قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } الآية . قال ابن عباس و محمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولي قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم ، فكان يوماً في مجلس قريش فأنزل الله تعالى سورة النجم فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان على لسانه بما كان يحدث به نفسه ويتمناه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته ، فقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده ، وسجد جميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص ، فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها ، لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود . وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيى ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإذا جعل لها نصيباً فنحن معه ، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال : يا محمد ماذا صنعت ؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل ! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً كثيراً فأنزل الله هذه الآية يعزيه ، وكان به رحيماً ، وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش . وقيل : أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم ، وقالوا : هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا تحدثونه به من إسلام أهل مكة كان باطلاً فلم يدخل أحد إلا بجوار أو مستخفياً ، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك . وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شراً إلى ما كانوا عليه ، وشدة على من أسلم . قال الله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول } وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عياناً ، ولا نبي وهو الذي تكون نبوته إلهاماً أو مناماً ، وكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولاً ، { إلا إذا تمنى } قال بعضهم : أي : أحب شيئاً واشتهاه وحدث به نفسه ما لم يؤمر به . ألقى الشيطان في أمنيته يعني : مراده . وعن ابن عباس قال : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلاً ، وما من نبي إلا تمنى أن يؤمن به قومه ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى به قومه ، فينسخ الله ما يلقي الشيطان . وأكثر المفسرين قالوا : معنى قوله : تمنى يعني : تلا وقرأ كتاب الله تعالى ( ألقى الشيطان في أمنيته ) أي : في تلاوته ، قال الشاعر في عثمان حين قتل :
تمنى كتاب الله أول ليلة *** وآخرها لاقى حمام المقادر
واختلفوا في أنه هل كان يقرأ في الصلاة أو في غير الصلاة فقال قوم : كان يقرأ في الصلاة . وقال قوم : كان يقرأ في غير الصلاة . فإن قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان معصوماً من الغلط في أصل الدين ، وقال جل ذكره في القرآن : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } يعني إبليس ؟ قيل : قد اختلف الناس في الجواب عنه ، فقال بعضهم :إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقرأ ، ولكن الشيطان ذكر ذلك بين قراءته ، فظن المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأه . وقال قتادة : أغفى النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءةً فجرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان ولم يكن له خبر . والأكثرون قالوا : جرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان ولم يلبث أن نبهه الله عليه . وقيل : إن شيطاناً يقال له : أبيض عمل هذا العمل ، وكان ذلك فتنة ومحنة من الله تعالى ، والله تعالى يمتحن عباده بما يشاء . { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } أي : يبطله ويذهبه ، { ثم يحكم الله آياته } فيثبتها . { والله عليم حكيم* }
يخبر تعالى بحكمته البالغة ، واختياره لعباده ، وأن الله ما أرسل قبل محمد { مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى } أي : قرأ قراءته ، التي يذكر بها الناس ، ويأمرهم وينهاهم ، { أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } أي : في قراءته ، من طرقه ومكايده ، ما هو مناقض لتلك القراءة ، مع أن الله تعالى قد عصم الرسل بما يبلغون عن الله ، وحفظ وحيه أن يشتبه ، أو يختلط بغيره . ولكن هذا الإلقاء من الشيطان ، غير مستقر ولا مستمر ، وإنما هو عارض يعرض ، ثم يزول ، وللعوارض أحكام ، ولهذا قال : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } أي : يزيله ويذهبه ويبطله ، ويبين أنه ليس من آياته ، و { يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } أي : يتقنها ، ويحررها ، ويحفظها ، فتبقى خالصة من مخالطة إلقاء الشيطان ، { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : كامل القوة والاقتدار ، فبكمال قوته ، يحفظ وحيه ، ويزيل ما تلقيه الشياطين ، { حَكِيمٌ } يضع الأشياء مواضعها ، فمن كمال حكمته ، مكن الشياطين من الإلقاء المذكور ، ليحصل ما ذكره بقوله : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً }
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن فضل الله - تعالى - على أنبيائه ورسله حيث عصمهم من كيد الشيطان ووسوسته وحفظ دعوتهم من تكذيب المكذبين ، وعبث العابثين . . . فقال - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا . . . } .
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات : قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ، ظنا منهم أن مشركى قريش قد أسلموا .
ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح .
ثم قال - رحمه الله - : قال ابن أبى حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا شعبة ، عن أبى بشر ، عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة سورة النجم ، فلما بلغ هذا الموضع : { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى } قال : فألقى الشيطان على لسانه : " تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن ترتجى " .
قالوا : - أى المشركون - : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد وسجدوا ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ . . . } .
وجمع - سبحانه - بين الرسول والنبى ، لأن المقصود بالرسول من بعث بكتاب ، وبالنبى من بعث بغير كتاب ، أو المقصود بالرسول من بعث بشرع جديد ، وبالنبى من بعث لتقرير شرع من قبله .
ولفظ { تمنى } هنا : فسره العلماء بتفسيرين :
أولهما : أنه من التَّمَنِّى ، بمعنى محبة الشىء ، وشدة الرغبة فى الحصول عليه ، ومفعول " ألقى " محذوف والمراد بإلقاء الشيطان فى أمنيته : محاولته صرف الناس عن دعوة الحق ، عن طريق إلقاء الأباطيل فى نفوسهم ، وتثبيتهم على ما هم فيه من ضلال .
والمعنى : وما أرسلنا من قبلك - يا محمد - من رسول ولا نبى ، إلا إذا تمنى هداية قومه إلى الدين الحق الذى جاءهم به من عند ربه ، ألقى الشيطان الوساوس والشبهات فى طريق أمنيته لكى لا تتحقق هذه الأمنية ، بأن يوهم الشيطان الناس بأن هذا الرسول أو النبى ساحر أو مجنون ، أو غير ذلك من الصفات القبيحة التى برأ الله - تعالى - منها رسله وأنبياءه .
قال - تعالى - : { كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } والآية الكريمة على هذا التفسير واضحة المعنى ، ويؤيدها الواقع ، إذ أن كل رسول أو نبى بعثه الله - تعالى - كان حريصا على هداية قومه ، وكان يتمنى أن يؤمنوا جميعا ، بل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كاد يهلك نفسه هما وغما بسبب إصرار قومه على الكفر .
قال - تعالى - : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } إلا أن قوم كل رسول أو نبى منهم من آمن به .
ومنهم من أعرض عنه بسبب إغراء الشيطان لهم ، وإيهامهم بأن ما هم عليه من ضلال هو عين الهدى .
وإلى هذا التفسير أشار صاحب الكشاف بقوله : " قوله - تعالى - : { مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } دليل بين على تغاير الرسول والنبى . والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء : من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه والنبى غير الرسول : من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله .
والسبب فى نزول هذه الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أعرض عنه قومه وشاقوه ، وخالفته عشيرته ولم يشايعوه فى ما جاء به : تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ، ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيرهم وعنادهم .
أما التفسير الثانى للفظ { تمنى } فهو أنه بمعنى قرأ وتلا . ومنه قو حسان بن ثابت ، فى رثاء عثمان بن عفان رضى الله عنه :
تمنى كتاب الله أول لَيْلِهِ . . . وآخره لاقى حمام المقادر
أى : قرأ وتلا كتاب الله فى أول الليل . وفى آخر الليل وافاه أجله .
ومفعول { أَلْقَى } على هذا المعنى محذوف - أيضا - والمراد بما يلقيه الشيطان فى قراءته : ما يلقيه فى معناها من أكاذيب وأباطيل ، ليصد الناس عن اتباع ما يقرؤه الرسول وما يتلوه ، وليس المراد أنه يلقى فيها ما ليس منها بالزيادة أو بالنقص ، فإن ذلك محال بالنسبة لكتاب الله - تعالى - الذى تكفل - سبحانه - بحفظه فقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } والمعنى : وما أرسلنا من قبلك - أيها الرسول الكريم - من رسول ولا نبى إلا إذا قرأ شيئا مما أنزلناه عليه ، القى الشيطان فى معنى قراءته الشبه والأباطيل ، ليصد الناس عن اتابع ما يتلوه عليهم هذا الرسول أو النبى .
