الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

ثم قال تعالى : { وما أسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته }{[47101]} . قوله : ( من رسول ولا نبي ) : يدل على أن النبي هو المرسل ، وأن المرسل{[47102]} نبي ، لأنه أوجب في الآية للنبي الرسالة ، لأن معنى نبي : أنبأ عن الله ، ومعنى أنبأ عن الله : هو أخبر عن الله بما أرسله به ، فالنبي رسول والرسول نبي .

وقد قال قوم{[47103]} : / كل رسول نبي وليس كل نبي رسول ، وهذه الآية تدل على القول الأول .

ومعنى الآية عند أهل{[47104]} القول الثاني : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلى أمة ولا نبي محدث ليس بمرسل .

وكان نزول هذه الآية ، أن الشيطان ألقى لفظا من عنده على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما كان يتلوه من القرآن ، فاشتد ذلك على رسول الله فسلى الله بهذه الآية .

قال محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس{[47105]} : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناد من أندية قريش ، كثير أهله ، يتمنى ألا يأتيه من نبي الله شيء ، فينفروا عنه ، فأنزل الله تعالى : { والنجم إذا هوى }{[47106]} فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا بلغ : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } ، ألقى الشيطان في تلاوته كلمتين ( تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهم ترجى ) . فتكلم بها ثم مضى فقرأ إلى آخر السورة كلها فسجد وسجد القوم معه جميعا ورضوا بما تكلم به وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا تشفع لنا عنده إذا جعلت لها نصيبا فنحن معك . فلما أمسى النبي أتاه جبريل عليه السلام ، فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال جبريل صلى الله عليه وسلم : ما جئتك بهاتين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " افتريت على الله ، وقلت على الله ما لم يقل ، فأوحى الله تعالى إليه { وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحنا لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا } إلى قوله : { ثم لا تجد لك علينا نصيرا }{[47107]} فما زال النبي صلى الله عليه وسلم مغموما بذلك حتى نزلت : { وما أرسلنا من قبلك } إلى قوله : { والله عليم حكيم } وعلى هذا المعنى ذكره ابن جبير وأبو معاد .

وقال ابن عباس{[47108]} في الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب ، فجعل يتلوها{[47109]} ، فسمعه المشركون ، فقالوا : إنا سمعناه يذكر آلهتنا بخير ، فدنوا منه فبينما هو يتلوها وهو يقول : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، ألقى الشيطان أن تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فجعل{[47110]} يتلوها ، فنزل جبريل عليه السلام فنسخها ثم قال له : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } إلى { عليم حكيم } وكذلك رواه ابن شهاب على هذا المعنى وإن اختلفت الألفاظ .

وقيل : معنى الآية : هو ما يقع للنبي صلى الله عليه وسلم من السهو والغلط إذا قرأ فينتبه إلى ذلك أو ينبهه الله عليه ، فيرجع عنه كما يعرض له من السهو في الصلاة ، فنسخ الله لذلك هو تنبيه نبيه عليه .

وقوله : { ثم يحكم الله آياته }[ 50 ] .

هو رجوع النبي صلى الله عليه وسلم عن سهوه وغلطه إلى الصواب ، كل بلطف الله وتيسيره له .

وقوله : { ألقى الشيطان في أمنيته } أي : وسوس إليه فغلطه في قراءته . وقوله : { لنجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض } هو أن المشركين{[47111]} والمنافقين كانوا يطلبون على النبي عليه السلام زلة أو غلطا يطعنون بذلك عليه{[47112]} فإذا غلط في قراءته أو سهى ، تلقوا ذلك بالقبول ، وقالوا : رجع عن بعض ما قرأ ، فأنزل الله تعالى هذه الآية يبين فيها أن الغلط والسهو لا حجة فيهما{[47113]} على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا طعن ، لأنه شيء يجوز على جميع الخلق ، ولا يمتنع{[47114]} من ذلك أحد إلا رب العالمين ، فأخبرهم أن الأنبياء قبل محمد والرسل هكذا كانوا ، فلا نقص في ذلك على محمد صلى الله عليه وسلم .

وقد استدل بعض الناس على أن كل نبي رسول وكل رسول نبي{[47115]} بهذه الآية ، لأنه قال في النبي والرسول : إذا تمنى ، أي قرأ ما أرسل به إلى قومه ، فكلاهما مرسل ونبي ، وقال : إن الأنبياء إنما يصيرون أنبياء{[47116]} إذا أرسلهم الله إلى عبادة ، ومن لم يرسله الله إلى عباده فليس بنبي ، كما لا يكون رسولا . والذي عليه أكثر الناس ، أن كل رسول{[47117]} نبي وليس كل نبي رسولا . والرسل قليلون ، والأنبياء كثيرون . وقد ذكرنا عدة هؤلاء وهؤلاء في غير هذا الموضع ، وعلى هذا دلائل كثير تدل على صحته يطول ذكرها .

