فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

قوله : { مِن رَسُولٍ وَلاَ نَبِيّ } قيل : الرسول : الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عياناً ومحاورته شفاهاً ، والنبيّ : الذي يكون إلهاماً أو مناماً . وقيل : الرسول من بعث بشرع وأمر بتبليغه ، والنبيّ : من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله ، ولم ينزل عليه كتاب ، ولا بدّ لهما جميعاً من المعجزة الظاهرة { إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ } معنى تمنى : تشهى وهيأ في نفسه ما يهواه . قال الواحدي : وقال المفسرون : معنى تمنى : تلا . قال جماعة المفسرين في سبب نزول هذه الآية : أنه صلى الله عليه وسلم لما شقّ عليه إعراض قومه عنه تمنّى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم ، فكان ذات يوم جالساً في نادٍ من أنديتهم وقد نزل عليه سورة { والنجم إِذَا هوى } [ النجم : 1 ] . فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله : { أَفَرَأيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } [ النجم : 19 ، 20 ] . وكان ذلك التمني في نفسه ، فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه : [ تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى ] ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته حتى ختم السورة ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين ، فتفرّقت قريش مسرورين بذلك وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، فأتاه جبريل فقال : ما صنعت ؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاف خوفاً شديداً ، فأنزل الله هذه الآية ، هكذا قالوا .

ولم يصح شيء من هذا ، ولا ثبت بوجه من الوجوه ، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه ، قال الله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } [ الحاقة : 44 ، 46 ] . وقوله : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ] . وقوله : { وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } [ الإسراء : 74 ] . فنفى المقاربة للركون فضلاً عن الركون . قال البزار : هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل . وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم . وقال إمام الأئمة ابن خزيمة : إن هذه القصة من وضع الزنادقة . قال القاضي عياض في الشفاء : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه ، لا قصداً ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً . قال ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح . وإذا تقرّر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى { تمنى } : قرأ وتلا ، كما قدّمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين . وكذا قال البغوي : إن أكثر المفسرين قالوا معنى { تمنى } : تلا وقرأ كتاب الله ، ومعنى { أَلْقَي الشيطان فِي أُمْنِيَتِهِ } أي في تلاوته وقراءته . قال ابن جرير : هذا القول أشبه بتأويل الكلام ، ويؤيد هذا ما تقدّم في تفسير قوله : { لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ } [ البقرة : 78 ] . وقيل : معنى { تمنى } : حدّث ، ومعنى { أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ } في حديثه ، روي هذا عن ابن عباس ، وقيل : معنى { تمنى } : قال . فحاصل معنى الآية : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه ، فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي لا يهولنك ذلك ولا يحزنك ، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء ، وعلى تقدير أن معنى { تمنى } : حدّث نفسه كما حكاه الفرّاء والكسائي فإنهما قالا : تمنى إذا حدّث نفسه ، فالمعنى : أنه إذا حدّث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه . قال ابن عطية : لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة . وقد قيل في تأويل الآية : إن المراد بالغرانيق : الملائكة ، ويردّ بقوله : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان } أي يبطله ، وشفاعة الملائكة غير باطلة ؛ وقيل : إن ذلك جرى على لسانه صلى الله عليه وسلم سهواً ونسياناً وهما مجوّزان على الأنبياء ، ويرد بأن السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز كما هو مقرّر في مواطنه ، ثم لما سلاه الله سبحانه بهذه التسلية وأنها قد وقعت لمن قبله من الرسل والأنبياء بيّن سبحانه أنه يبطل ذلك ولا يثبته ولا يستمر تغرير الشيطان به فقال : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان } أي : يبطله ويجعله ذاهباً غير ثابت { ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته } أي يثبتها { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : كثير العلم والحكمة في كل أقواله وأفعاله .

/خ57