فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ } من لابتداء الغاية ، وهذا شروع في تسلية ثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التسلية الأولى .

{ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ } من زائدة لتأكيد النفي ، وفيه دليل بين على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي .

وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء فقال : ( مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، فقيل فكم الرسل منهم ؟ فقال : ثلاثمائة وثلاثة عشر ) {[1243]} ، والفرق بينهما أن الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا ومحاورته شفاها ، والنبي الذي يكون وحيه إلهاما أو مناما .

وقيل الرسول من بعث بشرع وأمر بتبليغه ، والنبي من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله ولم ينزل عليه كتاب ولا بد لهما جميعا من المعجزة الظاهرة ، وقرأ ابن مسعود ولا نبي ولا محدث ، وعن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مثله ، وزاد فنسخت محدث ، قال : والمحدثون صاحب يس ولقمان ومؤمن آل فرعون وصاحب موسى .

{ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } معنى تمني تشهي وهيأ في نفسه ما يهواه ، قال الواحدي ، قال المفسرون : معنى تمنى تلا ، قال جماعة المفسرين ، في سبب نزول هذه الآية : إنه صلى الله عليه وسلم لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم ، فكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم ، وقد نزل عليه سورة { والنجم إذا هوى } فأخذها يقرأها عليهم حتى بلغ قوله : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . وكان ذلك التمني في نفسه ، فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه : تلك الغرانيق{[1244]} العلى ، وإن شفاعتهن لترتجي ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته حتى ختم السورة ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين فتفرقت قريش مسرورين بذلك وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، فأتاه جبريل فقال ما صنعت ؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاف خوفا شديدا فأنزل الله هذه الآية ، هكذا قالوا .

ولم يصح شيء من هذا ولا ثبت بوجه من الوجوه ، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه ، حيث قال الله تعالى : { ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ، ثم لقطعنا منه الوتين } ، وقوله : { وما ينطق عن الهوى } .

وقوله : { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم } فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون .

قال البراز : هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل .

وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم .

وقال الإمام الأئمة ابن خزيمة : إن هذه القصة من وضع الزنادقة ، قال القاضي عياض في الشفاء : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا .

قال الرازي : هذه القصة باطلة موضوعة ، لا يجوز القول بها ، قال تعالى : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } وقال تعالى : { سنقرئك فلا تنسى } ولا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر ، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان ، ولو كفر ، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان ، ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك أي مما ألقاه الشيطان على لسانه ، ويبطل قوله تعالى : بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } فإنه لا فرق عند العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه .

فبهذه الوجوه النقلية والعقلية عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة انتهى ملخصا ، قال ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، والحاصل أن جميع الروايات في هذا الباب إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها ، وقد أسلفنا عن الحفاظ في هذا البحث ما فيه كفاية .

وفي الباب روايات من أحب الوقوف على جميعها فلينظرها في الدر المنثور للسيوطي ، ولا يأتي التطويل بذكرها هنا بفائدة فقد عرفناك أنها جميعها لا تقوم بها الحجة ، لأنه لم يروها أحد من أهل الصحة ، ولا أسندها ثقة بسند صحيح ، أو سليم متصل ، وإنما رواها المفسرون ، والمؤخرون المولعون بكل غريب الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم ، وقد دل على ضعف هذه القصة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها .

والذي جاء في الصحيح من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم فسجد فيها من كان معه غير أن شيخا من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته ، قال عبد الله : فلقد رأيته بعد قتل كافرا ، أخرجه البخاري ومسلم{[1245]} .

وصح من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس رواه البخاري ، فهذا الذي جاء في الصحيح لم يذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر تلك الألفاظ ولا قرأها والذي ذكره المفسرون عن ابن عباس في هذه القصة فقد رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جدا ، بل متروك لا يعتمد عليه ، وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدي فهذا توهين هذه القصة .

وقد أجابوا عنه من حيث المعنى بوجوه أخرى يطول ذكرها بلا فائدة زائدة وقد استوفاها الخازن في تفسيره ، والنسفي في المدارك ونبه الحافظ ابن حجر على ثبوت أصلها في الجملة ، وقال إن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح لكنها مراسيل ، وإذا تقرر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى . تمنى قرأ وتلا كما قدمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين .

قال البغوي : إن أكثر المفسرين قالوا معنى تمني تلا ، وقرأ كتاب الله ومعنى ألقى الشيطان في أمنيته أي في تلاوته وقراءته ، قال ابن جرير ، هذا القول أشبه بتأويل الكلام ، ويؤيد هذا ما تقدم في تفسير قوله : { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } وقيل معنى تمنى حدّث ، ومعنى في أمنيته في حديثه ، روي هذا عن ابن عباس ، وقيل معنى تمنى قال ، فحاصل معنى الآية أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا جرى على لسانه فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

أي لا يهولك ذلك ولا يحزنك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء وعلى تقدير أن معنى تمنى حدث نفسه كما حكاه الفراء والكسائي فإنهما قالا : يقال تمنى إذا حدث نفسه ، فالمعنى أنه إذا حدث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جرى على لسانه .

قال ابن عطية : لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة ، قال القاضي عياض : وهذا أحسن الوجوه وهو الذي يظهر ترجيحه ، وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل ، وقال في أمنيته في تلاوته ، وقد قيل في تأويل الآية : إن المراد بالغرانيق الملائكة ويرد بقوله الآتي : { فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } أي يبطله ، وشفاعة الملائكة غير باطلة .

وقيل إن ذلك جرى على لسانه سهوا ونسيانا وهما مجوزان على الأنبياء ، ويرد بأن السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز ، كما هو مقرر في مواطنه ، قال الضحاك : يعني بالتمني التلاوة ، والقراءة فينسخ الله أي جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال مجاهد : إذا تمنى أي تكلم وأمنيته كلامه ، فأخبر تعالى في هذه الآية أن سنة الله في رسله إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه فهذا نص في أن الشيطان زاد في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لأنه معصوم ، وقد سبق إلى ذلك الطبري مع جلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده في النظر فصوب هذا المعنى قاله الحافظ في الفتح ، ثم لما سلاه سبحانه بهذه التسلية وأنها قد وقعت لمن قبله من الرسل والأنبياء بين سبحانه أنه يبطل ذلك ولا يثبته ولا يستمر تغرير الشيطان فقال :

{ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } أي يبطله ويجعله ذاهبا غير ثابت { ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } أي يثبتها { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي كثير العلم والحكمة في كل أقواله وأفعاله .


[1243]:الإمام أحمد 5/266.
[1244]:هذه الرواية أدخلها على الإسلام يهودي تجلى الغموض عنه وإن وثقه بعض الناس، فإن هذه الرواية تشجب هذا التوثيق وتحجبه، ذلك أن ابن سعد في الطبقات يرويها عن رجل يدعى عبد الله بن حنطب ليس له صحبة، والطبري يرويها عن محمد بن كعب القرظي، كان أبوه من سبي بني قريظة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقه لأنه رآه دون البلوغ، فتزوج وخلف محمدا هذا وقد ولد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هنا ندرك أن هذه الرواية لم يجرؤ واحد على إسنادها لأحد الصحابة رضوان الله عليهم، وربما تكون قد دست من طريق بني قريظة وكان إرسالهم إياها عن طريق ابن حنطب وابن كعب. ويأتي بعد هذا ابن السائب الكلبي الواقدي فيرويانها عن ابن عباس؛ وحسبك فهما كذابان بالإجماع.
[1245]:مسلم 576 ـ البخاري 588.