تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

الآية 173 وقوله تعالى : ( إنما حرم عليكم الميتة ) [ أما ]{[1970]} ذكر ( الميتة ) فمعناه : حرم عليكم الأكل من الميتة والتناول منها . فإذا كان كذلك فليس فيه حرمة ما لا يؤكل والانتفاع به من نحو الصوف والشعر والعظم ونحوه . ألا ترى أن هذا إذا أريد من الشاة ، وهي حية ، وأبين منها ، لم يصر ميتة ، ألا{[1971]} يجوز الانتفاع به ؟ وغيره من اللحم إذا أبين منها ، صار ميتة لما روي في الخبر : " ما أبين من الحي فهو ميت " [ نصب الراية 4/317 ] ، ولأن الصوف واللبن وغيرهما ليسوا بذوي الروح ، فيموت باستخراج الروح منها كالحيوان على ما ذكرنا من الخبر . وروي عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الأنفحة ، استخرجت من الميتة ، فقال : ( أفيها دم ) ؟ فقيل : لا ، فقال : ( لا بأس [ كلوا فإن اللبن على ذكاة فيه ) أو كلام نحو هذا . وكذلك روي عن ابن عمر رضي الله عنه ، أنه قال : ( لا بأس ) ]{[1972]} .

فإن قيل : ألا فسد بنجاسة الضرع كالوعاء النجس ، يكون فيه اللبن ، يفسد بفساده ؟ قيل : إذا كان الشيء موضعا للشيء ومعدنه في الأصل فإن فساد ذلك الموضع لا يوجب فساد ما فيه . ألا ترى أن الدم الذي يجري بين الجلد واللحم إذا{[1973]} ذبح لا يفسد اللحم لما كان ذلك موضعه ومظانه ؟ فعلى ذلك اللبن في الضرع .

وأما الإهاب فإنه إذا دبغ فقد طهر لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيما إهاب دبغ فقد طهر " [ الترمذي : 1728 ] .

والدم المذكور في هذه الآية هو الدم المسفوح ؛ دليله قوله تعالى : ( أو دما مسفوحا ) [ الأنعام : 145 ] ، فالمحرم من الدماء هو{[1974]} السائل . ألا ترى أن الشاة إذا ماتت{[1975]} صارت ميتة بهلاك ذلك المحرم من الدم فيها{[1976]} ؟

وقوله : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد ) اختلف فيه على أوجه : قيل : قوله : ( غير باغ ولا عاد ) هو{[1977]} تفسير قوله ( فمن اضطر ) وهو كقوله : ( محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ) / 25- أ/ [ النساء : 25 ] فصار قوله : ( غير مسافحات ولا متخذات أخدان ) تفسير قوله : ( محصنات ) لأنها إن كانت محصنة ، كانت غير مسافحة ولا متخذة الأخذان . فعلى ذلك إن كان مضطرا كان ( غير باغ ولا عاد ) ، والله أعلم .

وقيل : ( فمن اضطر غير باغ ) أي غير مستحل لتناوله ( ولا عاد ) بعدو على أكله للجوع ، وقيل : قوله : ( فمن اضطر غير باغ ) غير متجاوز حده ( ولا عاد ) ولا مقتصر نهايته ، [ وقيل{[1978]} : ( غير باغ ) في [ أكله ]{[1979]} ( ولا عاد ) على حد الله ، إذ حرمه عليه في غير حال الاضطرار ، فيصير باغيا في الأكل عاديا على حد الله{[1980]} ، وقيل{[1981]} : ( غير باغ ولا عاد ) في مجاوزته على أكل حد المجعول له من إقامة المهجة ودفع الضرورة ، فأكل بشهوة أو لحاجة غير حاجة الجوع خاصة ، وقيل{[1982]} : ( غير باغ ولا عاد ) على المسلمين ( ولا عاد ) عليهم ]{[1983]} . [ لكن تصريح النهي عن الانتفاع بالشيء حرمة هتكها ، صاحبها نهي عما كان مباحا له كما روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة للمرأة الناشزة ولا للعبد الابق " [ بنحوه مسلم 70 ، وليس فيه ذكر المرأة ] . وذلك نهي عن الإباق والنشوز لا عن الصلاة . فمثله لو كان نهيا ، فكيف ولا نهي ؟ ولكن ذكر إباحة على صفة لم يذكر الحل والتحريم في الابتداء مع تلك الصفة . وجملته أن بغيه [ في وجهين :

