بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

فلما أمر الله تعالى بأكل هذه الأشياء التي كانوا يحرمونها على أنفسهم . قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن لم يكن هذه الأشياء محرمة فالمحرمات ما هي ؟ فبيّن الله تعالى المحرمات ، فقال : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير } . والميتة سوى السمك والجراد ، { والدم } يعني الدم المسفوح أي الجاري . كما قال في آية أخرى : { قُل لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 145 ] ، { ولحم الخنزير } يعني حرم عليكم ، ولحم الخنزير فذكر اللحم خاصة والمراد به اللحم والشحم وجميع أجزائه . وهذا شيء قد أجمع المسلمون على تحريمه فقد ذكر الميتة وإنما انصرف إلى بعض منها وأحل البعض منها وهو السمك والجراد ؛ وذكر الدم وإنما المراد به بعض الدم ، لأنه لم يدخل فيه الكبد والطحال ؛ وذكر لحم الخنزير فانصرف النهي إلى اللحم وغيره . { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } ، يعني ما ذبح بغير اسم الله تعالى . والإهلال في اللغة : هو رفع الصوت . وكان أهل الجاهلية إذا ذبحوا ، رفعوا الصوت بذكر آلهتهم ؛ فحرم الله تعالى على المؤمنين أكل ما ذبح لغير اسم الله تعالى . وفي الآية دليل : أنه إذا ترك التسمية عمداً لا يؤكل ، لأنه قد ذبح بغير اسم الله تعالى .

ثم إن الله تعالى علم أن بعض الناس يبتلون بأكل الميتة عند الضرورة ، فرخص لهم في ذلك بقوله تعالى : { فَمَنِ اضطر } . قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو : { فَمَنِ اضطر } بكسر النون وقرأ الباقون بالضم ؛ وهما لغتان ومعناهما واحد . يقول : فمن أجهد إلى شيء مما حرم الله إلى أكل الميتة { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } ، يعني غير مفارق الجماعة { ولا عاد } على المسلمين بالسيف ؛ فمن خرج لقطع الطريق ، أو خرج على إمام المسلمين فلا رخصة له عند بعضهم .

وقال بعضهم : من خرج في معصية فلا رخصة له . وقال بعضهم : كل من اضطر إلى أكل الميتة رخص له أن يأكل سواء أخرج للمعصية أو غيرها . وهذا قول أصحابنا . ومعنى قوله : { غَيْرَ بَاغٍ } ، أي غير طالب للحرام ولا راض بأكله . { وَلاَ عَادٍ } ، يعني لا يعود إلى أكله بعد أكل مقدار ما يسد به الرمق .

وروي عن ابن عباس نحو هذا . قال : حدثنا محمد بن سعيد الترمذي قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال : حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } قال : من أكل شيئاً من هذه الأشياء وهو مضطر ، فلا حرج عليه ؛ ومن أكله وهو غير مضطر ، فقد بغى واعتدى .

وقوله تعالى :{ فمن اضطر غير باغ ولا عال فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } ثم اختلفوا في حد الاضطرار الذي يحل له أكل الميتة . قال بعضهم : إذا كان بحال يخاف على نفسه التلف وهو قول الشافعي . وروي عن ابن المبارك أنه قال : إذا كان بحال لو دخل السوق لا ينظر إلى شيء سوى الخبز . وقال بعضهم : إذا كان بحال يضعفه عن أداء الفرائض .

وقد اختلفوا أيضاً في أكله : قال بعضهم : أكله حرام إلا أنه كما قال تعالى :{ فلا إثم عليه } ألا ترى أنه قال في سياق الآية : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وقال بعضهم : هو حلال ولا يسعه تركه ، لأنه قال في آية أخرى : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين } [ الأنعام : 119 ] ، فلما استثني منه ثبت أنه حلال . وروي عن مسروق أنه قال : من اضطر إلى ميتة فلم يأكل حتى مات ، دخل النار .