البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

{ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وأن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً وإن الله لهو خير الرازقين ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفوّ غفور ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأنما يدعونه من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير } .

لما ذكر تعالى أنه يدفع عن الذين آمنوا وأنه تعالى أذن للمؤمنين في القتال وأنهم كانوا أخرجوا من ديارهم وذكر مسلاة رسوله صلى الله عليه وسلم بتكذيب من تقدم من الأمم لأنبيائهم وما آل إليه أمرهم من الإهلاك إثر التكذيب وبعد الإمهال ، وأمره أن ينادي الناس ويخبرهم أنه نذير لهم بعد أن استعجلوا بالعذاب ، وأنه ليس له تقديم العذاب ولا تأخيره ، ذكر له تعالى مسلاة ثانية باعتبار من مضى من الرسل والأنبياء وهو أنهم كانوا حريصين على إيمان قومهم متمنين لذلك مثابرين عليه ، وأنه ما منهم أحد إلاّ وكان الشيطان يراغمه بتزيين الكفر لقومه وبث ذلك إليهم وإلقائه في نفوسهم ، كما أنه صلى الله عليه وسلم كان من أحرص الناس على هدى قومه وكان فيهم شياطين كالنضر بن الحارث يلقون لقومه وللوافدين عليه شبهاً يثبطون بها عن الإسلام ، ولذلك جاء قبل هذه الآية { والذين سعوا في آياتنا معاجزين } وسعيهم بإلقاء الشبه في قلوب من استمالوه ، ونسب ذلك إلى الشيطان لأنه هو المغوي والمحرك شياطين الإنس للإغواء كما قال { لأغوينهم } وقيل : إن { الشيطان } هنا هو جنس يراد به شياطين الإنس .

ولنرجع إلى تفسير بعض ألفاظ الآية إذ قد قررنا ما لاح لنا فيها من المعنى فقوله { من قبلك } { من } فيه لابتداء الغاية و { من } في { من رسول } زائدة تفيد استغراق الجنس .

وعطف { ولا نبي } على { من رسول } دليل على المغايرة .

وقد تقدم لنا الكلام على مدلوليهما فأغنى عن إعادته هنا ، وجاء بعد { إلا } جملة ظاهرها الشرط وهو { إذا تمنى ألقى الشيطان } وقاله الحوفي ، ونصوا على أنه يليها في النفي مضارع لا يشترط فيه شرط ، فتقول : ما زيد إلاّ بفعل كذا ، وما رأيت زيداً إلاّ يفعل كذا ، وماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله { وما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا }

أو يكون الماضي مصحوباً بقد نحو : ما زيد إلاّ قد قام ، وما جاء بعد { إلاّ } في الآية جملة شرطية ولم يلها مرض مصحوب بقد ولا عار منها ، فإن صح ما نصوا عليه تؤول على أن إذا جردت للظرفية ولا شرط فيها وفصل بها بين { إلاّ } والفعل الذي هو { ألقى } وهو فصل جائز فتكون إلاّ قد وليها ماض في التقدير ووجد شرطه وهو تقدم فعل قبل { إلاّ } وهو { ما أرسلنا } وعاد الضمير في { تمنى } مفرداً وذكروا أنه إذا كان العطف بالواو عاد الضمير مطابقاً للمتعاطفين ، وهذا عطف بالواو وما جاء غير مطابق أولوه على الحذف فيكون تأويل هذا { وما أرسلنا من قبلك من رسول } { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } { ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه و { تمنى } تفعل من المنية .

قال أبو مسلم : التمني نهاية التقدير ، ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله ، ومنى الله لك أي قدر .

وقال رواه اللغة : الأمنية القراءة ، واحتجوا ببيت حسان وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكر فإن التالي مقدر للحروف فذكرها شيئاً فشيئاً انتهى .

وبيت حسان :

تمنى كتاب الله أول ليلة *** وآخره لاقى حمام المقادر

وقال آخر :

تمنى كتاب الله أول ليلة *** تمنى داوود الزبور على الرسل

وحمل بعض المفسرين قوله { إذا تمنى } على تلا و { في أمنيته } على تلاوته .

والجملة بعد { إلاّ } في موضع الحال أي { وما أرسلنا } إلاّ ، وحاله هذه .

وقيل : الجملة في موضع الصفة وهو قول الزمخشري في نحو : ما مررتُ بأحد إلاّ زيد خير منه ، والصحيح أن الجملة حالية لا صفة لقبولها واو الحال ، واللام في { ليجعل } متعلقة بيحكم قاله الحوفي .

وقال ابن عطية : بينسخ .

وقال غيرهما : بألقى ، والظاهر أنها للتعليل .

وقيل : هي لام العاقبة و { ما } في { ما يلقي } الظاهر أنها بمعنى الذي ، وجوَّز أن تكون مصدرية .

والضمير في { أمنيته } عائد على { الشيطان } أي في أمنية نفسه ، أي بسبب أمنية نفسه .

ومفعول { ألقى } محذوف لفهم المعنى وهو الشر والكفر ، ومخالفة ذلك الرسول أو النبيّ لأن الشيطان ليس يلقي الخير .

ومعنى { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } أي يزيل تلك الشبه شيئاً فشيئاً حتى يسلم الناس ، كما قال { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً } و { يحكم الله آياته } أي معجزاته يظهرها محكمة لا لبس فيها