الأول ]{[1984]} لا يحرم ما قد أحل بالجوهر بالإنفاق ، فكذلك ما أحل بالسبب ؛ دليل ذلك أمر الكفرة وسائر الفسقة أنه لم يحرم عليهم شيء من ذلك .

والثاني : النهي عن قتله ]{[1985]} .

ثم اختلف في حرمة عين الميتة في حال الاضطرار وحلها ؛ قال بعضهم : عينها حلال ليس بمحرم ، وقال آخرون . عينها محرمة ، لكن التناول منها مباح ، وهو قول أصحابنا ، رحمهم الله .

فمن قال يحل عينها للضرورة ذهب إلى أن الحظر أو{[1986]} الإباحة لا يقع في الأصل لعين الشيء ، ولا يتكلم فيها بحل ولا حرمة بحق{[1987]} العين ، بل الحرمة والحل هي الواردة عليها موجبة حق الحرمة . ثم الحرمة ترتفع بالضرورة ، فتبقي عينه على ما كان في الأصل . ومن قال بحرمة عينها وبحل التناول منها ذهب إلى أن الحرمة حدثت [ لما كانت ]{[1988]} ميتة وأهلا [ بها ]{[1989]} لغير وجه الله . فحدوث{[1990]} الحل للضرورة يدل على أن العلة كانت هي الضرورة في رفع حرمة التناول ، ولم ترفع حرمة عينها ، إلا أنه أبيح التناول منها للضرورة على بقاء الحرمة . ولكن يجب ألا يتكلم في هذا ومثله بحرمة العين وحلها بعد أن تكون الإباحة للضرورة ؛ إذ لله أن يحل عينا محرمة في حال الاضطرار ، وله أن يحرم عينها ، ويحل التناول منها للاضطرار ، فالتكلم فيه فضل وتكلف ، وبالله التوفيق .

ثم المسألة في الباغي والعادي يحرم عليه التناول منها في حال الاضطرار أم لا ؟ قال بعض أهل العلم : محرم ذلك عليه لأوجه :

أحدها : لأنه ظالم ، وفي المنع عن التناول منها زجر عن الظلم ، وفي [ إباحة التناول ]{[1991]} منها إعانة على الظلم ، لذلك حرم عليه .

والثاني : أن القاتل يعاقب عندما يأوي إلى الحرم بترك المؤاكلة والمشاربة والمجالسة إلى أن يضطر ، فيخرج عقوبة له . فكذلك هذا يحرم عليه التناول منه عقوبة له إلى أن ينزجر .

وقال [ أحدهم ]{[1992]} : إنه قد استحق بالبغي على أهل الإسلام العقوبة العظيمة ، ويعاقب في هذا أيضا .

ثم من قول هذا الرجل في الباغي : أنه إذا أتلف أموال أهل العدل لا يتعرض له بها ، ولا يغرم ، وكذلك العادل إذا أتلف أموال البغي لا غرامة عليه . والغرامة نوع من العقوبات ، فإذن استويا في سقوط الغرامة . وإن كان أحدهما ظالما كيف لا يستويان أيضا في هذا ؟ وما الذي يوجب التفرقة بينهما ؟ ثم نقول لهذا المخالف لنا : إن الباغي يسمح يوما وليلة ، وإذا سافر لم يرخص له المسح ، وهو في الحضر رخصة كهي في السفر ، فما باله حرم إحدى الرخصتين على إباحة الأخرى مع وجود الظلم والبغي ؟ فقال : لأن الضرورة طريق التناول ، فيه رخصة ، لا ترخص للظالم ، إذ هو تخفيف .

