التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

وقوله - تعالى - { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } بيان لما حرمه الله - تعالى - علينا من المطاعم رعاية لمنفعتنا .

و { الميتة } في عرف الشرع : ما مات حتف أنفه ، أو قتل على هيئة غير مشروعة ، فيدخل فيها : المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما عدا عليها السبع ، ويدخل في حكم الميتة ما قطع من جسم الحيوان الحي للحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي واقد الليثي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة " .

وكان الأكل من الميتة محرماً ، لفساد جسمها بذبول أجزائه وتعفنها ، ولأنها أصبحت بحالة تعافها الطباع السليمة لقذارتها وضررها .

قال الآلوسي : وأضاف - سبحانه - الحرمة إلى العين - مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي صفات فعل المكلف وليست مما تتعلق بالأعيان - إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده ، حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ ، وخرج عن حكم الميتة السمك والجراد ، للحديث الذي أخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد والكبد والطحال " وللعرف أيضاً ، فإنه إذا ما قال القائل : أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب ، واستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافاً لمن أباحه " .

والدم المحرم : ما يسيل من الحيوان الحي كثيراً كان أم قليلا وكذلك يحرم من دم الحيوان ما جرى منه بعد تذكيته ، وهو الذي عبر عنه القرآن بالمسفوح في قوله - تعالى - : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً . . . } والدم المسفوح : هو الدم الجاري المهراق من البهيمة بعد ذبحها .

أما الدم المتبقي في أجزاء لحم البهيمة بعد تذكيتها فلا شيء فيه .

قال القرطبي : وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوي ، ومعفو عما تعم به البلوي . والذي تعم به البلوي هو الدم في اللحم وعروقه . . . وقد روت عائشة - رضي الله عنها - قالت : كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة ، والإصر والمشقة في الدين موضوع ، وهذا أصل في الشرع .

وقد عرف عن بعض العرب في الجاهلية أنهم كانوا يأخذون الدم من البهائم عند ذبحها ، فيضعونه في أمعائها ثم يشوونها بالنار ويأكلونها ويسمون ذلك بالفصد .

قال بعضهم : والحكمة في تحريم الدم أنه تستقذره النفوس الكريمة ، ويفضي شربه أو أكله إلى الإِضرار بالنفس ، وفضلا عن ذلك فإن تعاطيه يورث ضراروة في الإِنسان ، وغلظة في الطباع فيصير كالحيوان المفترس ، وهذا مناف لمقصد الشريعة التي جاءت لإتمام مكارم الأخلاق .

وحرمة الخنزير شاملة للحمة وشحمه وجلده . وإنما خص لحمه بالذكر ، لأنه الذي يقصد بالأكل ، ولأن سائر أجزاء الخنزير كالتابعة للحمه . وبعض الفقهاء يرى أنه لا بأس من الانتفاع بشعر الخنزير في الخرازة - أي : خياطة الجلود وغيرها - ، وبعضهم كره ذلك .

ومن الحكم في تحريم لحم الخنزير قذاراته ، واشتماله على دودة تضر ببدن آكله وقد أثبت ذلك العلم الحديث .

وما يقوله قوم من أن وسائل العلم الحديث قد تقدمت ، وصار في الإِمكان التغلب على ما في لحم الخنزير من أضرار هذا القول مردود بأن العلم الحديث قد احتاج إلى ثلاثة عشر قرناً ليكتشف آفة واحدة في لحم الخنزير ، فمن ذا الذي يجزم بأنه ليس هناك آفات أخرى في هذا اللحم لم يعرفها العلم حتى الآن ؟

إن الشريعة التي سبقت العلم الحديث بأكثر من ثلاثة عشر قرناً أولى بالاتباع ، وأجدر بالطاعة فيما أحلته وحرمته مما يقوله الناس ، لأنها من عند الله العليم بشئون عباده ، الخبير بما ينفعهم وبما يضرهم .

وقوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } معطوف على ما قبله من المحرمات . و { أُهِلَّ } من الإِهلال ، وهو رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقاً ، ومنه إهلال الصبي ، والإِهلال بالحج . وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا عليها أسماءها - كاللات والعزى - ورفعوا بها أصواتهم ، وسمى ذلك إهلالا .