قال الآلوسى - رحمه الله - : والمعنى : وما أرسلنا من قبلك رسولا ولا نبيا ، إلا وحاله أنه إذا قرأ شيئا من الآيات ، ألقى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه ، ليجادلوه بالباطل ، ويردوا ما جاء به ، كما قال - تعالى - : { . . . وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ . . } وقال - سبحانه - : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً . . } وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم } إن محمدا يحل ذبيحة نفسه ويحرم ما ذبحه الله . وكقولهم عند سماع قراءته لقوله - تعالى - { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ . . } إن عيسى قد عبد من دون الله ، وكذلك الملائكة قد عبدوا من دون الله .
والآية الكريمة { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان } على هذا التفسير - أيضا - واضحة المعنى ، إذا المراد بما يلقيه الشيطان فى قراءة الرسول أو النبى ، تلك الشبه والأباطيل التى يلقيها فى عقول الضالين ، فيجعلهم يؤولونها تأويلا سقيما ويفهمونها فهما خاطئا .
وقوله - تعالى - : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } بيان لسنته - سبحانه - التى لا تتخلف فى إحقاق الحق . وإبطال الباطل .
وقوله { فَيَنسَخُ } من النسخ بمعنى الإزالة . يقال : نسخت الشمس الظل إذا أزالته .
أى : فيزيل - سبحانه - بمقتضى قدرته وحكمته ما ألقاه الشيطان فى القلوب التى شاء الله - تعالى - لها الإيمان والثبات على الحق ثم يحكم - سبحانه - آياته بأن يجعلها متقنة ، لا تقبل الرد ، ولا تحتمل الشك فى كونها من عند - عز وجل - والله عليم بجميع شئون خلقه ، حكيم فى كل أقواله وأفعاله وتصرفاته .
إن الرسل عندما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس ، يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة ، وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتبعوه . . ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة والرسل بشر محدودو الأجل . وهم يحسون هذا ويعلمونه . فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق . . يودون مثلا لو هادنوا الناس فيما يعز على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات فيسكتوا عنها مؤقتا لعل الناس أن يفيئوا إلى الهدى ، فإذا دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة ! ويودون مثلا لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة ، على أمل أن تتم فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة !
ويودون . ويودون . من مثل هذه الأماني والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها . . ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة ، وفق موازينها الدقيقة ، ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . فالكسب الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم . . هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين ، ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق . فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف ، وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش ، مستقيمة لاعوج فيها ولا انحناء . .
ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية ، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات ، فرصة للكيد للدعوة ، وتحويلها عن قواعدها ، والقاء الشبهات حولها في النفوس . . ولكن الله يحول دون كيد الشيطان ، ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات ، ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل ، وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة . كما حدث في بعض تصرفات الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وفي بعض اتجاهاته ، مما بين الله فيه بيانا في القرآن . .
بذلك يبطل الله كيد الشيطان ، ويحكم الله آياته ، فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب :
عطف على جملة { قل ياأيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين } [ الحج : 49 ] لأنه لما أفضى الكلام السابق إلى تثبيت النبي عليه الصلاة والسلام وتأنيس نفسه فيما يلقاه من قومه من التكذيب بأن تلك شنشنة الأمم الظالمة من قبلهم فيما جاء عقبَ قوله : { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة } [ الحج : 48 ] الخ . . وأنه مقصور على النّذارة فمن آمن فقد نجا ومن كفر فقد هلك ، أريد الانتقال من ذلك إلى تفصيل تسليته وتثبيته بأنه لقي ما لقيه سلفُه من الرسل والأنبياء عليهم السلام ، وأنه لم يسلم أحد منهم من محاولة الشيطان أن يفسد بعض ما يحاولونه من هدي الأمم وأنهم لقُوا من أقوامهم مكذّبين ومصدّقين سنةَ الله في رُسله عليهم السلام .
فقوله : { من رسول ولا نبيء } نص في العموم ، فأفاد أنّ ذلك لم يعدُ أحداً من الأنبياء والرسل .
وعطف { نبي } على { رسول } دالّ على أنّ للنبي مَعنى غيرُ معنى الرسول :
فالرسول : هو الرجل المبعوث من الله إلى الناس بشريعة . والنبي : مَن أوحَى الله إليه بإصلاح أمر قوم بحملهم على شريعة سابقةٍ أو بإرشادهم إلى ما هو مستقر في الشّرائع كلها فالنبي أعمّ من الرسول ، وهو التحقيق .
والتمنّي : كلمة مشهورة ، وحقيقتها : طلب الشيء العسير حصولُه . والأمنية : الشيء المتمنّى . وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلُّهم صالحين مهتدين ، والاستثناءُ من عموممِ أحوال تابعة لعموم أصحابها وهو { من رسول ولا نبيء } ، أي ما أرسلناهم في حال من الأحوال إلاّ في حاللِ إذا تمنّى أحدُهم أمنية ألقى الشيطان فيها الخ ، أي في حال حصول الإلقاء عند حصول التمني لأنّ أماني الأنبياء خيرٌ محض والشيطان دأبُه الإفساد وتعطيل الخير .
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة ، وهو قصر إضافي ، أي دون أن نرسل أحداً منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان ومكره .
والإلقاء حقيقته : رمي الشيء من اليد . واستعير هنا للوسوسة وتسويل الفساد تشبيهاً للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس . ومنه قوله تعالى : { فكذلك ألقى السامري } [ طه : 87 ] وقوله : { فألقوا إليهم القول } [ النحل : 86 ] وكقوله تعالى : { فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها } [ طه : 96 ] على ما حققناه فيما مضى .
ومفعول { ألقى } محذوف دل عليه المقام لأنّ الشيطان إنما يلقي الشر والفساد ، فإسناد التمني إلى الأنبياء دل على أنه تمنّي الهدى والصلاح ، وإسناد الإلقاء إلى الشيطان دلّ على أنه إلقاء الضلال والفساد . فالتقدير : أدخل الشيطان في نفوس الأقوام ضلالات تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد .
ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول إلقاء ما يضادُّها ، كمن يمكر فيلقى السمّ في الدّسم ، فإلقاء الشيطان بوسوسته : أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان ، ويلقي في قلوب أيمّة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم ، ويروّج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البُرهان ، والله تعالى يُعيد الإرشاد ويكرّر الهدي على لسان النبي ، ويفضح وساوس الشيطان وسوءَ فعله بالبيان الواضح كقوله تعالى :
{ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] وقوله : { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً } [ فاطر : 6 ] . فالله بهديهِ وبيانه ينسخ ما يُلقِي الشيطان ، أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله الواضح ، ويزيد آيات دعوة رسله بياناً ، وذلك هو إحكام آياته ، أي تحقيقها وتثبيت مدلولها وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رِين على قلبه ، وقد تقدم معنى الآيات المحكمات في آل عمران .
وقد فسر كثيرٌ من المفسرين { تمنَى } بمعنى قَرَأ ، وتبعهم أصحاب كتب اللغة وذكروا بيتاً نسبوه إلى حسّان بن ثابت وذكروا قصة بروايات ضعيفة سنذكرها . وأيّا ما كان فالقول فيه هو والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواءٌ ، أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه ليهتدوا به ألقَى الشيطان في أمنيته ، أي في قراءته ، أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر . فشبه تسويل الشيطان بوسوسته للكافرين عدمَ امتثال النبي بإلقاء شيء في شيء لخلطه وإفساده .
وعندي في صحة إطلاق لفظ الأمنية على القراءة شك عظيم ، فإنه وإن كان قد ورد تمنّى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسّان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الأخير :
تمنى كتاب الله أولَ ليله *** تمنيَ داوود الزبورَ على مَهل
فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية .
ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنّى هدْي قومه أو حرَص على ذلك فلقي منهم العناد ، وتمنّى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يُقْصر النبيءُ من حرصه أو أن يضجره ، وهي خواطر تلوح في النفس ولكن العصمة تعترضها فلا يلبث ذلك الخاطر أن ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كلّف به من الدأب على الدعوة والحرص على الرشد . فيكون معنى الآية على هذا الوجه ملوّحاً إلى قوله تعالى : { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سُلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين } [ الأنعام : 35 ] .
و { ثُمّ } في قوله : { ثم يحكم الله آياته } للترتيب الرتبي ، لأنّ إحكام الآيات وتقريرها أهمّ من نَسخ ما يُلقي الشيطان إذ بالإحكام يتضح الهُدى ويزدادُ ما يلقيه الشيطان نسخاً .
وجملة { والله عليم حكيم } معترضة .
