غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

42

ثم بين أن له أسوة بالأنبياء السالفة والرسل السابقة في كل ما يأتي ويذر فقال : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } خصص أولاً ثم عمم ، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً ، فقد لا يكون معه كتاب بل يؤمر بأن يدعو إلى شريعة من قبله ، وقد لا ينزل عليه الملك ظاهراً وإنما يرى الوحي في المنام أو يخبره بذلك رسول في عصره ، ولا بد للكل من المعجزة . " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً قيل : فكم الرسل منهم ؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً " قال عامة المفسرين في سبب نزول الآية : أنه صلى الله عليه وسلم لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم . وكان ذات يوم جالساً في نادٍ من أنديتهم وقد نزل عليه سورة { والنجم إذا هوى } [ النجم : 1 ] فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } [ النجم : 19-20 ] وكان ذلك التمني في نفسه فجرى على لسانه " تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى " فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته حتى ختم السورة ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين ، فتفرقت قريش مسرورين وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فأتاه جبرائيل وقال : ما صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاف خوفاً شديداً فأنزل الله تعالى هذه الآية . واعترض المحققون على هذه الرواية بالقرآن والسنة وبالمعقول . أما القرآن فكقوله { ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين } [ الحاقة : 44-46 ] وقوله { وما ينطق عن الهوى } [ النجم : 3 ] وقوله { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن } [ الإسراء : 74 ] نفى القرب من الركون فكيف به ؟ وأما السنة فهي ما روي عن ابن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنادقة ، وقد صنف فيه كتاباً وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي . هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم . وقد روى البخاري في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون الإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق . وأما المعقول فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لنفي الأوثان فكيف يثبتها ؟ وأيضاً إنه بمكة لم يتمكن من القراءة والصلاة عند الكعبة ولاسيما في محفل غاص . وأيضا إن معاداتهم إياه كانت أكثر من أن يغتروا بهذا القدر فيخروا سجداً قبل أن يقفوا على حقيقة الأمر . وأيضاً منع الشيطان من أصله أولى من تمكنه من الإلقاء ثم نسخه . وأيضا لوجوزنا ذلك لارتفع الأمان من الشرع ، ولناقض قوله

{ بلغ ما أنزل إليك } [ المائدة : 67 ] وحال الزيادة في الوحي كحال النقصان منه . إذا عرفت هذا فللأئمة في تأويل الآية قولان : الأول أن التمني بمعنى القراءة كما سلف في البقرة في قوله { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } [ الآية : 78 ] وما المراد بهذه القراءة فيه وجهان : أحدهما أنه يجوز أن يسهو النبي فيه ويشتبه على القارئ دون ما رووه من قوله " تلك الغرانيق العلى " . وثانيهما أنه قراءة هذه الكلمة وإنها قد وقعت بعينها .

وكيف وقعت ؟ ذهبت جماعة إلى أنه لما قرأ سورة والنجم اشتبه على الكفار فتوهموا بعض ألفاظه ذلك ، وزيف بأن هذا التوهم من الجم الغفير بعيد . وقيل : إن شيطان الجن ألقاها في البين فظنها الحاضرون من قول الرسول . وضعف بأن هذا يفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل ما يتكلم به النبي .

قلت : الإنصاف أنه غير ضعيف ولا يفضي إلى ارتفاع الوثوق لقوله سبحانه { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } وقيل : إن المتكلم به شيطان الإنس وهم الكفرة كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلقون فيها في إثناء وقفاته . وقيل : إن المتكلم به الرسول قاله سهواً كما روي عن قتادة ومقاتل أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان ، ولا ريب أنه يكون بإلقاء الشيطان . وضعف باستلزامه زوال الأمان عن الشرع وقد عرفت جوابه ، وبأن مثل هذا الكلام المطابق لفواصل السورة يستبعد وقوعها في النعاس . وزعم قوم أن الشيطان أجبره على ذلك ورد بنحو قوله تعالى { أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا }

[ النحل : 99 ] وذهب جماعة إلى نه قال ذلك اختياراً . ثم إنها باطلة أم لا فيه وجهان : أما أول ففيه طريقان : أحدهما قول ابن عباس في رواية أن " شيطاناً " يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل وألقاها إليه فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل واستعرضه فقرأها ، فلما بلغ إلى تلك الكلمة أنكر عليه جبريل فقال : إنه أتاني آتٍ على صورتك فألقاها على لساني . وثانيهما أنه لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من تلقاء نفسه ثم رجع عنها . والطريقان منحرفان عند المحققين ، لأن الأول يقتضي أن النبي لا يفرق بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث . والثاني أنه يؤدي إلى كونه خائناً في الوحي . وأما الوجه الثاني فتصحيحه أنه أراد بالغرانيق الملائكة ، وقد كان قرآناً منزلاً في وصف الملائكة فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته . أو هو في تقدير الاستفهام بمعنى الإنكار ، أو المراد بالإِثبات هاهنا النفي كقوله { يبين الله لكم أن تضلوا } [ النساء : 176 ] قال الجوهري : الغرنيق بضم الغين وفتح النون من طير الماء طويل العنق ، وإذا وصف به الرجال فواحدهم غرنيق وغرنوق بكسر الغين وفتح النون ، وغرنوق وغرانق بالضم وهو الشاب السيد والجمع غرانق بالفتح والغرانيق . القول الثاني أن التمني هو تمني القلب ومعنى الآية ما من نبي إلا وهو بحيث إذا تمنى أمراً من الأمور وسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى مالا ينبغي ، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ما هو الحق . وما تلك الوسوسة ؟ قيل : هي أن يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالخير وقد مر فساده .

وقال مجاهد : إنه كان يتمنى إنزال الوحي بسرعة دون تأخير فعرفه الله تعالى أن ذلك خاطر غير رحماني ، وإنما المصلحة هي إنزال الوحي على وفق الحوادث . وقيل : كان يتفكر في تأويل المجمل فيلقي الشيطان إلى جملته ما هو غير مراد ، وكان رد الله سبحانه إلى المعنى المراد بإنزال المحكمات . وقيل : معناه إذا أراد فعلاً يتقرب به إلى الله حال الشيطان بينه وبين مقصوده والله تعالى يثبته على ذلك نظيره

{ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله } [ الأعراف : 200 ] واعترض على هذا القول بأن تمني القلب كيف يكون فتنة للذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون ، وللقاسية قلوبهم وهم المشركون ؟ وأجيب بأنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسبه فيصير ذلك فتنة لمن ضعفت عقيدته في النبي . والحاصل أن الرسل لا ينفكون عن السهو وإن كانوا معصومين عن العمد فعليهم أن لا يتبعوا إلا ما يقطعون به لصدوره عن علم وذلك هو المحكم . وذهب أبو مسلم إلى أن حاصل الآية هو أن كل نبي من جنس البشر الذين هم بصدد الخطأ والنسيان من قبل وساوس الشيطان . ووجه النظم بين هذه الآية والتي قبلها أنه أمر بأن يقول إني لكم نذير لكني من البشر لا من الملائكة ولم يرسل الله قبلي ملكاً بل أرسل رجالا يوسوس الشيطان إليهم ، وعلى هذا فالملائكة لعدم إمكان استيلاء الشيطان عليهم أعظم درجة من الأنبياء وأقوى حالاً منهم . وقال صاحب الكشاف : المعنى أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت وهو أن لا ينزل ما ينفر أمتة ولا يوافق هواهم ، مكن الله الشيطان ليلقي في أمانيهم مثل ما ألقي في أمنيتك حتى سبق لسانك . فقلت " تلك الغرانيق " الخ . وسبب التمكين إرادة امتحان من حولهم والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين . فهذه جملة أقوال المفسرين في الآية .

وأما قوله { فينسخ الله } فالمراد إزالة تأثير ما يلقي الشيطان وهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام وقوله { ثم يحكم الله آياته } فالمراد بالآيات هي آيات القرآن أي يجعلها بحيث لا يختلط بها شيء من كلام غيره فتكون ثابتة في مظانها ، أو يجعلها بحيث لا يتطرق إليها تأويل فاسد معمول به عند الأمة . ويحتمل أن يكون المراد بأحكام الآيات الإرشاد إلى أدلة الأحكام الشرعية .

/خ64