السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

ولما لاح من ذلك أنّ الشيطان ألقى شبهاً يفاخرون فيها بجدالهم في دين الله الذي أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بإظهاره وتقريره وإشهاره عطف عليه تسلية له صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { وما أرسلنا } أي : بعظمتنا { من قبلك } ثم أكد الاستغراق بقوله تعالى : { من رسول } وهو نبيّ أمر بالتبليغ { ولا نبيّ } وهو من لم يؤمر بالتبليغ وهذا هو المشهور ، فمعنى أرسلنا أوحينا ، فالنبي أعم من الرسول ، ويدل عليه ما رواه الإمام أحمد من أنه صلى الله عليه وسلم " سئل عن الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، قيل : فكم الرسل ، فقال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً " .

وقيل : كما هو ظاهر الآية الرسول من جمع إلى المعجزة كتاباً منزلاً عليه ، والنبيّ غير الرسول من لا كتاب له ، وقيل : يمكن حمل الآية عليه أيضاً ، والرسول من يأتيه الكتاب ، والنبيّ يقال له ولمن يوحى إليه في المنام { إلا إذا تمنّى } أي : تلا على الناس ما أمره الله تعالى به أو حدّثهم به ، واشتهى في نفسه أن يقبلوه حرصاً منه على إيمانهم شفقة عليهم { ألقى الشيطان } من التشبيه والتخييلات { في أمنيته } أي : فيما تلاه أو حدث به واشتهى أن يقبل ما يتلقفه منه أولياؤه فيجادلون به أهل الطاعة ليضلوهم ، وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ، { وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً } [ الأنعام ، 112 ] كما يفعل هؤلاء فيما يفترقون به في وجه الشريعة أصولاً وفروعاً من قولهم في القرآن شعر وسحر وكهانة ، وقولهم : { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } [ الأنعام ، 148 ] ، وقولهم : إنّ ما قتله الله تعالى بالموت حتف أنفه أولى بالأكل مما ذبح ، وقولهم : نحن أهل الله وسكان حرمه ، ولا نخرج من الحرم فنقف في الحج بالمشعر الحرام ، وتقف الناس بعرفة ، ونحن نطوف في ثيابنا وكذا من ولدناه ، وأمّا غيرنا فلا يطوف إلا عارياً ذكراً كان أو أنثى إلا أن يعطيه أحدنا ما يلبسه ، ونحو ذلك مما يريدون أن يطفئوا به نور الله تعالى ، وكذا تأويلات الباطنية والاتحادية ، وأنظارهم التي ألحدوا فيها يضل الله تعالى بها من يشاء ، ثم يمحوها ممن أراد من عباده ، وما أراد من أمره { فينسخ } أي : فيتسبب عن إلقائه أنه ينسخ { الله } أي : المحيط بكل شيء علماً وقدرة { ما يلقي الشيطان } فيبطله بإيضاح أمره { ثم يحكم الله آياته } أي : ثم يجعلها جلية فيما يريد منها وأدل دليل على أنّ هذا هو المراد من الافتتاح بالمتأخرة في الآيات الختام بقوله عطفاً على ما تقديره فالله على ما يشاء قدير { والله عليم } بأحوال خلقه { حكيم } فيما يفعله بهم .

وقيل : إنه صلى الله عليه وسلم حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت ، وقال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم لما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من الله ما يقارب بينه وبين قومه ، وذلك لحرصه على إيمانهم ، فجلس ذات يوم في نادٍ من أندية قريش كثير أهله ، وأحب يومئذٍ أن يأتيه من الله تعالى شيء لم ينفروا عنه وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى سورة والنجم إذا هوى ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهواً إلى أن قال : تلك الغرانيق العلى ، وإنّ شفاعتهنّ لترتجى ففرح به المشركون ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءة السورة كلها ، وسجد في آخرها ، وسجد المسلمون لسجوده وجميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص ، فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها على جبهتهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود ، وتفرّقت قريش وقد سرهم ما سمعوا ، وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا تشفع بأحسن الذكر وقالوا : قد عرفنا أنّ الله تعالى يحيي ويميت ويرزق ، ولكن هذه آلهتنا تشفع لنا عنده ، فإذا جعل لهم محمداً نصيباً فنحن معه ، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال : يا محمد ماذا صنعت لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من الله تعالى خوفاً شديداً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تعزية له وكان به رحيماً ، وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش ، وقيل : قد أسلمت أهل مكة ، فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا : هم أحبّ إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا يتحدّثون به من إسلام أهل مكة كان باطلاً ، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار مستخفياً ، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله تعالى ، فغيّر ذلك . قال الرازي : هذه رواية عامّة المفسرين الظاهرية أما أهل التحقيق فقد قالوا : هذه الرواية باطلة موضوعة ، واحتجوا على البطلان بالقرآن والسنة والمعقول .

أمّا القرآن فبوجوه أحدها : قوله تعالى : { ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل 44 لأخذنا منه باليمين 45 ثم لقطعنا منه الوتين } [ الحاقة : 44 ، 45 ، 46 ] ثانيها : قوله تعالى : { قل ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي } [ يونس ، 15 ] ، ثالثها : قوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى } [ النجم ، 3 ] .

وأمّا السنة فمنها ما روي عن محمد بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة ، فقال : هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتاباً ، وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، فقد روى البخاري في صحيحه : «أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها ، وسجد المسلمون والكفار والإنس والجن » ، وليس فيه حديث الغرانيق .

وأما المعقول فمن وجوه : أحدها : أنّ من جوّز على النبيّ صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر ؛ لأنّ من المعلوم بالضرورة أن النبيّ كان معظم سعيه في نفي الأوثان ، ثانيها : قوله تعالى : { فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته } [ الحج ، 52 ] ، وإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول صلى الله عليه وسلم أقوى من نسخ هذه الآيات التي تبقى الشبهة معها فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى ، ثالثها : وهو أقوى الوجوه لو جوّزنا ذلك ارتفع الإيقان عن شرعه ولجوّزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك فيبطل قوله تعالى : { بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } [ المائدة ، 67 ] ، فإنه لا فرق في العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه .

وزاد الرازي أدلة أخرى على ذلك ثم قال : وقد عرفنا أنّ هذه القصة موضوعة أكثر ما في الباب أنّ جمعاً من المفسرين ذكروها وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة ، انتهى . وهذا هو الذي يطمئن إليه القلب وإن أطنب ابن حجر العسقلاني في صحتها ، ثم قال : وحينئذٍ فيتعين تأويل ما وقع فيها مما ينكر ، وهو قوله : ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق الخ ، انتهى .

وعلى القول بها قد سلك العلماء في ذلك مسالك أحسنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرتل القرآن فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات ، ونطق بتلك الكلمات محاكياً نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها ، وقال البيضاوي : بعد أن ذكر بعض هذه القصة وهو مردود عند المحققين ، وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه ، انتهى . قال ابن الأثير : والغرانيق هنا الأصنام ، وهي في الأصل للذكور من طير الماء واحدها غرنوق وغرنيق سمي به لبياضه قال : وكانوا يزعمون أنّ الأصنام تقرّبهم من الله وتشفع لهم فشبهت بالطيور التي تعلو إلى السماء وترتفع ، وقيل : تمنى أي : قرأ ، كقول حسان في حق عثمان بن عفان :

تمنى كتاب الله أوّل ليلة *** تمنى داود الزبور على رسل

أي : على تأن وتمهل .