ومعنى هذه الآية : أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله ويعظونهم ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت ويقترب القوم من الإيمان ، كما حكى الله عن المشركين قولهم : { أهذا الذي بعث الله رسولاً إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } [ الفرقان : 41 - 42 ] فيأتي الشيطان فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار فينكصون على أعقابهم ، وتلك الوساوس ضروب شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم ، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم ، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حُكيت عنهم في تفاصيل القرآن ، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم ويصدّون عن دعوة رسلهم ، وذلك هو الصبر الذي في قوله : { لولا أن صبرنا عليها } [ الفرقان : 42 ] وقوله : { وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم } [ ص : 6 ] . وكلما أفسد الشيطان دعوة الرّسل أمرَ الله رسلَه فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن ، فبتلك المعاودة يُنسخ ما ألقاه الشيطان وتُثبت الآيات السالفة . فالنسخ : الإزالة ، والإحكام : التثبيت . وفي كلتا الجملتين حذف مضاف ، أي ينسخ آثارَ ما يُلقي الشيطان ، ويُحكم آثارَ آياته .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... تأويل الكلام: ولم يرسل يا محمد مَنْ قَبْلك من رسول إلى أمة من الأمم ولا نبيّ محدّث ليس بمرسل، إلا إذا تمنى.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله «تمنى» في هذا الموضع، وقد ذكرت قول جماعة ممن قال: ذلك التمني من النبيّ صلى الله عليه وسلم ما حدثته نفسه من محبته مقاربة قومه في ذكر آلهتهم ببعض ما يحبون، ومن قال ذلك محبة منه في بعض الأحوال أن لا تذكر بسوء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا قرأ وتلا أو حدّث... عن ابن عباس، قوله:"إذَا تَمنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمْنِيّتِهِ" يقول: إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه...
وهذا القول أشبه بتأويل الكلام، بدلالة قوله: "فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقي الشّيْطانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ "على ذلك لأن الآيات التي أخبر الله جلّ ثناؤه أنه يحكمها، لا شك أنها آيات تنزيله، فمعلوم أن الذي ألقى فيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالى ذكره أنه نسخ ذلك منه وأبطله ثم أحكمه بنسخه ذلك منه.
فتأويل الكلام إذن: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا تلا كتاب الله، وقرأ، أو حدّث وتكلم، وألقى الشيطان في كتاب الله الذي تلاه وقرأه أو في حديثه الذي حدث وتكلم. "فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشّيْطانُ" يقول: تعالى فيذهب الله ما يلقي الشيطان من ذلك على لسان نبيه ويبطله... وقوله: "ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ" يقول: ثم يخلص الله آيات كتابه من الباطل الذي ألقى الشيطان على لسان نبيه. "وَاللّهُ عَلِيمٌ" بما يحدث في خلقه من حدث، لا يخفى عليه منه شيء. "حَكِيمٌ" في تدبيره إياهم وصرفه لهم فيما شاء وأحَبّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال عامة أهل التأويل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا تمنى} أي تلا في صلاته، أو حدث نفسه، ألقى الشيطان على لسانه عند تلاوته...
والأشبه عندنا أن يكون على غير هذا الذي قالوا، وهو أن قوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} أي عند تلاوته القرآن في قلوب الكفرة ما يجادلون به رسول الله، ويحاجونه، فيشبهون بذلك على الأتباع ليتبعوهم. وهو نحو قولهم: إنه يحرم ما ذبحه الله: ويحل ما ذبح هو بنفسه، ونحو قولهم عند نزول قوله: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} (الأنبياء:) إن عيسى وعزيرا والملائكة عبدوا دون الملائكة، فهم حصب جهنم إذن... وأمثال هذا مما حاجوا رسول الله، وجادلوه به، فأخبر أنه ينسخ مجادلتهم ومحاجتهم رسوله، وأنه يحكم آياته: حين قال عند قولهم: إنه يحل ذبيح نفسه، ويحرم ذبيح الله. فبين أنه بم حرم هذا؟ وبم أحل الآخر؟ وهو قوله: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} (الأنعام: 121) ولكن كلوا مما ذكر اسم الله عليه، فبين أنه إنما أحل هذا بذكر اسم الله عليه، وحرم الآخر بترك ذكر اسم الله عليه.
وبين ما في قلوبهم أن عيسى عبد دون الله، والملائكة عبدوا دونه فهم ليسوا بحصب جهنم حين استثنى أولئك فقال: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} الآية (الأنبياء: 101) فأبطل مجادلتهم ومحاجتهم...
فهذا تأويل قوله: {فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته} نسخ ما ألقى الشيطان في قلوب أولئك الكفرة ما به جادلوه، وأحكم آياته بما ذكرنا.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} وهو الذي يأتيه جبرئيل بالوحي عياناً وشفاهاً {وَلاَ نَبِيٍّ} وهو الذي تكون نبوّته إلهاماً أو مناماً {إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى} أي أحبَّ شيئاً واشتهاه وحدّث به نفسه ما لم يؤمر به. {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي مراده ووجد إليه سبيلاً، وقال أكثر المفسرين: يعني بقوله: تمنى أي تلا وقرأ كتاب الله سبحانه {القي الشيطان في أُمنيّته} أي قراءته وتلاوته، وسمعت أبا القاسم الحبيب يقول: سمعت أبا الحسن علي بن مهدي الطبري يقول: ليس هذا التمنّي من القرآن والوحي في شيء وإنّما هو أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صفرت يده من المال ورأى ما بأصحابه من سوء الحال تمنّى الدنيا بقلبه وسوسة من الشيطان.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الشياطين يتعرَّضون للأنبياء عليهم السلام ولكن لا سلطانَ ولا تأثيرَ في أحوالهم منهم، ونبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- أفضل الجماعة.وإنما الشياطين تخييلٌ وتسويل من التضليل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ} دليل بيّن على تغاير الرسول والنبي. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال:"مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً" قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: "ثلثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً "والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء: من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه. والنبي غير الرسول: من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:
فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، أَظْهَرُهَا وَمَا فِيهَا ظَاهِرٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ فِي نَادٍ من أَنْدِيَةِ قَوْمِهِ، كَثِيرٌ أَهْلُهُ، فَتَمَنَّى يَوْمَئِذٍ أَلَّا يَأْتِيَهُ من اللَّهِ شَيْءٌ فَيَنْفِرُوا عَنْهُ يَوْمَئِذٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} فَقَرَأَ حَتَّى إذَا بَلَغَ إلَى قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}. أَلْقَى الشَّيْطَانُ كَلِمَتَيْنِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى. فَتَكَلَّمَ بِهَا، ثُمَّ مَضَى بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ كُلِّهَا، ثُمَّ سَجَدَ فِي آخَرِ السُّورَةِ، وَسَجَدَ الْقَوْمُ جَمِيعًا مَعَهُ، وَرَفَعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ تُرَابًا إلَى جَبْهَتِهِ وَسَجَدَ عَلَيْهِ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَلَمَّا أَمْسَى أَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ السُّورَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْكَلِمَتَيْنِ قَالَ: مَا جِئْتُك بِهَاتَيْنِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاِتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَك عَلَيْنَا نَصِيرًا} فَمَا زَالَ مَغْمُومًا مَهْمُومًا حَتَّى نَزَلَتْ: {وَمَا أَرْسَلْنَا من قَبْلِكَ من رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}.
وَفِي رِوَايَةٍ "أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لَهُ: لَقَدْ تَلَوْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى النَّاسِ شَيْئًا لَمْ آتِك بِهِ، فَحَزِنَ وَخَافَ خَوْفًا شَدِيدًا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ رَسُولٌ وَلَا نَبِيٌّ تَمَنَّى كَمَا تَمَنَّى، وَأَحَبَّ كَمَا أَحَبَّ، إلَّا وَالشَّيْطَانُ قَدْ أَلْقَى فِي أُمْنِيَّتِهِ كَمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ".