ومعنى ( إذا تمنى ) إذا تحدث في نفسه .

وقال ابن عباس{[47118]} : ( إذا تمنى ) إذا حدث .

وقال الضحاك{[47119]} : إذا قال .

وقال مجاهد{[47120]} : إذا تلا وقرأ .

وقيل : إن قوله : ( والغرانيق العلى ) عنى بها الملائكة ، وكذلك الضمير في وأن شفاعتهم ترتجى ، هو للملائكة/ .

واختار الطبري{[47121]} أن يكون تمنى ، بمعنى حدث ، إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه .

وقيل : معنى الآية ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث نفسه ، ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة فيقول : لو سألت الله أن يغنمك كذا ليتسع المسلمون ، ويعلم الله الصلاح في غير ذلك ، فيبطل ما يلقى الشيطان .

وحكى الكسائي والفراء{[47122]} ( تمنى ) بمعنى حدث نفسه .

وقوله : { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } أي : يبطله ، من قولهم : نسخت الشمس الظل{[47123]} .

وقوله : { ثم يحكم الله آياته } أي يخلصها من الباطل الذي ألقى الشيطان . والله عليم بما يحدث في خلقه من حدث ، حكيم في تدبيره إياهم .


[47101]:الغريب أن مكي بن أبي طالب أورد قصة الغرانيق دون أن ينقد سندها ومتنها. وقصة الغرانيق لها علاقة بعقيدة المسلم، ذلك أن فيها طعنا في نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أحسن الألباني حين ألف كتيبا صغيرا سماه (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق) أورد فيه روايات قصة الغرانيق وبين عللها وضعفها سندا ومتنا. وقد رد القصة جمع كبير من علماء التفسير قديما وحديثا حتى قال الدكتور إبراهيم علي شعوط في كتابه (أباطيل يجب أن تمحة من التاريخ) ص 55. وفي قصة الغرانيق تطاول على مقام الرسالة وعمل خبيث لإبطال ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقى بها زنديق، وروجها وراءه أعداء الدين، حتى انتشرت في مجامع البسطاء. وقال القرطبي في تفسيره 12/80 والأحاديث المروية في نزول هذه الآية وليس منها شيء يصح. وقال الحافظ ابن كثير في تفسير 3/229 عن روايات قصة الغرانيق ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح والله أعلم. وقال النحاس في الناسخ والمنسوخ ص: 255 عن حديث قصة الغرانيق (وهذا الحديث منكر مقضع ولا سيما وهو من حديث الواقدي والدين والعقل يمنعان من هذا).
[47102]:ز: الرسول.
[47103]:انظر: تفسير القرطبي 12/80.
[47104]:أهل سقطت من ز.
[47105]:انظر: جامع البيان 17/186. قال الألباني في نصب المجانيق: 11. أخرجه ابن جرير عن طريق أبي معشر عنهما، وأبو معشر ضعيف. (كما قال الحافظ في التقريب واسمه نجيح عبد الرحمان السندي) وانظر: هذا القول في الدر المنثور 4/367 ومحمد بن قيس هو محمد بن قيس الزيات روى عنه أبو عامر وعثمان بن عمر وغيرهما. وكان قاصا. انظر: التاريخ الكبير 1/212.
[47106]:النجم آية 1.
[47107]:الإسراء الآيات 73-
[47108]:انظر: تفسير ابن كثير 3/229 والدر المنثور 4/366.
[47109]:فجعل يتلوها سقطت من ز.
[47110]:في النسختين (فعلق) والتصحيح من جامع البيان 17/189.
[47111]:ز: الشيطان.
[47112]:عليه سقطت من ز.
[47113]:ع فيه. والتصحيح من ز.
[47114]:ز يمنع.
[47115]:وكل رسول نبي سقط من ز.
[47116]:أنبياء سقطت من ز.
[47117]:ز: مرسل.
[47118]:انظر: جامع البيان 17/190 وتفسير ابن كثير 3/230 والدر المنثور 4/368.
[47119]:القول: لمجاهد في جامع البيان 17/190 وابن كثير 3/230 والدر المنثور 4/368.
[47120]:القول: للضحاك في جامع البيان 17/190 والدر المنثور 4/368.
[47121]:انظر: جامع البيان 17/190.
[47122]:انظر: معاني الفراء 2/229.
[47123]:قوله: (ومعنى إذا تمنى...الظل) ساقط من ز.