إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ } الرَّسولُ من بعثه الله تعالى بشريعةٍ جديدةٍ يدعُو النَّاسَ إليها ، والنَّبيُّ يعمُّه ومَن بعثه لتقريرِ شريعةٍ سابقةٍ كأنبياءِ بني إسرائيلَ الذين كانُوا بين موسى وعيسى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ولذلك شَبَّه عليه السَّلامُ علماءَ أُمَّتِه بهم . فالنَّبيُّ أعمُّ من الرَّسول ، ويدلُّ عليه أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سُئل عن الأنبياءِ فقال : « مائةُ ألفٍ وأربعةٌ وعشرونَ ألفاً{[555]} » قيل : فكم الرَّسولُ منهم ؟ فقال : « ثلاثمائةٌ وثلاثةَ عشرَ جَمًّا غفيراً{[556]} » . وقيل : الرَّسولُ من جمعَ إلى المعجزةِ كتاباً منزَّلاً عليه ، والنَّبيُّ غيرُ الرَّسولِ من لا كتابَ له . وقيل : الرَّسولُ من يأتيهِ المَلَكُ بالوحيِ ، والنَّبيُّ يقال لَه ولمن يُوحى إليهِ في المنامِ { إِلاَّ إِذَا تمنى } أي هيَّأ في نفسِه ما يهواه { أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ } في تشهِّيه ما يُوجب اشتغالَه بالدُّنيا كما قال عليه السَّلامُ : « وإنَّه ليُغانُ على قَلبي فأستغفرُ الله في اليَّومِ سبعينَ مَرَّة{[557]} » { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان } فيُبطله ويذهبُ به بعصمتِه عن الرُّكونِ إليه وإرشادِه إلى ما يُزيحه { ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته } أي يُثبت آياتِه الدَّاعية إلى الاستغراق في شؤون الحقِّ . وصيغةُ المضارع في الفعلينِ للدِّلالةِ على الاستمرار التَّجدُّدي . وإظهارُ الجلالة في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التَّقريرِ والإيذانِ بأنَّ الأُلوهيَّةَ من موجباتِ أحكامِ آياتِه الباهرةِ { والله عَلِيمٌ } مبالغٌ في العلمِ بكلِّ ما من شأنِه أنْ يُعلم ومن جُملتِه ما صدرَ عن العبادِ من قولٍ وفعلٍ عمداً أو خطأ { حَكِيمٌ } في كلِّ ما يفعلُ . والإظهارُ هاهنا أيضاً لما ذُكر مع ما فيه من تأكيد استقلالِ الاعتراضِ التَّذييليِّ ، قيل : حدَّث نفسَه بزوال المسكنةِ فنزلتْ ، وقيل : تمنَّى لحرصِه على إيمان قومِه أنْ ينزل عليه ما يُقرِّبهم إليه واستمرَّ به ذلك حتَّى كان في ناديهم فنزلتْ عليه سورةُ النَّجم فأخذَ يقرؤها فلمَّا بلغَ ومناةَ الثَّالثةَ الأُخرى وسوسَ إليه الشَّيطانُ حتَّى سبق لسانُه سهواً إلى أنْ قال تلكَ الغرانيقُ العُلا وإنَّ شفاعتهنَّ لتُرتجى ففرح به المشركون حتَّى شايعُوه بالسُّجودِ لمَّا سجدَ في آخرِها بحيث لم يبقَ في المسجد مؤمنٌ ولا مشركٌ إلاَّ سجد ثم نبَّهه جَبريل عليه السلام فاغتمَّ به فعزَّاه الله عزَّ وجلَّ بهذه الآيةِ وهو مردودٌ عند المحقِّقين ولئن صحَّ فابتلاءٌ يتميَّز به الثَّابتُ على الإيمانِ عن المتزلزلِ فيه ، وقيل : تمنَّى بمعنى قرأ كقوله : [ الطويل ]

تمنَّى كتابَ الله أوَّلَ ليلة *** تمنِّيَ داودَ الزَّبورَ على رسلِ{[558]}

وأمنيَّتُه قراءتُه وإلقاءُ الشَّيطانِ فيها أنْ يتكلَّم بذلك رافعاً صوتَه بحيثُ ظنَّ السَّامعون أنَّه من قراءة النَّبيِّ عليه السَّلامُ وقد رُدَّ بأنه أيضاً يخلُّ بالوثوقِ بالقُرآنِ ولا يندفعُ بقولِه تعالى : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته } لأنَّه أيضاً يحتملُه ، وفي الآيةِ دلالةٌ على جوازِ السَّهو من الأنبياءِ عليهم السلام وتطرق الوسوسةِ إليهم .


[555]:أخرجه أحمد في مسنده وفيه أن أبا ذر سأله صلى الله عليه وسلم: كم وفى عدد الأنبياء قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا.
[556]:أخرجه أحمد في المسند (5/178، 179، 266).
[557]:أخرجه مسلم في كتاب الذكر حديث رقم 41 وأبو داود في السنن في كتاب الوتر باب 26.
[558]:وهو بلا نسبة في لسان العرب (5/381) (علهز)، وتاج العروس (15/244) (علهز).