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمُوا أَنَارَ اللَّهُ أَفْئِدَتكُمْ بِنُورِ هُدَاهُ، وَيَسَّرَ لَكُمْ مَقْصِدَ التَّوْحِيدِ وَمَغْزَاهُ أَنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْرِفُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْآيَةِ فِي فَصْلِ تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ بِمَا نَرْجُو بِهِ عِنْدَ اللَّهِ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، فِي مَقَامِ الزُّلْفَى، وَنَحْنُ الْآنَ نَجْلُو بِتِلْكَ الْفُصُولِ الْغَمَاءَ، وَنُرَقِّيكُمْ بِهَا عَنْ حَضِيضِ الدَّهْمَاءِ، إلَى بِقَاعِ الْعُلَمَاءِ فِي عَشْرِ مَقَامَاتٍ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ إذَا أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِ الْمَلَكُ بِوَحْيِهِ، فَإِنَّهُ يَخْلُقُ لَهُ الْعِلْمَ بِهِ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ رَسُولٌ من عِنْدِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا صَحَّتْ الرِّسَالَةُ، وَلَا تَبَيَّنَتْ النُّبُوَّةُ، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْعِلْمَ بِهِ تَمَيَّزَ عِنْدَهُ من غَيْرِهِ، وَثَبَتَ الْيَقِينُ، وَاسْتَقَامَ سَبِيلُ الدِّينِ، وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ إذَا شَافَهَهُ الْمَلَكُ بِالْوَحْيِ لَا يَدْرِي أَمَلُك هُوَ أَمْ إنْسَانٌ، أَمْ صُورَةٌ مُخَالِفَةٌ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ أَلْقَتْ عَلَيْهِ كَلَامًا، وَبَلَّغَتْ إلَيْهِ قَوْلًا لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ من عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ، فَهَذِهِ سَبِيلٌ مُتَيَقَّنَةٌ، وَحَالَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ، لَا بُدَّ مِنْهَا، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَنْقُولِ وَلَا فِي الْمَعْقُولِ فِيهَا، وَلَوْ جَازَ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِيهَا، أَوْ يَتَشَبَّهَ بِهَا مَا أَمِنَاهُ عَلَى آيَةٍ، وَلَا عَرَفْنَا مِنْهُ بَاطِلًا من حَقِيقَةٍ؛ فَارْتَفَعَ بِهَذَا الْفَصْلِ اللَّبْسُ، وَصَحَّ الْيَقِينُ فِي النَّفْسِ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَ رَسُولَهُ من الْكُفْرِ، وَآمَنَهُ من الشِّرْكِ، وَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ من دِينِ الْمُسْلِمِينَ بِإِجْمَاعِهِمْ فِيهِ، وَإِطْبَاقِهِمْ عَلَيْهِ؛ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ، أَوْ يَشُكَّ فِيهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ من عُنُقِهِ؛ بَلْ لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي فِي الْأَفْعَالِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْكُفْرِ فِي الِاعْتِقَادِ؛ بَلْ هُوَ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ فِعْلًا وَاعْتِقَادًا. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بِأَوْضَحِ دَلِيلٍ.
الْمَقَامُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَرَّفَ رَسُولَهُ بِنَفْسِهِ، وَبَصَّرَهُ بِأَدِلَّتِهِ، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَعَرَّفَهُ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ من إخْوَتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ من أَمْرِ اللَّهِ مَا نَعْرِفُهُ الْيَوْمَ، وَنَحْنُ حُثَالَةُ أُمَّتِهِ؛ وَمَنْ خَطَرَ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ مِمَّنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ، غَيْرَ عَارِفٍ بِنَبِيِّهِ وَلَا بِرَبِّهِ.
الْمَقَامُ الرَّابِعُ: تَأَمَّلُوا -فَتَحَ اللَّهُ أَغْلَاقَ النَّظَرِ عَنْكُمْ- إلَى قَوْلِ الرُّوَاةُ الَّذِينَ هُمْ بِجَهْلِهِمْ أَعْدَاءٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِعَدَاوَتِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَلَسَ مَعَ قُرَيْشٍ تَمَنَّى أَلَّا يَنْزِلَ عَلَيْهِ من اللَّهِ وَحْيٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمَنْ مَعَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آثَرَ وَصْلَ قَوْمِهِ عَلَى وَصْلِ رَبِّهِ، وَأَرَادَ أَلَا يَقْطَعَ أُنْسَهُ بِهِمْ بِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ من عِنْدِ رَبِّهِ من الْوَحْيِ الَّذِي كَانَ حَيَاةَ جَسَدِهِ وَقَلْبِهِ، وَأُنْسَ وَحْشَتِهِ، وَغَايَةَ أُمْنِيَّتِهِ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ؛ فَإِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ من الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، فَيُؤْثِرُ عَلَى هَذَا مُجَالَسَةَ الْأَعْدَاءِ.
الْمَقَامُ الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَ الشَّيْطَانِ تِلْكَ الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا تُرْتَجَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَهُ مِنْهُ؛ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِالْمَلَكِ، وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ بِالْكُفْرِ، حَتَّى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا.
وَأَنَا من أَدْنَى الْمُؤْمِنِينَ مَنْزِلَةً، وَأَقَلِّهِمْ مَعْرِفَةً بِمَا وَفَّقَنِي اللَّهُ لَهُ، وَآتَانِي من عِلْمِهِ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ أَنَّ هَذَا كُفْرٌ لَا يَجُوزُ وُرُودُهُ من عِنْدِ اللَّهِ. وَلَوْ قَالَهُ أَحَدٌ لَكُمْ لَتَبَادَرَ الْكُلُّ إلَيْهِ قَبْلَ التَّفْكِيرِ بِالْإِنْكَارِ وَالرَّدْعِ، وَالتَّثْرِيبِ وَالتَّشْنِيعِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَجْهَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ الْقَوْلِ، وَيَخْفَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ، وَلَا يَتَفَطَّنُ لِصِفَةِ الْأَصْنَامِ بِأَنَّهَا الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا، وَأَنَّ شَفَاعَتَهَا تُرْتَجَى. وَقَدْ عَلِمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَا تَنْطِقُ وَلَا تَضُرُّ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَنْصُرُ وَلَا تَشْفَعُ، بِهَذَا كَانَ يَأْتِيه جِبْرِيلُ الصَّبَاح وَالْمَسَاء، وَعَلَيْهِ انْبَنَى التَّوْحِيدُ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ من جِهَةِ الْمَعْقُولِ وَلَا من جِهَةِ الْمَنْقُولِ، فَكَيْفَ يَخْفَى هَذَا عَلَى الرَّسُولِ؟ ثُمَّ لَمْ يَكْفِ هَذَا حَتَّى قَالُوا: إنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِيُعَارِضَهُ فِيمَا أَلْقَى إلَيْهِ الْوَحْيُ كَرَّرَهَا عَلَيْهِ جَاهِلًا بِهَا -تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ- فَحِينَئِذٍ أَنْكَرَهَا عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، وَقَالَ لَهُ: مَا جِئْتُك بِهَذِهِ. فَحَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ}، فَيَا لِلَّهِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ وَالْعَالَمِينَ من شَيْخٍ فَاسِدٍ وَسُوسٍ هَامِدٍ، لَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَافِيَةً لِمَا زَعَمُوا، مُبْطِلَةً لِمَا رَوَوْا وَتَقَوَّلُوا، وَهُوَ:
الْمَقَامُ السَّادِسُ: وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْعَرَبِيِّ: كَادَ يَكُونُ كَذَا: مَعْنَاهُ قَارَبَ وَلَمْ يَكُنْ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ قَارَبُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ الَّذِي أُوحِيَ إلَيْهِ، وَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ. وَهُوَ:
الْمَقَامُ السَّابِعُ: وَلَمْ يَفْتَرِ، وَلَوْ فَتَنُوك وَافْتَرَيْت لَاتَّخَذُوك خَلِيلًا، فَلَمْ تُفْتَتَنْ وَلَا افْتَرَيْت، وَلَا عَدُّوك خَلِيلًا. وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاك وَهُوَ:
الْمَقَامُ الثَّامِنُ: {لَقَدْ كِدْت تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ ثَبَّتَهُ، وَقَرَّرَ التَّوْحِيدَ وَالْمَعْرِفَةَ فِي قَلْبِهِ، وَضَرَبَ عَلَيْهِ سُرَادِقَ الْعِصْمَةِ، وَآوَاهُ فِي كَنَفِ الْحُرْمَةِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ إلَى نَفْسِهِ، وَرَفَعَ عَنْهُ ظِلَّ عِصْمَتِهِ لَحْظَةً لَأَلْمَمَت بِمَا رَامُوهُ، وَلَكِنَّا أَمَرْنَا عَلَيْك بِالْمُحَافَظَةِ، وَأَشْرَقْنَا بِنُورِ الْهِدَايَةِ فُؤَادَك، فَاسْتَبْصِرْ وَأَزِحْ عَنْك الْبَاطِلَ، وَادْحَرْ. فَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي عِصْمَتِهِ من كُلِّ مَا نُسِبَ إلَيْهِ، فَكَيْفَ يَتَأَوَّلُهَا أَحَدٌ؟ عَدُّوا عَمَّا نُسِبَ من الْبَاطِلِ إلَيْهِ.
