قوله : { مِن رَسُولٍ وَلاَ نَبِيّ } قيل : الرسول : الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عياناً ومحاورته شفاهاً ، والنبيّ : الذي يكون إلهاماً أو مناماً . وقيل : الرسول من بعث بشرع وأمر بتبليغه ، والنبيّ : من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله ، ولم ينزل عليه كتاب ، ولا بدّ لهما جميعاً من المعجزة الظاهرة { إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ } معنى تمنى : تشهى وهيأ في نفسه ما يهواه . قال الواحدي : وقال المفسرون : معنى تمنى : تلا . قال جماعة المفسرين في سبب نزول هذه الآية : أنه صلى الله عليه وسلم لما شقّ عليه إعراض قومه عنه تمنّى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم ، فكان ذات يوم جالساً في نادٍ من أنديتهم وقد نزل عليه سورة { والنجم إِذَا هوى } [ النجم : 1 ] . فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله : { أَفَرَأيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } [ النجم : 19 ، 20 ] . وكان ذلك التمني في نفسه ، فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه : [ تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى ] ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته حتى ختم السورة ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين ، فتفرّقت قريش مسرورين بذلك وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، فأتاه جبريل فقال : ما صنعت ؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاف خوفاً شديداً ، فأنزل الله هذه الآية ، هكذا قالوا .
ولم يصح شيء من هذا ، ولا ثبت بوجه من الوجوه ، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه ، قال الله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } [ الحاقة : 44 ، 46 ] . وقوله : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ] . وقوله : { وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } [ الإسراء : 74 ] . فنفى المقاربة للركون فضلاً عن الركون . قال البزار : هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل . وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم . وقال إمام الأئمة ابن خزيمة : إن هذه القصة من وضع الزنادقة . قال القاضي عياض في الشفاء : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه ، لا قصداً ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً . قال ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح . وإذا تقرّر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى { تمنى } : قرأ وتلا ، كما قدّمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين . وكذا قال البغوي : إن أكثر المفسرين قالوا معنى { تمنى } : تلا وقرأ كتاب الله ، ومعنى { أَلْقَي الشيطان فِي أُمْنِيَتِهِ } أي في تلاوته وقراءته . قال ابن جرير : هذا القول أشبه بتأويل الكلام ، ويؤيد هذا ما تقدّم في تفسير قوله : { لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ } [ البقرة : 78 ] . وقيل : معنى { تمنى } : حدّث ، ومعنى { أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ } في حديثه ، روي هذا عن ابن عباس ، وقيل : معنى { تمنى } : قال . فحاصل معنى الآية : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه ، فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي لا يهولنك ذلك ولا يحزنك ، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء ، وعلى تقدير أن معنى { تمنى } : حدّث نفسه كما حكاه الفرّاء والكسائي فإنهما قالا : تمنى إذا حدّث نفسه ، فالمعنى : أنه إذا حدّث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه . قال ابن عطية : لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة . وقد قيل في تأويل الآية : إن المراد بالغرانيق : الملائكة ، ويردّ بقوله : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان } أي يبطله ، وشفاعة الملائكة غير باطلة ؛ وقيل : إن ذلك جرى على لسانه صلى الله عليه وسلم سهواً ونسياناً وهما مجوّزان على الأنبياء ، ويرد بأن السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز كما هو مقرّر في مواطنه ، ثم لما سلاه الله سبحانه بهذه التسلية وأنها قد وقعت لمن قبله من الرسل والأنبياء بيّن سبحانه أنه يبطل ذلك ولا يثبته ولا يستمر تغرير الشيطان به فقال : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان } أي : يبطله ويجعله ذاهباً غير ثابت { ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته } أي يثبتها { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : كثير العلم والحكمة في كل أقواله وأفعاله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.