التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

وقوله : ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) ( وقوله : ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) ( إنما ) ، اتصلت ما بإن فكفتها عن العمل ، وإنما تجيء في الكلام لإثبات المذكور ونفي ما سواه{[177]} ، وهي بذلك تفيد الحصر . أي أن التحريم محصور في الأعيان المبينة في هذه الآية . و ( الميتة ) منصوب على المفعولية للفعل ( حرم ) . وما بعدها معطوف عليها . أما من الناحية الشرعية فإن التحريم يشمل كلا من :

( الميتة ) وهي الدابة مأكولة اللحم أصلا ، لكنها فارقتها الروح من غير تذكية شرعية معلومة . فما كان كذلك فهو غير مأكول إلا ما استثني من ذلك وهما السمك والجراد ؛ لقوله تعالى : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه ) وفيما أخرجه أهل السنن عن النبي ( ص ) قال : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " يشير بذلك إلى البحر .

وروى الإمام أحمد وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر حديثا مرفوعا : " أحل لنا ميتتان ودمان ، السمك والجراد ، والكبد والطحال " وبذلك فإن استثناء السمك والجراد يأتي على سبيل التخصيص لهذا الآية الكريمة .

أما الانتفاع بالميتة التي فارقتها الروح من غير تذكية شرعية معلومة فهو موضع خلاف كذلك . فثمة قولان في هذه المسألة : أحدهما : أن الانتفاع بالميتة جائز واستدلوا على ذلك بأن النبي ( ص ) مرّ على شاة ميتة لميمونة فقال : " هلاَّ أخذتم إهابها فدبغتموها فانتفعتم به " .

وثانيهما : أن الانتفاع بالميتة كيفما كان غير جائز ؛ استنادا إلى ما روي عن النبي ( ص ) قوله : " لا تنتفعوا من الميتة بشيء " وفي حديث آخر : " لا تنتفعوا من الميتة بشيء " وفي حديث آخر : " لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " .

والراجح عندي هو القول الثاني ؛ استنادا إلى الدليل الظاهر : " لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " وهو نص متأخر حتى يمكن الحكم بأنه ناسخ لما عارضه من حديث . والله سبحانه وتعالى أعلم .

والميتة إذا كانت في بطن الذبيح جنينا فثمة خلاف في ذلك . والراجح أنها تؤكل ، إلا إذا ظل الجنين حيا بعد ذبح أمه أو نحرها . فإنه في مثل هذه الحالة يكون له حكم الحي الذي يذكى ليؤكل ، لكنه إن كان ميتا فإنه يحتسب عضوا من أعضاء أمه فيؤكل دون تذكية . وقيل : لا يؤكل ؛ لكونه ميتا ، والقول الأول هو الراجح بدليل ما رواه جابر رضي الله عنه أن رسول الله ( ص ) سئل عن البقرة والشاة تذبح ، والناقة تنحر فيكون في بطنها جنين ميت فقال : " إن شئتم فكلوه ، لأن ذكاته ذكاة أمه " .

وإذا وقع في الطعام حيوان طائر أو غيره فمات فثمة قولان : أحدهما : يذهب إلى نجاسة الطعام كله ؛ لمخالطته الميتة . وثانيهما : يذهب إلى نجاسة المرق ؛ إذ لا يمكن تطهيره بل يراق ، أما اللحم فيطهر إذا غسل بالماء . وفي تقديرنا أن هذا هو الراجح ؛ لأن المرق الذي وقعت فيه النجاسة قد تخالط بها تماما فعير مستطاع فصلها عنه ، لكن اللحم إذا غسل تماما أمكن تنقيته من أدران النجاسة . وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال : " يغسل اللحم ويؤكل " .

أما البيضة واللبن يخرجان من الدابة المأكولة بعد موتها ، فقد اختلفت كلمة الفقهاء فيهما ، وقد اتفق الإمامان الشافعي ومالك على أنهما لا يؤكلان لنجاستهما ، لكنهما اختلفا في مصدر نجاستهما ، لكنهما اختلفا في مصدر نجاستهما . فقال الشافعي : إنهما نجسان بنجاسة الأصل وهي الميتة وهما عضوان منها . وقد استند في ذلك إلى عموم قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة ) .

وذهب الإمام مالك إلى أن البيضة واللبن يكونان طاهرين في الأصل وذلك بعد موت الدابة من غير تذكية ، لكنهما ينجسان لمجاورتهما اللحم النجس .

أما أبو حنيفة فقد قال بطهارتهما . وعلل ذلك بأن اللحم يؤكل بما فيه من العروق مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير حاجة لتطهير أو غسل .