الْمَقَامُ التَّاسِعُ: قَوْلُهُ: فَمَا زَالَ مَهْمُومًا حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا من قَبْلِكَ من رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الْآيَةَ.
فَأَمَّا غَمُّهُ وَحُزْنُهُ فَبِأَنْ تَمَكَّنَ الشَّيْطَانُ مِمَّا تَمَكَّنَ، مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يَنَالَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ تَأْثِيرُهُ.
الْمَقَامُ الْعَاشِرُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ فِي غَرَضِنَا، دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا، أَصْلٌ فِي بَرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَهُ عِنْدَنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا من قَبْلِكَ من رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أَمْنِيَّتِهِ} فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ من سُنَّتِهِ فِي رُسُلِهِ وَسِيرَتِهِ فِي أَنْبِيَائِهِ أَنَّهُمْ إذَا قَالُوا عَنْ اللَّهِ قَوْلًا زَادَ الشَّيْطَانُ فِيهِ من قِبَلِ نَفْسِهِ، كَمَا يَفْعَلُ سَائِرُ الْمَعَاصِي، كَمَا تَقُولُ: أَلْقَيْت فِي الدَّارِ كَذَا، وَأَلْقَيْت فِي الْعِكْمِ كَذَا، وَأَلْقَيْت فِي الْكِيسِ كَذَا. فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الشَّيْطَانَ زَادَ فِي الَّذِي قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَنَّ النَّبِيَّ قَالَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَرَأَ تَلَا قُرْآنًا مُقَطَّعًا، وَسَكَتَ فِي مَقَاطِعِ الْآيِ سُكُوتًا مُحَصَّلًا، وَكَذَلِكَ كَانَ حَدِيثُهُ مُتَرَسِّلًا مُتَأَنِّيًا، فَيَتَّبِعُ الشَّيْطَانُ تِلْكَ السَّكَتَاتِ الَّتِي بَيْنَ قَوْلِهِ: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى: {أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى}، فَقَالَ يُحَاكِي صَوْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّهُنَّ الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى.
فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لِقِلَّةِ الْبَصِيرَةِ وَفَسَادِ السَّرِيرَةِ فَتَلَوْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسَبُوهَا بِجَهْلِهِمْ إلَيْهِ، حَتَّى سَجَدُوا مَعَهُ اعْتِقَادًا أَنَّهُ مَعَهُمْ، وَعَلِمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ من عِنْدِ اللَّهِ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَرْفُضُونَ غَيْرَهُ، وَتُجِيبُ قُلُوبُهُمْ إلَى الْحَقِّ، وَتَنْفِرُ عَنْ الْبَاطِلِ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ ابْتِلَاءٌ من اللَّهِ وَمِحْنَةٌ. فَأَيْنَ هَذَا من قَوْلِهِمْ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا غَايَةُ الْبَيَانِ بِصِيَانَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْرَارِ وَالْإِعْلَانِ، عَنْ الشَّكِّ وَالْكُفْرَانِ.
وَقَدْ أَوْعَدْنَا إلَيْكُمْ تَوْصِيَةً أَنْ تَجْعَلُوا الْقُرْآنَ إمَامَكُمْ، وَحُرُوفَهُ أَمَامَكُمْ، فَلَا تَحْمِلُوا عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا، وَلَا تَرْبِطُوا فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَمَا هُدِيَ لِهَذَا إلَّا الطَّبَرِيُّ بِجَلَالَةِ قَدْرِهِ، وَصَفَاءِ فِكْرِهِ، وَسَعَةِ بَاعِهِ فِي الْعِلْمِ، وَشِدَّةِ سَاعِدِهِ وَذِرَاعِهِ فِي النَّظَرِ؛ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى هَذَا الْغَرَضِ، وَصَوَّبَ عَلَى هَذَا الْمَرْمَى فَقَرْطَسَ بَعْدَمَا ذَكَرَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ كُلِّهَا بَاطِلَةٌ، لَا أَصْلَ لَهَا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَمَا رَوَاهَا أَحَدٌ وَلَا سَطَرَهَا، وَلَكِنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، عَصَمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ، وَجَعَلَنَا من أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغَرَانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظَنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا. ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما لاح من ذلك أن الشيطان ألقى للكفار شبهاً، يعاجزون بها بجدالهم في دين الله الذي أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بإظهاره، وتقريره وإشهاره، عطف عليه تسلية له صلى الله عليه وسلم قوله: {وما أرسلنا} أي بعظمتنا {من قبلك} ثم أكد الاستغراق بقوله: {من رسول} أي من ملك أو بشر بشريعة جديدة يدعو إليها {ولا نبي} سواء كان رسولاً أو لا، مقرر بالحفظ لشريعة سابقة -كذا قال البيضاوي وغيره في الرسول وهو منقوض بأنبياء بني إسرائيل الذين بين موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، فإن الله تعالى سماهم رسلاً في غير آية منها {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل} [البقرة: 87] فالصواب أن يقال: النبي إنسان أوحي إليه بشرع جديد أو مقرر، فإن أمر بالتبليغ فرسول أيضاً، والتقييد بشرع لإخراج مريم وغيرها من الأولياء {إلا إذا تمنى} أي تلا على الناس ما أمره الله به أو حدثهم به واشتهى في نفسه أن يقبلوه حرصاً منه على إيمانهم شفقة عليهم {ألقى الشيطان في أمنيته} أي ما تلاه أو حدث به واشتهى أن يقبل، من الشبه والتخيلات ما يتلقفه منه أولياءه فيجادلون به أهل الطاعة ليضلوهم (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} [الأنعام: 121] {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} [الأنعام: 112] كما يفعل هؤلاء فيما يغيرون به في وجه الشريعة أصولاً وفروعاً من قولهم: إن القرآن شعر وسحر وكهانة، وقولهم {لو شاء الله ما أشركنا} [الأنعام: 148] وقولهم {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] وقولهم: إن ما قلته الله بالموت حتف أنفه أولى بالأكل مما ذبح، وقولهم: نحن أهل الله وسكان حرمه، لا نخرج من الحرم فنقف في الحج بالمشعر الحرام ويقف الناس بعرفة، ونحن نطوف قي ثيابنا وكذا من ولدناه، وأما غيرنا فلا يطوف إلا عرياناً ذكراً كان أو أنثى إلا أن يعطيه أحد منا ما يلبسه، ونحو ذلك مما يريدون أن يطفئوا به نور الله... يضل بها من يشاء الله ثم يمحوها من أراد من عباده وما أراد من أمره {فينسخ} أي فيتسبب عن إلقائه أنه ينسخ {الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {ما يلقي الشيطان} فيبطله بإيضاح أمره ومج القلوب له.
