الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

و( إِنَّمَا ) هاهنا حاصرة ، ولفظ الميتة عمومٌ ، والمعنى مخصِّص ، لأنَّ الحوتَ لم يدخُلْ قطُّ في هذا العموم ، وفي مسند البَزَّار عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الخَمْرَ وَثَمَنَهَا ، وَحَرَّمَ المَيْتَةَ وَثَمَنَهَا ، وحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ ، وَثَمَنَهُ ) . انتهى من «الكوكب الدُّرِّيِّ » للإمام أبي العباس أحمد بن سَعْدٍ التُّجِيبِيِّ .

{ والدم } يراد به المسفوحُ ، لأن ما خالط اللحْمَ فغير محرَّم بإِجماع .

( ت ) بل فيه خلافٌ شاذٌّ ذكره ابن الحاجبِ وغيره ، والمشهورُ : أظهر لقول عائشةَ رضي اللَّه عنها : لَوْ حُرِّمَ غَيْرُ المَسْفُوحِ ، لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي العُرُوقِ ، وَلَقَدْ كُنَّا نَطْبُخُ اللَّحْمَ ، وَالبُرْمَةُ تَعْلُوهَا الصُّفْرَةُ . انتهى .

{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله }[ البقرة :173 ] .

قال ابن عبَّاس وغيره : المراد ما ذُبِحَ للأنْصَاب والأوثان ، و{ أُهِلَّ بِهِ } معناه : صِيحِ به ، ومنه : استهلالُ المولودِ ، وجرَتْ عادة العرب بالصياحِ باسم المقصودِ بالذبيحةِ ، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النيَّة التي هي علَّة التحريم .

{ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ }[ البقرة :173 ] قال قتادة وغيره : معناه غيْرَ قاصدِ فسادٍ ، وتعدٍّ بأن يجدَ عن هذه المحرَّمات مندوحةً ، ويأكلها ، وأصحاب هذا القول يجيزونَ الأكل منها في كلِّ سفر ، مع الضرورة ، وقال مجاهد وغيره : المعنى : غير باغٍ على المسلمين ، وعَادٍ عليهم فيدخل في الباغِي والعادِي قُطَّاعُ السبل ، والخارجُ على السلطانِ ، والمسافر في قَطْع الرحمِ ، والغَارَةُ على المسلمين ، وما شاكله ، ولغير هؤلاء : هي الرخصةُ .

قال مالك رحمه اللَّه : يأكل المضطَرُّ شِبَعَهُ ، وفي «الموطَّأ » وهو لكثير من العلماءِ أنه يتزوَّد ، إِذا خشي الضرورة ، فيما بين يديه ، من مفازةٍ وقَفْرٍ .

قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه » ، " وقد قال العلماء : إِنَّ من اضطرَّ إلى أكل الميتةِ ، والدمِ ، ولحمِ الخنزيرِ ، فلم يأكلْ دخل النَّار ، إِلا أنْ يَغْفِرَ اللَّه له . " انتهى . والمعنى : أنه لم يأكلْ حتى مات جوعاً ، فهو عاصٍ ، وكأنه قتل نفسه ، وقد قال تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] الآية إِلى قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } [ النساء : 30 ] قال ابن العربيِّ : وإذا دامتِ المَخْمَصة ، فلا خلاف في جواز شبع المضطَرِّ ، وإن كانت نادرةً ، ففي شبعه قوْلانِ : أحدهما لمالك يأكل حتى يَشْبَعَ ، ويتضلَّع ، وقال غيره : يأكل بمقدارِ سدِّ الرَّمقِ ، وبه قال ابن حَبِيبٍ ، وابن المَاجِشُونِ . انتهى .