معاني القرآن للفراء - الفراء  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

وقوله : { إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ . . . }

نَصْب لوقوع " حرّم " عليها . وذلك أن قولك " إنا " على وجهين : أحدهما أن تجعل " إنّما " حرفا واحدا ، ثم تُعْمِل الأفعالَ التي تكون بعدها [ في ] الأسماء ، فإن كانت رافعة رفعت ، وإن كانت ناصبة نصبت ؛ فقلت : إنما دخلت دارَك ، وإنما أعجبتني دارُك ، وإنّما مالي مالُك . فهذا حرف واحد .

وأما الوجه الآخَر فأن بجعل " ما " منفصِلة من ( إنّ ) فيكون " ما " على معنى الذي ، فإذا كانت كذلك وَصَلْتَها بما يوصل به الذي ، ثم يرفع الاسم الذي يأتي بعد الصلة ؛ كقولك إنّ ما أخذت مالُكَ ، إِن ما ركبت دابَّتُك . تريد : إن الذي ركبت دابتُك ، وإن الذي أخذت مالك . فأجْرِهما على هذا .

وهو في التنزيل في غير ما موضع ؛ من ذلك قوله تبارك وتعالى : { إِنَّما الل‍ّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ } ، { إِنَّما أَنْت نَذِيرٌ } فهذه حرف واحد ، هي وإنَّ ، لأن " الذي " لا تَحسُن في موضع " ما " .

وأما التي في مذهب ( الذي ) فقوله : { إنَّما صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ } معناه : إِن الذي صنعوا كيدُ ساحرٍ . ولو قرأ قارِئ " إِنما صنعوا كيدَ ساحِرٍ " نصبا كان صوابا إذا جعل إنَّ وما حرفا واحدا . وقوله { إِنَّما اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثَانا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ } قد نصب المودّة قوم ، ورفعها آخَرون على الوجهين اللذين فسَّرت لك . وفي قراءة عبد الله " إنما مودَّةُ بَيْنِكُمْ في الحياةِ الدنيا " فهذه حجَّة لمن رفع المودّة ؛ لأنها مستأنفة لم يوقع الاتّخاذ عليها ، فهو بمنزلة قولك : إن الذي صنعتموه ليس بنافع ، مودّة بينكم ثم تنقطع بعد . فإن شئت رفعت المودّة ب " بين " ؛ وإن شئت أضمرت لها اسما قبلها يرفعها ؛ كقوله " سُورَةٌ أَنْزَلْناها " وكقوله { لم يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ } .

فإذا رأيت " إنَّما " في آخِرها اسم من الناس وأشباههم مما يقع عليه " مَنْ " فلا تجعلنَّ " ما " فيه على جهة ( الذي ) ؛ لأن العرب لا تكاد تجعل " ما " للناس . من ذلك : إنَّما ضربت أخاك ، ولا تقل : أخوك ؛ لأن " ما " لا تكون للناس .

فإذا كان الاسم بعد " إنَّما " وصِلتِها مِن غير الناس جاز فيه لك الوجهان ؛ فقلت : إنَّما سكنت دارَك . وإن شئت : دارُك .

وقد تجعل العرب " ما " في بعض الكلام للناس ، وليس بالكثير . وفي قراءة عبد الله " وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى . والذَّكَرِ والأُنْثَى " وفي قراءتنا " وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثَى " فمن جعل " ما خلق " للذكر والأنثى جاز أن يخفض " الذكرِ والأنثى " : كأنه قال والذي خلق : الذكرِ والأنثى . ومن نصب " الذكر " جعل " ما " و " خلق " كقوله : وخَلْقِه الذكر والأنثى ، يوقع خَلَق عليه . والخفض فيه على قراءة عبد الله حَسَن ، والنصب أكثر .

ولو رفعت " إنّما حَرَّم عليكم الميتةُ " كان وجها . وقد قرأ بعضهم : " إنما حُرِّم عليكم المِّيتةُ " ولا يجوز هاهنا إلا رفع الميتة والدم ؛ لأنك إن جعلت " إنّما " حرفا واحدا رفعت الميتة والدم ؛ لأنه فعل لم يسمَّ فاعله ، وإن جعلت " ما " على جهة ( الذي ) رفعت الميتة والدم ؛ لأنه خبر ل " ما " .

وقوله : { وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ . . . }

الإهلال : ما نودي به لغير الله على الذباحَ [ وقوله ] { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } [ ( غير ) في هذا الموضع حال للمضطرّ ؛ كأنك قلت : فمن اضطرّ لا باغيا ولا عاديا ] فهو له حلال . والنصب ها هنا بمنزلة قوله { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ } ومثله { إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ } و " غير " ها هنا لا ؛ تصلح " لا " في موضعها ؛ لأنّ " لا " تصلح في موضع غير . وإذا رأيت " غير " يصلح " لا " في موضعها فهي مخالفة " لغير " التي لا تصلح " لا " في موضعها .

ولا تحِلّ الميتة للمضطَرّ إذا عدا على الناس بسيفه ، أو كان في سبيل من سُبُل المعاصي . ويقال : إنه لا ينبغي لآكلها أن يشبع منها ، ولا أن يتزوّد منها شيئا . إنما رُخّص له فيما يُمْسِك نَفْسه .