ولما كان إبطاله سبحانه للشبه إبطالاً محكماً، لا يتطرق إليه لعلو رتبة بيانه- شبهة أصلاً، عبر بأداة التراخي فقال: {ثم يحكم الله} أي الملك الذي لا كفوء له {آياته} أي يجعلها جلية فيما أريد منها، وأدل دليل على أن هذا هو المراد مع الافتتاح بالمعاجزة في الآيات -الختام بقوله عطفاً على ما تقديره: فالله على ما يشاء قدير: {والله} أي الذي له الأمر كله {عليم} أي بنفي الشبه {حكيم} بإيراد الكلام على وجه لا تؤثر فيه عند من له أدنى بصيرة، وكذا ما مضى في السورة ويأتي من ذكر الجدال.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} أي رغب في انتشار دعوته، وسرعة علو شرعته {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي بما يصد عنها، ويصرف المدعوين عن إجابتها {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي يبطله ويمحقه. {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}، أي يثبتها: {فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} يعلم الإلقاءات الشيطانية وطريق نسخها من وجه وحيه {حَكِيمٌ}، يحكم آياته بحكمته...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى بحكمته البالغة، واختياره لعباده، وأن الله ما أرسل قبل محمد {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} أي: قرأ قراءته، التي يذكر بها الناس، ويأمرهم وينهاهم، {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي: في قراءته، من طرقه ومكايده، ما هو مناقض لتلك القراءة، مع أن الله تعالى قد عصم الرسل بما يبلغون عن الله، وحفظ وحيه أن يشتبه، أو يختلط بغيره. ولكن هذا الإلقاء من الشيطان، غير مستقر ولا مستمر، وإنما هو عارض يعرض، ثم يزول، وللعوارض أحكام، ولهذا قال: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي: يزيله ويذهبه ويبطله، ويبين أنه ليس من آياته، و {يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} أي: يتقنها، ويحررها، ويحفظها، فتبقى خالصة من مخالطة إلقاء الشيطان، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أي: كامل القوة والاقتدار، فبكمال قوته، يحفظ وحيه، ويزيل ما تلقيه الشياطين، {حَكِيمٌ} يضع الأشياء مواضعها، فمن كمال حكمته، مكن الشياطين من الإلقاء المذكور، ليحصل ما ذكره بقوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والله الذي يحفظ دعوته من تكذيب المكذبين، وتعطيل المعوقين، ومعاجزة المعاجزين.. يحفظها كذلك من كيد الشيطان، ومن محاولته أن ينفذ إليها من خلال أمنيات الرسل النابعة من طبيعتهم البشرية. وهم معصومون من الشيطان ولكنهم بشر تمتد نفوسهم إلى أماني تتعلق بسرعة نشر دعوتهم وانتصارها وإزالة العقبات من طريقها. فيحاول الشيطان أن ينفذ من خلال أمانيهم هذه فيحول الدعوة عن أصولها وعن موازينها.. فيبطل الله كيد الشيطان، ويصون دعوته، ويبين للرسل أصولها وموازينها، فيحكم آياته، ويزيل كل شبهة في قيم الدعوة ووسائلها:
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم. ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، وإن الظالمين لفي شقاق بعيد. وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم..
لقد رويت في سبب نزول هذه الآيات روايات كثيرة ذكرها كثير من المفسرين. قال ابن كثير في تفسيره: "ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح. والله أعلم".
وأكثر هذه الروايات تفصيلا رواية ابن أبي حاتم. قال:حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي، حدثنا محمد بن إسحاق الشيبي، حدثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال:أنزلت سورة النجم، وكان المشركون يقولون:لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر. وكان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم؛ فكان يتمنى هداهم. فلما أنزل الله سورة النجم قال: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى؟ ألكم الذكر وله الأنثى؟) ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت فقال:وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى.. وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته.. فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وزلت بها ألسنتهم، وتباشروا بها، وقالوا:إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه.. فلما بلغ رسول الله [صلى الله عليه وسلم] آخر النجم سجد، وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك. غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه. فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين.
ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين، فاطمأنت أنفسهم -أي المشركون- لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وحدثهم به الشيطان أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيم آلهتهم. ففشت تلك الكلمة في الناس؛ وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين:عثمان بن مظعون وأصحابه؛ وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا مع رسول الله؛ وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه؛ وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة، فأقبلوا سراعا، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، وحفظه من الفرية، وقال: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان. ثم يحكم الله آياته. والله عليم حكيم. ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم. وإن الظالمين لفي شقاق بعيد).. فلما بين الله قضاءه، وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين، واشتدوا عليهم"..
قال ابن كثير:وقد ساق البغوي في تفسيره روايات مجموعة من كلام ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك، ثم سأل ها هنا سؤالا:كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله -صلوات الله وسلامه عليه- ثم حكى أجوبة عن الناس، من ألطفها أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك. فتوهموا أنه صدر عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن [صلى الله عليه وسلم] وعلى آله وسلم -والله أعلم.
وقال البخاري:قال ابن عباس: (في أمنيته) إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. فيبطل الله ما يلقي الشيطان (ثم يحكم الله آياته).
وقال مجاهد: (إذا تمنى) يعني إذا قال؛ ويقال أمنيته:قراءته.
وقال البغوي:وأكثر المفسرين قالوا:معنى قوله: (تمنى) أي تلا وقرأ كتاب الله (ألقى الشيطان في أمنيته) أي في تلاوته.
وقال ابن جرير عن تفسير (تمنى) بمعنى تلا:هذا القول أشبه بتأويل الكلام!
هذه خلاصة تلك الروايات في هذا الحديث الذي عرف بحديث الغرانيق.. وهو من ناحية السند واهي الأصل. قال علماء الحديث:إنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة. وقال أبو بكر البزار:هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي [صلى الله عليه وسلم] بإسناد متصل يجوز ذكره وهو من ناحية موضوعه يصادم أصلا من أصول العقيدة وهو عصمة النبي [صلى الله عليه وسلم] من أن يدس عليه الشيطان شيئا في تبليغ رسالته.
وقد أولع المستشرقون والطاعنون في هذا الدين بذلك الحديث، وأذاعوا به، وأثاروا حوله عجاجة من القول. والأمر في هذا كله لا يثبت للمناقشة، بل لا يصح أن يكون موضوعا للمناقشة.
وهناك من النص ذاته ما يستبعد معه أن يكون سبب نزول الآية شيئا كهذا، وأن يكون مدلوله حادثا مفردا وقع للرسول [صلى الله عليه وسلم] فالنص يقرر أن هذه القاعدة عامة في الرسالات كلها مع الرسل كلهم: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته).. فلا بد أن يكون المقصود أمرا عاما يستند إلى صفة في الفطرة مشتركة بين الرسل جميعا، بوصفهم من البشر، مما لا يخالف العصمة المقررة للرسل.
وهذا ما نحاول بيانه بعون الله. والله أعلم بمراده، إنما نحن نفسر كلامه بقدر إدراكنا البشري..
إن الرسل عندما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس، يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة، وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتبعوه.. ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة والرسل بشر محدودو الأجل. وهم يحسون هذا ويعلمونه. فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق.. يودون مثلا لو هادنوا الناس فيما يعز على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات فيسكتوا عنها مؤقتا لعل الناس أن يفيئوا إلى الهدى، فإذا دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة! ويودون مثلا لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة، على أمل أن تتم فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة!
ويودون. ويودون. من مثل هذه الأماني والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها.. ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة، وفق موازينها الدقيقة، ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فالكسب الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم.. هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين، ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق. فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف، وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش، مستقيمة لاعوج فيها ولا انحناء..
ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات، فرصة للكيد للدعوة، وتحويلها عن قواعدها، والقاء الشبهات حولها في النفوس.. ولكن الله يحول دون كيد الشيطان، ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات، ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل، وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة. كما حدث في بعض تصرفات الرسول [صلى الله عليه وسلم] وفي بعض اتجاهاته، مما بين الله فيه بيانا في القرآن..
بذلك يبطل الله كيد الشيطان، ويحكم الله آياته، فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب:
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {قل ياأيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين} [الحج: 49] لأنه لما أفضى الكلام السابق إلى تثبيت النبي عليه الصلاة والسلام وتأنيس نفسه فيما يلقاه من قومه من التكذيب بأن تلك شنشنة الأمم الظالمة من قبلهم فيما جاء عقبَ قوله: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة} [الحج: 48] الخ.. وأنه مقصور على النّذارة فمن آمن فقد نجا ومن كفر فقد هلك، أريد الانتقال من ذلك إلى تفصيل تسليته وتثبيته بأنه لقي ما لقيه سلفُه من الرسل والأنبياء عليهم السلام، وأنه لم يسلم أحد منهم من محاولة الشيطان أن يفسد بعض ما يحاولونه من هدي الأمم وأنهم لقُوا من أقوامهم مكذّبين ومصدّقين سنةَ الله في رُسله عليهم السلام.
فقوله: {من رسول ولا نبيء} نص في العموم، فأفاد أنّ ذلك لم يعدُ أحداً من الأنبياء والرسل.
وعطف {نبي} على {رسول} دالّ على أنّ للنبي مَعنى غيرُ معنى الرسول:
فالرسول: هو الرجل المبعوث من الله إلى الناس بشريعة. والنبي: مَن أوحَى الله إليه بإصلاح أمر قوم بحملهم على شريعة سابقةٍ أو بإرشادهم إلى ما هو مستقر في الشّرائع كلها فالنبي أعمّ من الرسول، وهو التحقيق.