فالمراد بما أهل به لغير الله : ما ذبح للأصنام وغيرها ، ومنه ما يذبحه المجوسي للنار . ومنه عند جمهور العلماء : ذبائح أهل الكتاب إذا ذكر عليها اسم عزير أو عيسى ، لأنها مما أهل به لغير الله .

وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام ، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقاً ، لعموم قوله - تعالى - في سورة المائدة سوهي من آخر سورة نزولا : ( وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ ) أي ذبائحهم ، وهو - سبحانه - يعلم ما يقولون .

وروى الحسن عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إذا ذكر الكتابي اسم غير الله على ذبيحته وأنت تسمع فلا تأكل ، فإن غاب عنك فكل ، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون .

وقد روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " إن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : سموا عليه أنتم وكلوه . قالت : وكانوا حديثي عهد بكفر " .

فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه ، بل المحرم ما علم أن غير اسم الله من الأوثان والأنداد ونحو ذلك قد ذكر عليه .

فأنت ترى أن تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير كان لاستقذار الأكل من هذه الثلاثة ، أي : لعله ذاتية فيها ، أما تحريم ما أهل به لغير الله فليس لعلة فيه ، ولكن للتوجه به إلى غير الله .

وهي علة روحية تنافي سلامة القلب ، وطهارة الروح ، ووحدة المتجه فما ذكر عليه سوى اسم الله من الذبائح ملقح بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية ، وفي ذلك حض للناس على إخلاص العبادة لله - تعالى - ، وزجدر لهم عن التقرب إلى أحد سواه .

وقوله - تعالى : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } بيان لحالات الضرورة التي يباح للإِنسان فيها أن يأكل من تلك المحرمات .

و { اضطر } من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء . يقال : اضطره إلى هذا الشيء . أي : أحوجه وألجأه إليه مأخوذ من الإضرار ، وهو حمل الإِنسان على أمر بكرهه ، وقهره عليه بقوة يناله بدفعها الهلاك .

و { بَاغٍ } من البغاء وهو الطلب . تقول : بغيته بغاء وبغيا وبغية أي : طلبته .

و { عَادٍ } اسم فاعل بمعنى متعد ، تقول . عدا طوره إذا تجاوز حده وتعداه إلى غير فهو عاد ، ومنه قوله - تعالى - في شأن قوم لوط { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } و { غَيْرَ } منصوب على الحال من الضمير المستتر في { اضطر } وهي هنا بمعنى النفي ولذا عطف عليها لا .

والمعنى : فمن ألجأته ضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات : حالة كونه غير باغ : أي غير طالب للمحرم وهو يجد غيره ، أو غير طالب له لإِشباع لذته ، أو غير طالب له على جهة الاستئثار به على مضطر آخر ، أو غير ساع في فساد { وَلاَ عَادٍ } أي : وغير متجاوز ما يسد الجوع ، ويحفظ الحياة { فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : فلا إثم عليه في أكله من هذه المحرمات .

وبهذا نرى لونا من ألوان سماحهة الإِسلام ويسره في تشريعاته ، التي أقامها الله - تعالى - على رفع الحرج ، ودفع الضرر ، قال - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وقال - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل قصد به الامتنان . أي : إن الله - تعالى - موصوف بهذين الوصفين الجليلين ، ومن كان كذلك كان من شأنه أن يعفو عن الخطايا ، ويغفر الذنوب ، ويشرع لعباده ما فيه يسر لا ما فيه عسر .

هذا ، وظاهر هذه الآية الكريمة يقتضي أنه ليس هناك محرم من المطعومات سوى هذه الأربعة ، لكنا نعلم في الشرع أن هناك مطعومات أخرى قد حرم على المسلم تناولها كلحوم الحمر الأهلية ، فعلى هذا تكون لفظة " إنما " متروكة الظاهر في العمل - كما قال الإِمام الرازي - أي : أن الحصر فيها غير مقصود وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - في سورة الأنعام :

{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }