قوله تعالى : { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } أي : الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا . وقيل : نعيم الدنيا وزهرتها ، { كما فعل بأشياعهم } أي : بنظرائهم ومن كان على مثل حالهم من الكفار ، { من قبل } أي : لم يقبل منهم الإيمان والتوبة في وقت اليأس ، { إنهم كانوا في شك } من البعث ونزول العذاب بهم ، { مريب } موقع لهم الريبة والتهمة .
{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } من الشهوات واللذات ، والأولاد ، والأموال ، والخدم ، والجنود ، قد انفردوا بأعمالهم ، وجاءوا فرادى ، كما خلقوا ، وتركوا ما خولوا ، وراء ظهورهم ، { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ } من الأمم السابقين ، حين جاءهم الهلاك ، حيل بينهم وبين ما يشتهون ، { إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ } أي : محدث الريبة وقلق القلب فلذلك ، لم يؤمنوا ، ولم يعتبوا حين استعتبوا .
تم تفسير سورة سبأ - وللّه الحمد والمنة ، والفضل ، ومنه العون ، وعليه التوكل ، وبه الثقة .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان حرمانهم التام مما يشتهونه فقال : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ } .
وقوله { حِيلَ } فعل بمنى للمجهول مأخوذ من الحول بمعنى المنع والحجز . تقول حال الموج بينى وبين فلان . أى : منعنى من الوصول إليه ، ومنه قوله - تعالى - : { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين } أى : وحجز وفصل بين هؤلاء المشركين يوم القيامة { وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } ويتمنون من قبول إيمانهم فى هذا اليوم ، أو من العفو عنهم فى هذا اليوم ، أو من العفو عنهم ورجوعهم إلى الدنيا . . حيل بينهم وبين كل ذلك ، { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ } أى : كما هو الحال بالنسبة لأمثالهم ونظرائهم الذين سبقوهم فى الكفر .
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ } جميعاً على نمط واحد { فِي شَكٍّ } من أمر هذا الدين { مَّرِيبٍ } أى : موقع فى الريبة .
وبعد : فهذا تفسير وسيط " سبأ " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصاً لوجهه ، ونافعاً لعباده . والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .
( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) . . من الإيمان في غير موعده ، والإفلات من العذاب الذي يشهدونه ، والنجاة من الخطر الذي يواجهونه . ( كما فعل بأشياعهم من قبل ) . . ممن أخذهم الله ، فطلبوا النجاة بعد نفاذ الأمر ، وبعد أن لم يعد منه مفر .
( إنهم كانوا في شك مريب ) . . فها هو ذا اليقين بعد الشك المريب !
وهكذا تختم السورة في هذا الإيقاع السريع العنيف الشديد . وتختم بمشهد من مشاهد القيامة ؛ يثبت القضية التي عليها التركيز والتوكيد في السورة . كما مضى في نهاية كل شوط فيها وفي ثناياها . وقد بدأت السورة بهذه القضية وختمت بها هذا الختام العنيف .
عطف على الجمل الفعلية نظائر هذه وهي جُمل { فَزِعوا وأُخذوا وقالوا } [ سبأ : 51 ، 52 ] أي وحَال زَجُّهم في النار بينهم وبين ما يأملُونه من النجاة بقولهم : { آمنا به } [ سبأ : 52 ] . وما يشتهونه هو النجاة من العذاب أَوْ عودتهم إلى الدنيا ؛ فقد حُكي عنهم في آيات أُخرى أنهم تمنَّوه { فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } [ الأنعام : 27 ] ، { ربنا أرجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل } .
والتشبيه في قوله : { كما فعل بأشياعهم من قبل } تشبيه للحيلولة بحيلولة أخرى وهي الحيلولة بين بعض الأمم وبين الإِمهال حين حلّ بهم عذاب الدنيا ، مثل فرعون وقومه إذ قال : { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } [ يونس : 90 ] ، وكذلك قوم نوح حين رأوا الطوفان ، وما من أمة حلّ بها عذاب إلا وتمنّت الإِيمان حينئذٍ فلم ينفعهم إلاّ قوم يونس .
والأشياع : المشابهون في النحلة وإن كانوا سالفين . وأصل المشايعة المتابعة في العمل والحلف ونحوه ، ثم أطلقت هنا على مطلق المماثلة على سبيل المجاز المرسل بقرينة قوله : { من قبل } ، أي كما فعل بأمثالهم في الدنيا من قبل ، وأما يوم الحشر فإنما يحال بينهم وبين ما يشتهون وكذلك أشياعهم في وقت واحد .
وفائدة هذا التشبيه تذكير الأحياء منهم وهم مشركو أهل مكة بما حل بالأمم من قبلهم ليُوقنوا أن سنة الله واحدة وأنهم لا تنفعهم أصنامهم التي زعموها شفعاء عند الله .
وجملة { إنهم كانوا في شك مريب } مسوقة لتعليل الجمل التي قبلها . وفُعِل بهم جميع ما سمعت لأنهم كانوا في حياتهم في شك من ذلك اليوم وما وُصف لهم من أهواله .
وإنما جعلت حالتهم شكاً لأنهم كانوا في بعض الأمور شاكّين وفي بعضها موقنين ، ألا ترى قوله تعالى : { قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين } [ الجاثية : 32 ] . وإذا كان الشك مفضياً إلى تلك العقوبة فاليقين أولى بذلك ، ومآل الشك واليقين بالانتفاء واحد إذ ترتب عليهما عدم الإِيمان به وعدم النظر في دليله .
ويجوز أن تكون جملة { إنهم كانوا في شك مريب } مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئة عن سؤال يثيره قولُه : { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } كأن سائلاً سأل هل كانوا طامعين في حصول ما تمنّوه ؟ فأجيب بأنهم كانوا يتمنون ذلك ويشكون في استجابته فلما حيل بينهم وبينه غشِيَهم اليأس ، واليأس بعد الشك أوقع في الحزن من اليأس المتأصل .
والمريب : المُوقع في الريب . والريب : الشك ، فوصفُ الشك به وصفٌ له بما هو مشتق من مادته لإِفادة المبالغة كقولهم : شِعْر شاعر ، وليْل أَليل ، أو ليلٌ داج . ومحاولة غير هذا تعسف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.