والأصل في المسألة أن الباغي على أهل الإسلام يأتمر بأحكام أهل الإسلام ، إذ لو ائتمر أمر بالكف عن بغيه ، وإذا لم يأتمر في ذا لا شك أنه لا يأتمر في الثاني ، ولا يؤمر فيه العبث ، ولا يزجره التحريم عن التناول ؛ إذ على العلم بحرمة البغي بغى ما اشتهت نفسه ، فكيف ينتهي للحرمة التي اضطرت إليه نفسه ؟ ولم يملك الغلبة عليها في شهوتها إيثارا لها ، كذلك إنظارا لها ، كذلك لا معنى لإحداث الحرمة عليه ببغيه .

وأصله قوله عز وجل : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) [ النساء : 29 ] ، وقوله : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) [ البقرة : 195 ] ؛ حرم عليهم إلقاء أنفسهم إلى المهالك وقتلهم الأنفس ]{[1993]} . وفي دفع هذه الرخصة عنه إباحة محرم ، وهو أعظم منة عليه ؛ فلم يفعل .

وأما [ ما ]{[1994]} قال بأن من قتل ، فأوى إلى الحرم فإن أهله نهوا عن مؤاكلته ومشاربته ، ولم ينه في نفسه [ عن ]{[1995]} الأكل والشرب ؛ إذ لا يقدر أحد منعه عن ذلك . فالقول في مثله تكلف فكذا الأول ، والله أعلم .

ثم المسألة في القدر الذي يجوز أن يتناول منه{[1996]} : فعندنا : أن الإباحة كانت للاضطرار ، فهو على القدر الذي له الدفع والإزالة ، وذلك بدون ما فيه شدة المجاعة . وذلك الأصل في انتفاء الضرورة .


[1970]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[1971]:- في النسخ الثلاث: لا
[1972]:- من ط ع.
[1973]:- في ط ع: أما.
[1974]:- في النسخ الثلاث: وهو.
[1975]:- من ط ع، في الأصل وم: مات.
[1976]:- في الأصل و ط م: فيه
[1977]:- في النسخ الثلاث: وهو.
[1978]:- من ط ع، في الأصل و ط م: يحتمل
[1979]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[1980]:- أدرج في الأصل و م بعدها العبارة التالية: ويحتمل أن يكون (غير باغ) تفسيرا لقوله (فمن اضطر) كقوله (محصنات غير مسافحات) الآية، وقد حذفنا لورودها في بدء تفسير الآية.
[1981]:- من ط ع، في الأصل و م: ويحتمل.
[1982]:- من ط ع، في الأصل و م: ويحتمل.
[1983]:- من ط ع، وأدرجت هذه العبارة سهوا في الأصل (الورق 23- أ س 25- 27) وفي م (الورقة 23 و س 32-35).
[1984]:- ساقطة من الأصل و م.
[1985]:- أدرجت هذه العبارة في الأصل أيضا سهوا (الورقة 23. أ س 27-31) وفي م (الورقة 23 و س 34-37)، ساقطة من ط ع.
[1986]:- في النسخ الثلاث: و
[1987]:- في النسخ الثلاث: بحيث.
[1988]:- من ط ع، ساقطة من الأصل و م.
[1989]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[1990]:- في ط ع: فحدث.
[1991]:- في النسخ الثلاث: الإباحة عن التناول.
[1992]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[1993]:- احتلت هذه العبارة التي أولها: الإباحة التناول... في ط ع الصفحة 326 محل ما في الصفحة 336، وقد أزلنا الالتباس بوضع كل في مكانه.
[1994]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[1995]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[1996]:- في النسخ الثلاث منها.