فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

{ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } لما أمرنا الله تعالى في الآية التي تقدمت بأكل الطيبات التي هي الحلالات بين في هذه الآية أنواعا من المحرمات فقال { إنما } وهي كلمة موضوعة للحصر تثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه ، وقد حصرت هاهنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها أي ما حرم عليكم إلا الميتة وهي كل ما فارقه الروح من غير ذكاة .

وقد خصص هذا العموم بمثل حديث ( أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالجراد والحوت ، وأما الدمان فالطحال والكبد ) أخرجه أحمد وابن ماجة والدارقطني والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر ، ومثل حديث جابر في العنبر الثابت في الصحيحين مع قوله تعالى { أحل لكم صيد البحر } فالمراد بالميتة هنا ميتة البر لا ميتة البحر .

وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع حيوانات البحر حيها وميتها ، وقال بعض أهل العلم أنه يحرم من حيوانات البحر ما يحرم شبهه في البر ، وتوقف ابن حبيب في خنزير الماء ، قال ابن القاسم : أنا أتقيه ولا أراه حراما والدم هو الجاري السائل وكانت العرب تجعل الدم في المصارين ثم تشويه وتأكله ، فحرمه الله تعالى .

وقد اتفق العلماء على أن الدم حرام وفي الآية الأخرى { أو دما مسفوحا } فيحمل المطلق على المقيد لأن ما خلط باللحم غير محرم ، قال القرطبي بالإجماع ، وقد روت عائشة أنها كانت تطبخ اللحم فتعلو الصفرة على البرمة من الدم ، فيأكل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره .

وأما لحم الخنزير فظاهر هذه الآية والآية الأخرى أعني قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } أنما المحرم إنما هو اللحم فقط ، وقد أجمعت الأمة على تحريم شحمه كما حكاه القرطبي في تفسيره ، وقد ذكرت جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل تحته الشحم وحكى القرطبي الإجماع أيضا على أن الجملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه تجوز الخرازة به وقيل : أراد بلحمه جميع أجزائه وإنما خص اللحم بالذكر لأن المقصود لذاته بالأكل ، واختلفوا في نجاسته فقال الجمهور أنه نجس وقال مالك أنه طاهر وكذا كل حيوان عنده ، لأن علة الطهارة هي الحياة ، وللشافعي قولان في ولوغ الخنزير " الجديد " أنه كالكلب " والقديم " يكفي فيه غسلة واحدة .

والآية قصر قلب للرد على من استحل هذه الأربعة وحرم الحلال غيرها كالسوائب ومع ذلك هو نسبي أي ما حرم عليكم إلا هذه الأربعة لا غيرها من البحيرة وما بعدها في الآية وإن كان حرم غيرها من الأمور المذكورة في أول المائدة .

{ وما أهل به لغير الله } يعني ما ذبح للأصنام والطواغيت وصيح في ذبحه لغير الله ، وأصل الإهلال رفع الصوت يقال أهل بكذا أي صرخ ورفع صوته ومنه إهلال الصبي واستهلاله ، وهو صياحه عند ولادته ، ومنه الهلال لأنه يصرخ عند رؤيته ، والمراد هنا ما ذكر عليه اسم غير الله تعالى كاللات والعزى إذا كان الذابح وثنيا ، والنار إذا كان الذابح مجوسيا . ولا خلاف في تحريم هذا وأمثاله .

ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم فإنه مما أهل به لغير الله ، ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن ، قال مجاهد : يعني ما ذبح لغير الله أخرجه ابن أبي حاتم ، وفي تفسير النيسابوري للنظام قال العلماء لو أم مسلما ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتدا وذبيحته ذبيحة مرتد انتهى .

وقال صاحب الروض : إن المسلم إذا ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم كفر انتهى ، وهذا القائل من الشافعية .

قال الشوكاني : وإذا كان الذبح لسيد الرسل صلى الله عليه وسلم كفرا عنده فكيف بالذبح لسائر الأموات انتهى .

وقيل أن المراد بذلك ذبائح عبدة الأوثان التي كانوا يذبحونها لأصنامهم كما تقدم وأجازوا ذبيحة النصارى إذا سمي عليها باسم المسيح ، ومذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد ابن المسيب لعموم قوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة : لا يحل ذلك والحجة فيه أنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله فوجب أن يحرم وروي عن علي أنه قال : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون .

{ فمن اضطر } إلى شيء من هذه المحرمات ، والمضطر هو المكلف بالشيء الملجأ إليه المكره عليه والمراد هنا من خاف التلف ، والمضطر إما بإكراه فيبيح ذلك إلى زوال الإكراه أو يجوع في مخمصة ، فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها ، وإن كانت نادرة فقال الشافعي : يأكل ما يسد به الرمق ، وبه قال أبو حنيفة أو يأكل قدر الشبع ، وبه قال مالك ، فأكل { غير باغ } بالاستئثار على مضطر آخر أو على الوالي وأصل البغي الفساد { ولا عاد } اسم فاعل أصله من العدوان وهو الظلم ومجازة الحد ، والمراد بالباغي من يأكل فوق حاجته ، والعادي من يأكل هذه المحرمات وهو يجد عنها مندوحة وبلغة ، وقال ابن عباس : باغ في الميتة وعاد في الأكل وقيل غير باغ على المسلمين ولا معتد عليهم ، فيدخل في الباغي والعادي قاطع السبيل والخارج على السلطان والمفارق للجماعة والأئمة ، والمفسد في الأرض وقاطع الرحم ، وقيل المراد غير باغ على مضطر آخر ولا عاد لسد الجوعة قاله سعيد ابن جبير .

{ فلا إثم عليه } في تناوله ولا حرج ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى { إن الله غفور } لمن أكل من الحرام { رحيم } به إذ أحل له الحرام في الاضطرار{[154]} .


[154]:روى أبو داوود قال حدثنا موسى ابن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سماك ابن حرب عن جابر ابن سمرة أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها؛ فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت، فقالت امرأته: انحرها، فأبى فنفقت . فقالت: اسلخها حتى نقدد لحمها وشحمها ونأكله؛ فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله فقال: (هل عندك غنى يغنيك) قال لا قال: (فكلوها) قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر؛ فقال: أفلا كنت نحرتها فقال: استحييت منك.