اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَحِيلَ بَيۡنَهُمۡ وَبَيۡنَ مَا يَشۡتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشۡيَاعِهِم مِّن قَبۡلُۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ فِي شَكّٖ مُّرِيبِۭ} (54)

قوله : { وَحِيَل } تقدم فيه الإشمام والكسر{[44931]} أول البقرة .

والقائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحَوْلُ ولا تقدره مصدراً مؤكداً بل مختصاً حتى يصح قيامه{[44932]} ، وجعل الحَوْفيُّ القائم مقام الفاعل «بينهم »{[44933]} . واعترض عليه بأنه كان{[44934]} ينبغي أن يرفع . وأجيب عنهُ بأنه إنما بني على الفتح لإضافته إلى غير{[44935]} متمكِّن . ورده أبو حيان بأنه لا يبنى المضاف إلى غير متمكن مطلقاً ، فلا يجوز : قاَمَ غُلاَمَكَ ولا مَرَرْتُ بِغُلاَمكَ بالفتح{[44936]} . قال شهاب الدين : وقد تقدم في قوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] ما يغني عن إعادته{[44937]} . ثم قال أبو حيان : وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر :

4149- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْعَيْرِ والنَّزَوَانِ{[44938]}

فإنه نصب «بين » مضافة إلى معرب{[44939]} وخُرِّجَ أيضاً على ذلك قول الآخر :

4150- وَقَالَتْ مَتَى يُبْخَلْ عَلَيْكَ وَيُعْتَلَلْ . . . يَسُؤْكَ ( وَ ) إنْ يُكْشَفْ غَرَامُكَ تَدْرَبِ{[44940]}

أي يعتلل هو أي الاعتلال{[44941]} .

قوله : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } يعني الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا .

وقيل : نعيم الدنيا وزهرتها{[44942]} ، «كَمَا فُعلَ بأَشْيَاعِهِمْ » بنظرائهم{[44943]} ومن كان ( على ){[44944]} مثل حالهم من الكفار . «مِنْ قَبْلُ » لم يقبل منهم الإيمان في وقت اليأس «إنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكِّ » من البعث ونزول العذاب بهم{[44945]} ، و «مِنْ قَبْلُ » متعلق «بفُعِلَ » أو «بأَشْيَاعِهِمْ »{[44946]} أي ( الذين ){[44947]} شايعوهم قبل ذلك الحين{[44948]} .

قوله : { مُرِيب } قد تقدم أنه اسم فاعل من أَرابَ{[44949]} أي أتى بالريب أو دخل فيه وأَرَبْتُهُ أوْقَعْتُهُ في الرَّيْبِ . ونسبة الإرابة إلى الشك مجازاً{[44950]} .

وقال الزمخشري هنا إلا أن ههنا فُرَيْقاً{[44951]} وهو أن المريب من المتعدي منقول{[44952]} من صاحب الشك إلى الشك كما تقول شعر شاعر{[44953]} . . . . وهي عبارة حسنة مفيدة وأين هذا من قول بعضهم ويجوز أن يكون أردفه على الشك ليناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب . وقول ابن عطية الشك المريب : أقوى ما يكون من الشك وأشدُّه{[44954]} ، وتقدم تحقيق الريب أول البقرة{[44955]} ، وتشينع الراغب على من يفسره بالشكّ{[44956]} ، والله أعلم .

ختام السورة:

روى أبو أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - . «مَنْ قَرَأَ سُوَرةَ سَبَأٍ لَمْ يَبْقَ نَبِيُّ وَلاَ رَسُولٌ إلاَّ كَانَ لَهُ رفيقاَ وَمُصَافِحاً »{[1]} .

( صدق نبي الله وحَبِيبُ الله - صلى الله عليه وسلم ){[2]} .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[44931]:كشأن أي فعل مبني للمفعول وكان أجوف فإنه يجوز فيه ثلاثة أوجه: قلب الألف واو مثل صوم وعوم أو قلبها ياء مثل صيم وبيع وقيل، أو الإشمام إشمام الضم مع الكسر بالنسبة للحرف الأول وهكذا هذا الفعل الذي معنا وهو "حيل" فيجوز فيه حول وحيل والإشمام. انظر: اللباب 1/72.
[44932]:قاله السمين في الدر 4/459.
[44933]:البحر المحيط 7/294.
[44934]:المعترض هو أبو حيان قال: "لو كان على ما ذكر لكان مرفوعا ب "بينهم" كقراءة من قرأ: "ولقد تقطع بينكم" في أحد المعنيين".
[44935]:الدر المصون 4/459.
[44936]:قاله في البحر 7/294و 295.
[44937]:الدر المصون 4/459.
[44938]:عجز بيت من الطويل لصخر بن عمرو وصدره: أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ....................... والعير الحمار، والنزوان إتيانه لأنثاه. وشاهده: نصب "بين" مع إضافته إلى المعرب والفتح هنا في بين بناء، فلو كان الإعراب لازما لإضافته إلى المعرب لرفع بين ولكنه لم يحصل. وانظر: البحر لأبي حيان 7/295 واللسان: "نزا" والأصمعيات 146.
[44939]:في النسختين "معرف" والأصح معرب كما أثبت.
[44940]:من الطويل كسابقه وهو لامرىء القيس وقيل: لعلقمة بن عبدة وهو غير صحيح ويعتلل: يتخذ علة لقطع وصاله. وتدرب: تتعود والمعنى إن يحل عليك بالوصال ضرك ذلك وإن هجرتك كان عادة لك ودربة، والشاهد: "ويعتلل" أي يعتلل هو أي الاعتلال المعهود فإن نائب الفاعل هنا ضمير المصدر الجائي من الفعل "يعتلل" وهذا المصدر الذي لا محالة أنه مختص حتى يصح قيامه، وانظر: البحر المحيط 7/295 والتصريح 2/289، والأشموني 2/65 وأيضا ديوان امرىء القيس 22 وتمهيد القواعد 2/482، والدر المصون 4/460.
[44941]:انظر ما سبق.
[44942]:قاله البغوي في معالم التنزيل 5/296 وكذلك الخازن 5/296 وابن قتيبة في الغريب 359 وتأويل المشكل 356 والقرطبي 14/318.
[44943]:قال الزجاج: "بمن كان مذهبه مذهبهم" انظر: معاني القرآن وإعرابه 4/259 وزاد المسير لابن الجوزي 6/471.
[44944]:سقط من "ب".
[44945]:قاله البغوي في معالم التنزيل 5/296.
[44946]:الدر المصون 4/460 والبحر المحيط 7/295.
[44947]:سقط من "ب".
[44948]:معالم التنزيل 5/297.
[44949]:البحر والدر المرجعان السابقان. وانظر: اللسان: "ر ي ب" 1788 و 1789 قال: "قال الأصمعي: أخبرني عيسى بن عمر أنه سمع هذيلا تقول: أرابني أمره، وأراب الأمر: صار ذا ريب وفي التنزيل العزيز: "إنهم كانوا في شك مريب" أي ذي ريب".
[44950]:في "ب" والبحر مجاز بالرفع.
[44951]:كذا في الكشاف وفي "ب" فرقا بالتكبير لا التصغير.
[44952]:انظر: الكشاف 3/297، والبحر المحيط 7/295.
[44953]:المرجع السابق.
[44954]:المرجع السابق.
[44955]:عند قوله: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} وهي الآية 2 منها، وانظر: اللباب 1/28 ب.
[44956]:قال: "سماه ريبا لا أنه مشكك في كونه بل من حيث تشكك في وقت حصوله فالإنسان أبدا في ريب المنون من جهة وقته لا من جهة كونه".