بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

قوله عز وجل : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى } ، يعني : حدث نفسه ، { أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ } ؛ أي في حديثه ؛ ويقال : تمنى أي قرأ ، كما قال القائل :

تَمَنَّى كِتَابَ الله أوَّلَ لَيْلِه . . . وَآخِرَهُ لاَقَى حِمَامَ المَقَادِرِ

وقال آخر :

تَمَنَّى دَاوُدُ الزَّبُورَ عَلَى الرِّسْلِp> > أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ p> > . . . أي في تلاوته : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان } ، يعني : يذهب الله به ويبطله . { ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته } ، يعني : بيَّن الله عز وجل الناسخ من المنسوخ . قال ابن عباس في رواية أبي صالح : أتاه الشيطان في صورة جبريل ، وهو يقرأ سورة { والنجم إِذَا هوى } ( النجم 1 ) عند الكعبة ، حتى انتهى إلى قوله : { أَفَرَءَيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } [ النجم : 19 ، 20 ] ، ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ، فلما سمعه المشركون يقرأ ذلك ، أعجبهم : فلما انتهى إلى آخرها ، سجد وسجد المشركون معه والمسلمون . فأتاه جبريل عليه السلام فقال : ما جئتك بهذا . فنزل : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ } الآية .

وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس نحو هذا قال : حدّثنا الخليل بن أحمد قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد قال : حدّثنا جعفر بن زيد الطيالسي قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد قال : حدّثنا أبو عاصم ، عن عمار بن الأسود ، عن سعيد بن جبير ، وعن ابن عباس قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { ومناة الثالثة الأخرى } ثم قال : تلك الغرانيق العلى وإن الشفاعة منها ترتجى ، فقال المشركون : قد ذكر آلهتنا . فنزلت الآية .

وقال مقاتل : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم والنجم بمكة عند مقام إبراهيم ، فنعس ، فقرأ تلك الغرانيق العلى . فلما فرغ من السورة ، سجد وسجد من خلفه فنزل { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ } ؛ وقال قتادة : لما ألقى الشيطان ، ما ألقى ، قال المشركون : قد ذكر الله آلهتنا بخير ففرحوا بذلك ؛ فذلك قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظالمين لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ الحج : 52/53 ] .

روى أسباط ، عن السدي ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأ سورة النجم ، فلما انتهى إلى قوله : { ومناة الثالثة الأخرى } [ النجم : 20 ] فألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ، حتى بلغ إلى آخر السورة ، سجد وسجد أصحابه وسجد المشركون لذكره آلهتهم . فلما رفع رأسه ، حملوه وأسندوا به بين قطري مكة ؛ حتى إذا جاءه جبريل عليه السلام عرض عليه ، فقرأ عليه الحرفين ، فقال جبريل عليه السلام معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا واشتد عليه ، فأنزل الله تعالى لتطييب نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره أن الأنبياء عليهم السلام قبله قد كانوا مثله .

ويقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وجلس عنده جماعة من المشركين ، فتمنى في نفسه أن لا يأتيه من الله شيء ينفرون منه ، فابتلاه الله تعالى بما ألقى الشيطان في أمنيته ؛ وقال بعضهم : تمنى : أي تفكر وحدث تلك الغرانيق العلى ، ولم يتكلم به ، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم كان حجة ، فلا يجوز أن يكون يجري على لسانه كلمة الكفر . وقال بعضهم : لما رآه الشيطان يقرأ ، خلط صوته بصوت النبي صلى الله عليه وسلم : فقرأ الشيطان : تلك الغرانيق ، فظن الناس أنه قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن قرأها ؛ وقال بعضهم : قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التعيير والزجر ، يعني : أنكم تعبدونها كأنهن الغرانيق العلى ، كما قال إبراهيم عليه السلام { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } [ الأنبياء : 63 ] وقال الزجاج : ألقى الشيطان في تلاوة ؛ فذلك محنة يمتحن الله تعالى بها من يشاء ؛ فجرى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم شيء من صفة الأصنام ، فافتتن بذلك أهل الشقاوة والنفاق . وروي عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار : أن ابن عباس كان يقرأ ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث ) والمحدث الذي يرى أمره في منامه من غير أن يأتيه الوحي .

ثم قال : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ، أي عليم بمَا ألقى الشيطان { حَكِيمٌ } حكم بالناسخ .