أما ( الدم ) فهو نجس ويحرم أكله أو الانتفاع به . إلا ما عمت به البلوى من الدم فهو معفو عنه ، وذلك كالدم يخالط اللحم والعروق ، أو ما يصيب بدن الجزار وثوبه مما يصعب معه التحرز . فإن كان كذلك فهو مما تعم به البلوى ، أو ما يكون التحرز منه يفضي إلى الحرج . ومن قواعد الشريعة السمحة دفع الحرج . فإن من قواعد هذا الدين قيامه على التسهيل واليسر ودفع الحرج بكل ظواهره في كل مناحي الشريعة قال سبحانه : ( وما جعل عليكم في الدين حرج ) .

على أن هذا النص الكريم في تحريم الدم يفيد العموم ، لكنه حرج منه صنفان من الدم وهما الكبد والطحال ، وذلك ما جاءت به السنة الكريمة فيما روي مرفوعا من حديث ابن عمر : " أحل لنا ميتتان ودمان ، السمك والجراد والكبد والطحال " فهما بذلك مباح أكلهما على سبيل التخصيص . فالنص في ذاته عام ، لكنه مخصص بالسنة الصحيحة .

وأما ( لحم الخنزير ) فهو محرم العين سواء ذكي أم لم يُذكّ . فهو حرام جملة وتفصيلا إلا ما روي عن شعره . والمقصود بتحريمه عينا أنه نجس وحرام لذاته وعلى هذا لا يتحول إلى مباح بالتذكية بل هو باق على صفته من النجاسة والتحريم فلا يجوز شرعا أن يؤكل منه شيء ولا أن يُباع أو يُشترى باستثناء الشعر فإنه يجوز استعماله للخرازة . فقد سئل النبي ( ص ) عن ذلك فقال " لا بأس بذلك " والمراد بالخرازة خياطة الثياب .

قوله : ( ما أهل به لغير الله ) الواو تفيد العطف . ما اسم موصول في محل رفع معطوف على الميتة . ( أهل ) فعل ماض مبني للمجهول . وهو من الإهلال ، ومعناه رفع الصوت . نقول : استهل الصبي أي صاح عند ولادته . وقد كان من عادة العرب الصياح باسم المقصود بالذبيحة{[178]} .

وقد ذكر عن ابن عباس وغيره من أهل العلم أن المراد بما أهل به لغير الله هو ما ذبح على الأنصاب أو الأوثان . فإذا توجه الذابح بنيته نحو غير الله كانت ذبيحته مما أهل به لغير الله فلا يحل إذن أكلها . وذلك المجوسي يذبح للنار ، فإذا ذبح ذكر اسم النار . وكالوثني يذبح للوثن ، فإذا ذبح ذكر اسم الوثن على المذبوح . ثم ذلك الذي لا دين له ، فهو غير مبال بملة من الملل . ولا يهمه أن يكون ذا دين من الأديان كأولئك الماديين الملحدين ، فهم إذا ذبحوا فما تحل ذبيحتهم للأكل ، بل ترمي للكلاب ويندرج في هذا الحكم كل ذبيحة يكون توجه النية فيها لدى الذابح نحو غير الله . مثل ذلك الذي يذبح ذبيحته على الدار أو السيارة أو نحو ذلك . وشأن ذلك شان الذي يذبح على النصب أي من أجلها .

وقوله : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) المضطر هو المحتاج . من الفعل اضطر على وزن افتعل ، وهو من الضرورة . فمن حاقت به ضرورة أبيحت له هذه المحظورات فله أن يأكل منها .

ويستوي في الاضطرار أن يكون سببه الإكراه من عدو أو ظالم ، أو الجوع الشديد الذي يخشى معه الهلاك . فإن للمضطر حينئذ أن يأكل من الميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو ما أهل لغير الله به . على أن يكون المضطر غير واجد طعاما غير هذا المحظور ، فإن وجد طعاما كالثمر وغيره لواحد من الناس وكان يعلم أنه ليس في أكله ما يجرّ عليه تهمة السرقة ، فله أن يأكل منه ما يسد حاجته ويُذهب عنه شدة المخمصة والتلف ؛ ليقوى بعد ذلك على السعي إلى أن يبلغ ما يريد .

وفي ذلك أخرج ابن ماجه أن النبي ( ص ) سئل : أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب ؟ ! . فقال : " كل ولا تحمل ، واشرب ولا تحمل " .

وأخرجه ابن ماجه بإسناده عن عبّاد بن شرحبيل قال : أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا{[179]} . من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي ، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي ، فأتيت رسول الله ( ص ) فأخبرته فقال للرجل : " ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساغبا ، ولا علمته إذ كان جاهلا " فأمره النبي ( ص ) فرد إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق .

وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي ( ص ) سئل عن الثمر المعلق فقال : " من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه " والخبنة هي ما يحمل تحت الإبط . وخبنت الشيء خبنا أي أخفيته .

وقوله : ( غير باغ ولا عاد ) غير منصوب على الاستثناء . وقيل على الحال{[180]} . وباغ أي متجاوز للحد الذي تندفع معه الحاجة ؛ إذ ليس للمضطر أن يأكل أو يشرب أكثر مما يحتاج إليه من إذهاب لشدة الجوع وخطره على الحياة . وعاد : أن يجد بديلا عن هذه المحرمات ثم يأكلها .

وفي قول آخر : ( غير باغ ) أي غير قاصد من أكل المحرمات تحصيل لذة أو شهوة ، بل يقصد دفع الحاجة وغائلة الجوع الذي يخشى منه على النفس مع انعدام الطعام الحلال . ( عاد ) أي مستوف للأكل فوق ما يسد الرمق .

وفي قول ثالث : الباغي والعادي يشملان كل قاطع للسبيل أو مفارق للجماعة خارج على الإمام أو من كان خارجا من بيته في معصية فألمت به الحاجة . ومثل هؤلاء لا يستحق الرخصة في الأكل من الطعام المحظور حتى وإن كان مضطرا ؛ وذلك لبغيه وعدوانه . ذلك ما ذهب إليه أكثر الفقهاء خلافا للإمام أبي حنيفة ؛ إذ جعل لكم من هؤلاء رخصة الأكل من المحرمات حال الاضطرار استنادا إلى إطلاق النص الكريم . وهو أحد قولين للإمام الشافعي . وذلك الذي نرجحه ونميل إليه اعتمادا على الآية في إطلاقها هنا ، ويقول سبحانه في آية أخرى : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) فإن الإمساك عن أكل الحرام عند الضرورة ربما أوقع في الهلاك أو إذهاب النفس ، وذلك أشد حرمة ونٌكرا من أكل الطعام الحرام .

وقوله : ( إن الله غفور رحيم ) يغفر الله للمضطر خطيئته ويتجاوز له عن السيئة في الأكل من مال غيره بغير إذنه . وهو تبارك وتعالى ( رحيم ) إذ أباح للمضطر أن يأكل من مال غيره دون إذنه حفاظا على نفسه من الزهوق{[181]} .

أما استعمال المحرمات للتداوي ، كشرب الخمر ونحوه مما حرمه الشرع ، فذلك موضع خلاف ، فقد ذهب أكثر أهل العلم إلى عدم جواز التداوي بما حرم الله كالخمر وغيره مما يحرم أكله أو شربه . وهو قول المالكية والحنابلة وكذا الشافعية . فقد منع بعضهم التداوي بكل محرم إلا بأبوال الإبل خاصة لحديث العرنيين . ومنع بعضهم التداوي بكل محرم ؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : " إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم " {[182]} ولقوله عليه السلام لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر فنهاه ، فقال : إنما أصنعها للدواء ، فقال عليه السلام : " إنه ليس بدواء ولكنه داء " {[183]} . وهذا يحتمل أن يقيد بحالة الاضطرار ، فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز شربه .

وقال الإمام أبو حنيفة : يجوز شرب الخمر للتداوي دون العطش . وهو قول الثوري . ودليل ذلك إباحة النبي ( ص ) لعبد الرحمن بن عوف أن يلبس الحرير لحكة أصابته{[184]} .

أما مقدار ما يؤكل من المحرم كالميتة ونحوها : فإن المباح من ذلك ما فيه سد الرمق والأمن من الموت ، فلا يبلغ بذلك حد الشبع وهو قول الحنفية ، والحنابلة وأحد القولين للشافعي . ووجه ذلك أن الآية دلت على تحريم الميتة واستثنى ما اضطر إليه ، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل فوق ما يسد الرمق ؛ لأنه بعد سد الرمق لا يكون مضطرا .

وذهبت المالكية إلى جواز الأكل من الميتة ونحوها من المحرمات حتى الشبع وهو أحد قولي الشافعي . ودليل ذلك ما رواه أبو داود عن جابر بن سمرة أن رجلا نفقت{[185]} عنده ناقة ولم يكن عنده ما يقتات غيرها ، فسأله النبي ( ص ) : " هل عندك غنى يغنيك " قال : لا . قال : " فكلوها " ولم يفرق بين الشبع وما دونه . وما جاز سد الرمق منه جاز الشبع منه{[186]} .


[177]:- البيان للأنباري جـ 1 ص 136.
[178]:- مختار الصحاح ص 697.
[179]:- المقصود بالحائط البستان.
[180]:البيان للأنباري جـ 1 ص 137.
[181]:- تفسير القرطبي جـ 2 ص 226- 233 وتفسير ابن كثير جـ 1 ص 205.
[182]:- رواه الطبراني في الكبير عن أم سلمة.
[183]:- رواه مسلم في صحيحه.
[184]:- بداية المجتهد جـ 1 ص 409 والمغني جـ 8 ص 605 وتفسير القرطبي جـ 2 ص 231.
[185]:- نفقت أي فنيت. انظر المصباح المنير جـ 2 ص 289.
[186]:- بداية المجتهد جـ 1 ص 409 والمغني جـ 8 ص 595.