والتمنّي: كلمة مشهورة، وحقيقتها: طلب الشيء العسير حصولُه. والأمنية: الشيء المتمنّى. وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلُّهم صالحين مهتدين، والاستثناءُ من عموممِ أحوال تابعة لعموم أصحابها وهو {من رسول ولا نبيء}، أي ما أرسلناهم في حال من الأحوال إلاّ في حاللِ إذا تمنّى أحدُهم أمنية ألقى الشيطان فيها الخ، أي في حال حصول الإلقاء عند حصول التمني لأنّ أماني الأنبياء خيرٌ محض والشيطان دأبُه الإفساد وتعطيل الخير.
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة، وهو قصر إضافي، أي دون أن نرسل أحداً منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان ومكره.
والإلقاء حقيقته: رمي الشيء من اليد. واستعير هنا للوسوسة وتسويل الفساد تشبيهاً للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس. ومنه قوله تعالى: {فكذلك ألقى السامري} [طه: 87] وقوله: {فألقوا إليهم القول} [النحل: 86] وكقوله تعالى: {فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها} [طه: 96] على ما حققناه فيما مضى.
ومفعول {ألقى} محذوف دل عليه المقام لأنّ الشيطان إنما يلقي الشر والفساد، فإسناد التمني إلى الأنبياء دل على أنه تمنّي الهدى والصلاح، وإسناد الإلقاء إلى الشيطان دلّ على أنه إلقاء الضلال والفساد. فالتقدير: أدخل الشيطان في نفوس الأقوام ضلالات تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد.
ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول إلقاء ما يضادُّها، كمن يمكر فيلقى السمّ في الدّسم، فإلقاء الشيطان بوسوسته: أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان، ويلقي في قلوب أيمّة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم، ويروّج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البُرهان، والله تعالى يُعيد الإرشاد ويكرّر الهدي على لسان النبي، ويفضح وساوس الشيطان وسوءَ فعله بالبيان الواضح كقوله تعالى:
{يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27] وقوله: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً} [فاطر: 6]. فالله بهديهِ وبيانه ينسخ ما يُلقِي الشيطان، أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله الواضح، ويزيد آيات دعوة رسله بياناً، وذلك هو إحكام آياته، أي تحقيقها وتثبيت مدلولها وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رِين على قلبه، وقد تقدم معنى الآيات المحكمات في آل عمران.
وقد فسر كثيرٌ من المفسرين {تمنَى} بمعنى قَرَأ، وتبعهم أصحاب كتب اللغة وذكروا بيتاً نسبوه إلى حسّان بن ثابت وذكروا قصة بروايات ضعيفة سنذكرها. وأيّا ما كان فالقول فيه هو والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواءٌ، أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه ليهتدوا به ألقَى الشيطان في أمنيته، أي في قراءته، أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر. فشبه تسويل الشيطان بوسوسته للكافرين عدمَ امتثال النبي بإلقاء شيء في شيء لخلطه وإفساده.
وعندي في صحة إطلاق لفظ الأمنية على القراءة شك عظيم، فإنه وإن كان قد ورد تمنّى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسّان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الأخير:
تمنى كتاب الله أولَ ليله *** تمنيَ داوود الزبورَ على مَهل
فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية.
ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنّى هدْي قومه أو حرَص على ذلك فلقي منهم العناد، وتمنّى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يُقْصر النبيءُ من حرصه أو أن يضجره، وهي خواطر تلوح في النفس ولكن العصمة تعترضها فلا يلبث ذلك الخاطر أن ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كلّف به من الدأب على الدعوة والحرص على الرشد. فيكون معنى الآية على هذا الوجه ملوّحاً إلى قوله تعالى: {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سُلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين} [الأنعام: 35].
و {ثُمّ} في قوله: {ثم يحكم الله آياته} للترتيب الرتبي، لأنّ إحكام الآيات وتقريرها أهمّ من نَسخ ما يُلقي الشيطان إذ بالإحكام يتضح الهُدى ويزدادُ ما يلقيه الشيطان نسخاً.
وجملة {والله عليم حكيم} معترضة.
ومعنى هذه الآية: أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله ويعظونهم ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت ويقترب القوم من الإيمان، كما حكى الله عن المشركين قولهم: {أهذا الذي بعث الله رسولاً إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} [الفرقان: 41 -42] فيأتي الشيطان فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار فينكصون على أعقابهم، وتلك الوساوس ضروب شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حُكيت عنهم في تفاصيل القرآن، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم ويصدّون عن دعوة رسلهم، وذلك هو الصبر الذي في قوله: {لولا أن صبرنا عليها} [الفرقان: 42] وقوله: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم} [ص: 6]. وكلما أفسد الشيطان دعوة الرّسل أمرَ الله رسلَه فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن، فبتلك المعاودة يُنسخ ما ألقاه الشيطان وتُثبت الآيات السالفة. فالنسخ: الإزالة، والإحكام: التثبيت. وفي كلتا الجملتين حذف مضاف، أي ينسخ آثارَ ما يُلقي الشيطان، ويُحكم آثارَ آياته.
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
وفي صحيح البخاري، عن ابن عباس أنه قال: إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وكون تمنى بمعنى: قرأ وتلا. هو قول أكثر المفسرين. القول الثاني: أن تمنى في الآية من التمني المعروف، وهو تمنيه إسلام أمته وطاعتهم لله ولرسله.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وتأكيدا لما وعد الله به رسوله من أن يعصمه من الناس، وكشفا عن حقيقة المحاولات التي يحاولها أعداء الرسالات الظالمون المضللون، من بث البلبلة في الصفوف، ونشر الشبه المضللة بين ضعفاء النفوس، ثبت الله نبيه على الحق، وأطلعه على ما تعرض له الرسل والأنبياء السابقون من ابتلاء في هذا السبيل، فقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد} إشارة إلى ان جميع الرسل والأنبياء السابقين كانوا حريصين على هداية قومهم، متمنين لذلك مثابرين عليه، وأنه ما منهم من أحد إلا وكان الشيطان لدعوته بالمرصاد، واقفا في وجه نبوته ورسالته، يقاومه ويراغمه، بتزيين الكفر لقومه، وإلقاء الشبه في نفوسهم، لكن الله تعالى لا يلبث أن يمحو تلك الشبه من قلوبهم شيئا فشيئا حتى يؤمنوا، ثم يظهر الله آياته محكمة لا لبس فيها ولا خفاء، ولا يبقى لتلك الشبه وزخارف القول أي أثر.
أثارت هذه الآية جدلا طويلا بين العلماء، ودخل فيه كثير من الحشو والإسرائيليات، خاصة حول معنى {تمنى} وهي ترد في اللغة بمعنيين، وما دام اللفظ يحتمل معنيين فليس أحدهما أولى من الآخر إلا بمدى استعماله وشيوعه بين جمهور العربية، ويأتي التمني في اللغة بمعنى القراءة...
وتأتي تمنى بمعنى: أحب أن يكون الشيء، وهذا هو القول المشهور في لغة العرب. أما بمعنى قرأ فهو غير شائع، ويرد هذا القول، وينقضه نقضا أوليا مبدئيا قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي}
ومعلوم أن الرسول ينزل عليه كتاب يمكن أن يقرأه، أما النبي فلا ينزل عليه كتاب، بل يعمل بشرع من سبقه من الرسل. إذن: فما دام الرسول والنبي مشتركين في إلقاء الشيطان، فلا بد أن تكون الأمنية هنا بمعنى: أحب أن يكون الشيء، لا بمعنى قرأ، فأي شيء سيقرأ النبي وليس معه كتاب؟.
والذين فهموا التمني في قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} أنه بمعنى: قرأ، سواء أكانوا من العلماء المتعمقين أو السطحيين، قالوا: المعنى إذا قرأ رسول الله القرآن تدخل الشيطان في القراءة، حتى يدخل فيها ما ليس منها.
وذكروا دليلا على ذلك في قوله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20)} [النجم]: ثم أضافوا: والغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى، وكأن الشيطان أدخل في القرآن هذا الكلام، ثم نسخه الله بعد ذلك، وأحكم الله آياته.
لكن هذا القول يشكك في قضية القرآن، وكيف نقول به بعد أن قال الله تعالى في القرآن: {نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194)} [الشعراء].
وقال: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46) فما منكم من أحد عنه حاجزين (47)} [الحاقة].
إذن: الحق سبحانه وتعالى حفظ قرآنه وكلامه من أمثال هذا العبث، وكيف ندخل في القرآن هذه الكفريات؟ وكيف تستقيم عبارتهم: والغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترجى مع قول الله تعالى:
{أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20) ألكم الذكر وله الأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22)} [النجم]. كيف ينسجم هذا وذاك؟.
فهذا الفهم في تفسير الآية لا يستقيم، ولا يمكن للشيطان أن يدخل في القرآن ما ليس منه، لكن يحتمل تدخل الشيطان على وجه آخر: فحين يقرأ رسول الله القرآن، وفيه هداية للناس، وفيه مواعظ وأحكام ومعجزات، أتنتظر من عدو الله أن يخلي الجو للناس حتى يسمعوا هذا الكلام دون أن يشوش عليهم، ويبلبل أفكارهم، ويحول بينهم وبين سماعه؟
فإذا تمنى الرسول يعني: قرأ ألقى الشيطان في أمنيته، وسلط أتباعه من البشر يقولون في القرآن: سحر وشعر وإفك وأساطير الأولين. فدور الشيطان- إذن- لا أن يدخل في كلام الله ما ليس منه، فهذا أمر لا يقدر عليه ولا يمكنه الله من كتابه أبدا، إنما يمكن أن يلقي في طريق القرآن وفهمه والتأثر به العقبات والعراقيل التي تصد الناس عن فهمه والتأثر به، وتفسد القرآن في نظر من يريد أن يؤمن به.
لكن، هل محاولة تشويه القرآن هذه وصد الناس عنه جاءت بنتيجة، وصرفت الناس فعلا عن كتاب الله؟.
لقد خيب الله سعيه، ولم تقف محاولاته عقبة في سبيل الإيمان بالقرآن والتأثر به، لأن القرآن وجد قلوبا وآذانا استمعت وتأملت فآمنت وانهارت لجلاله وعظمته وخضعت لأسلوبه وبلاغته، فآمنوا به واحدا بعد الآخر.
ثم يقول تعالى: {فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم} يعني: ألغى وأبطل ما ألقاه الشيطان من الأباطيل والعقبات التي أراد بها أن يصد الناس عن القرآن، وأحكم الله آياته، وأوضح أنها منه سبحانه، وأنه كلام الله المعجز الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
هذا على قول من اعتبر أن {تمنى} بمعنى: قرأ.
أما على معنى أنها الشيء المحبوب الذي نتمناه، فنقول: الرسول الذي أرسله الله تعالى بمنهج الحق إلى الخلق، فإن كان قادرا على تطبيق المنهج في نفسه فإن أمنيته أن يصدق وأن يطاع فيما جاء به، أمنيته أن يسود منهجه ويسيطر ويسوس به حركة الحياة في الناس.
والنبي أو الرسول هو أولى الناس بقومه، وهو أحرصهم على نفعهم وهدايتهم، والقرآن خير يحب للناس أن يأخذوا به عملا بقوله (صلى الله عليه وسلم):"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
لكن، هل يترك الشيطان لرسول الله أن تتحقق أمنيته في قومه أم يضع في طريقه العقبات، ويحرك ضده النفوس، فيتمرد عليه قومه حيث يذكرهم الشيطان بما كان لهم من سيادة ومكانة سيفقدونها بالإسلام؟.
وهكذا يلقي الشيطان في أمنية الرسول {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} وما كان الشيطان ليدع القرآن ينفذ إلى قلوب الناس أو حتى آذانهم، أليس هو صاحب فكرة: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه (26)} [فصلت].
إن الشيطان لو لم يلق العراقيل في سبيل سماع القرآن ويشكك فيه لآمن به كل من سمعه، لأن للقرآن حلاوة لا تقاوم، وأثرا ينفذ إلى القلوب مباشرة.
ومع ذلك لم يفت ما ألقى الشيطان في عضد القرآن، ولا في عضد الدعوة، فأخذت تزداد يوما بعد يوم، ويزداد عدد المؤمنين بالقرآن المصدقين به، المهم أن نتنبه: كيف نستقبل القرآن، وكيف نتلقاه، لا بد أن نستقبله استقبال الخالي من هوى، فالذي يفسد الأحكام أن تستقبل وتدخل على هوى سابق.
وسبق أن قلنا: إن الحيز الواحد لا يسع شيئين في وقت واحد، لا بد أن تخرج أحدهما لتدخل الآخر، فعليك- إذن- أن تخلي عقلك وفكرك تماما، ثم تستقبل كلام الله، وابحث فيه كما شئت، فسوف تنتهي إلى الإيمان به شريطة أن تصفي له قلبك، فلا تبق في ذهنك ما يعكر صفو الفطرة التي خلقها الله فيك، عندها سيأخذ القرآن طريقه إلى قلبك، فإذا أشرب قلبك حب القرآن، فلا يزحزحه بعد ذلك شيء.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن دراستنا لشخصية النبي محمد (ص) تدلّ على أنه كان واعياً كل الوعي لعقيدة التوحيد التي تمثل جوهر رسالته بمستوى لا يسمح بوجود أيّة حالة التقاء بينه وبين المشركين لجهة ما يتعلّق بالأوثان وبعبادتها، لأنه كان يعمل على تعميق الفصل بين عقيدة الشرك وعقيدة التوحيد، كي لا يقترب الشرك من التوحيد، ونلاحظ ذلك في سورة «الكافرون» التي تعبر عن حساسية مفرطة ضد الشرك، فهو ينتبه إلى أيّة كلمةٍ تصدر من الآخرين في ذلك، فكيف يغفل عما يصدر منه؟! لقد كان التوحيد كل فكره، وكان الوصول إليه كل همّ دعوته، والهدف الأساس الذي سعى إلى إيصال الناس إليه، فكيف يمكن أن يسيء إليه في كلامه؟! إن هذا لا يمكن أن يقول به إنسان يحترم العقل في تحليله للأمور...
وقد تكون المسألة متحركةً في خطّ الإيحاء باستخدام أسلوب يوحي بغير ما يريده، في محاولة لاحتواء الساحة بالموقف المهادن للمشركين والمجامل لعقيدتهم، دون إعطاء أيّ اعتراف بعقيدتهم أو الانجذاب إليها، وذلك عبر باب السكوت عنهم، والاكتفاء بالإعلان عن وحدانية الله من ناحية إيجابية تعلن وتقرّ عبادته، دون الانطلاق في الناحية السلبية التي ترفض عبادة غيره، ليكون ذلك بمثابة الهدنة التي تخفّ فيها حدّة الصراع، من أجل خلق جوّ ملائم للحوار معهم. قد تكون هذه الأفكار وأمثالها هي التي كانت تخطر في ذهن النبي محمد (ص) في بعض الحالات الصعبة، كما كانت تخطر في أذهان الأنبياء والرسل من قبله، عندما تشتد التحديات أمام الدعوة، ويتعرض المؤمنون للزلزال النفسي تحت تأثير الضغوط الهائلة التي تضغط عليهم بقسوة...
ولكن هذه الأفكار لا تترك أثراً في الواقع، ولا تنبع من موقع مستقر في عمق الذات، بل هي خطرات تطوف بالذهن، وتتحرك بسرعة في مظاهر السلوك،... ولكنها سرعان ما تزول أمام الحاجة إلى الموقف الحاسم الذي يفصل بين الإيمان والشرك بفاصل واضح، لا مجال فيه لأيّة مهادنة أو لقاء، لأن المسألة تتصل بالأسس لا بالتفاصيل...
{فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ} ويزيله من فكر النبي أو الرسول وقلبه، حتى لا يبقى منه أيّ أثر سلبي على حركة الرسالة فكرة وأسلوباً، لأن الله يتعهد رسله بالرعاية في مشاعرهم وأفكارهم، كما تعهدهم في حياتهم وحركتهم في خط الرسالة، رعايةً لرسالته من خلالهم، {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} ويثبتها، فلا يدع أيّ مجالٍ للريب فيها، من أية جهةٍ كانت، وذلك بواسطة ألطافه التي يغدقها على رسوله، فيمنع أيَّ تحريف للكلمة، وأيّة زيادةٍ فيها، لأن ذلك هو السبيل لإِحكام الآيات على أساس الثقة الشاملة بموافقتها للوحي الإِلهي...
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يحيط بكل شيءٍ في الإنسان من الداخل والخارج، ويتعهده بحكمة في كل ما يحتاج إليه من عناصر وشروطٍ وأوضاع، ما يوجب اطمئنان الناس إلى سلامة خط الرسول في رسالته، وحفظ القرآن في آياته، واستقامة حركته بين هذا وذاك...