط { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } و { غَيْرَ } منصوب على الحال من الضمير المستتر في { اضطر } وهي هنا بمعنى النفي ولذا عطف عليها لا .
والمعنى : فمن ألجأته ضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات : حالة كونه غير باغ : أي غير طالب للمحرم وهو يجد غيره ، أو غير طالب له لإِشباع لذته ، أو غير طالب له على جهة الاستئثار به على مضطر آخر ، أو غير ساع في فساد { وَلاَ عَادٍ } أي : وغير متجاوز ما يسد الجوع ، ويحفظ الحياة { فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : فلا إثم عليه في أكله من هذه المحرمات .
وبهذا نرى لونا من ألوان سماحهة الإِسلام ويسره في تشريعاته ، التي أقامها الله - تعالى - على رفع الحرج ، ودفع الضرر ، قال - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وقال - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل قصد به الامتنان . أي : إن الله - تعالى - موصوف بهذين الوصفين الجليلين ، ومن كان كذلك كان من شأنه أن يعفو عن الخطايا ، ويغفر الذنوب ، ويشرع لعباده ما فيه يسر لا ما فيه عسر .
هذا ، وظاهر هذه الآية الكريمة يقتضي أنه ليس هناك محرم من المطعومات سوى هذه الأربعة ، لكنا نعلم في الشرع أن هناك مطعومات أخرى قد حرم على المسلم تناولها كلحوم الحمر الأهلية ، فعلى هذا تكون لفظة " إنما " متروكة الظاهر في العمل - كما قال الإِمام الرازي - أي : أن الحصر فيها غير مقصود وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - في سورة الأنعام :
{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
ولما امتن تعالى عليهم برزقه ، وأرشدهم إلى الأكل من طيبه ، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة ، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية ، وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو مُتَردِّية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع .
وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } [ المائدة : 96 ] على ما سيأتي ، وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله ، عليه السلام ، في البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وروى الشافعي وأحمد وابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعًا : " أحل لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد ، والكبد والطحال " وسيأتي تقرير ذلك في سورة المائدة{[3058]} .
ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره ؛ لأنه جزء منها . وقال مالك في رواية : هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة ، وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة ، وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس ، فقال القرطبي في تفسيره هاهنا : يخالط اللبن منها يسير ، ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع . وقد روى ابن ماجة من حديث سيف بن هارون ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء ، فقال : " الحلال ما أحل الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه " {[3059]} .
وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير ، سواء ذُكِّي أو مات حَتْف أنفه ، ويدخُلُ شَحْمه في حكم لحمه{[3060]} إما تغليبًا أو أن اللحم يشمل ذلك ، أو بطريق القياس على رأي . و[ كذلك ]{[3061]} حَرَّم عليهم ما أهِلَّ به لغير الله ، وهو ما ذبح على غير اسمه{[3062]} تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ، ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له . [ وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري : أنه سئل عن امرأة عملت عرسًا للعبها فنحرت فيه جزورًا فقال : لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم ، وأورد القرطبي عن عائشة أنها سئلت عما يذبحه العجم في أعيادهم فيهدون منه للمسلمين ، فقالت : ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوه ، وكلوا من أشجارهم ]{[3063]} . ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها ، عند فقد غيرها من الأطعمة ، فقال : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } أي : في غير بغي ولا عدوان ، وهو مجاوزة الحد { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : في أكل ذلك { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقال مجاهد : فمن اضطر غير باغ ولا عاد ، قاطعًا للسبيل ، أو مفارقًا للأئمة ، أو خارجًا في معصية الله ، فله الرخصة ، ومن خرج باغيًا أو عاديًا أو في معصية الله فلا رخصة له ، وإن اضطر إليه ، وكذا روي عن سعيد بن جبير .
وقال سعيد - في رواية عنه - ومقاتل بن حيان : غير باغ : يعني غير مستحله . وقال السدي : غير باغ يبتغي فيه شهوته ، وقال عطاء الخراساني في قوله : { غَيْرَ بَاغٍ } [ قال ]{[3064]} لا يشوي من الميتة ليشتهيه ولا يطبخه ، ولا يأكل إلا العُلْقَة ، ويحمل معه ما يبلغه الحلال ، فإذا بلغه ألقاه [ وهو قوله : { وَلا عَادٍ } يقول : لا يعدو به الحلال ]{[3065]} .
وعن ابن عباس : لا يشبع منها . وفسره السدي بالعدوان . وعن ابن عباس { غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } قال : { غَيْرَ بَاغٍ } في الميتة { وَلا عَادٍ } في أكله . وقال قتادة : فمن اضطر غير باغ ولا عاد في{[3066]} أكله : أن يتعدى حلالا إلى حرام ، وهو يجد عنه مندوحة .
وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي : أكره على ذلك بغير اختياره .
مسألة : ذكر القرطبي إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى ، فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بلا خلاف - كذا قال - ثم قال : وإذا أكله ، والحالة هذه ، هل يضمنه أم لا ؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك ، ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية : سمعت عباد بن العنزي{[3067]} قال : أصابتنا عامًا مخمصة ، فأتيت المدينة{[3068]} . فأتيت حائطا ، فأخذت سنبلا ففركته وأكلته ، وجعلت منه في كسائي ، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال للرجل : " ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساعيا ، ولا علمته إذ كان جاهلا " {[3069]} . فأمره فرد إليه ثوبه ، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق ، إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة : من ذلك حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق ، فقال : " من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة{[3070]} فلا شيء عليه " {[3071]} الحديث .
وقال مقاتل بن حيان في قوله : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فيما أكل من اضطرار ، وبلغنا - والله أعلم - أنه لا يزاد{[3072]} على ثلاث لقم .
وقال سعيد بن جبير : غفور لما أكل من الحرام . رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار .
وقال وَكِيع : حدثنا الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : من{[3073]} اضطُرَّ فلم يأكل ولم يشرب ، ثم مات دخل النار .
[ وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة . قال أبو الحسن الطبري - المعروف بالكيا الهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال : وهذا هو الصحيح عندنا ؛ كالإفطار للمريض في رمضان ونحو ذلك ]{[3074]} .