معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

قوله تعالى : { فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } من مثل خلقكم حلائل . قيل : إنما قال : من أنفسكم لأنه خلق حواء من ضلع آدم . { ومن الأنعام أزواجاً } أصنافاً ذكوراً وإناثاً ، { يذرؤكم } يخلقكم ، { فيه } أي : في الرحم . وقيل : في البطن . وقيل : على هذا الوجه من الخلقة . قال مجاهد : نسلاً بعد نسل من الناس والأنعام . وقيل : " في " ، بمعنى الباء ، أي : يذرؤكم به . وقيل : معناه يكثركم بالتزويج . { ليس كمثله شيء } مثل صلة ، أي : ليس هو كشيء ، فأدخل " المثل " للتوكيد ، كقوله : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } ( البقرة-137 ) ، وقيل : " الكاف " صلة ، مجازه : ليس مثله شيء . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس له نظير . { وهو السميع البصير }

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

{ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : خالقهما بقدرته ومشيئته وحكمته . { جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } لتسكنوا إليها ، وتنتشر منكم الذرية ، ويحصل لكم من النفع ما يحصل .

{ وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا } أي : ومن جميع أصنافها نوعين ، ذكرا وأنثى ، لتبقى وتنمو لمنافعكم الكثيرة ، ولهذا عداها باللام الدالة على التعليل ، أي : جعل ذلك لأجلكم ، ولأجل النعمة عليكم ، ولهذا قال : { يذرؤكم فيه } أي : يبثكم ويكثركم ويكثر مواشيكم ، بسبب أن جعل لكم من أنفسكم ، وجعل لكم من الأنعام أزواجا .

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أي : ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته ، لا في ذاته ، ولا في أسمائه ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، لأن أسماءه كلها حسنى ، وصفاته صفة{[776]} كمال وعظمة ، وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك ، فليس كمثله شيء ، لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه . { وَهُوَ السَّمِيعُ } لجميع الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات . { الْبَصِيرُ } يرى دبيب النملة السوداء ، في الليلة الظلماء ، على الصخرة الصماء ، ويرى سريان القوت في أعضاء الحيوانات الصغيرة جدا ، وسريان الماء في الأغصان الدقيقة .

وهذه الآية ونحوها ، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، من إثبات الصفات ، ونفي مماثلة المخلوقات . وفيها رد على المشبهة في قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وعلى المعطلة في قوله : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }


[776]:- كذا في النسختين ولعل الصواب: (صفات).
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

{ فَاطِرُ السماوات والأرض } أى هو خالقهما وموجدهما على غير مثال سابق ، من فطر الشئ إذا ابتدعه واخترعه دون أن يُسبَق إلى ذلك .

{ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } أى : جعل لكم - سبحانه - بقدرته من جنس انفسكم أزواجا ، أى : نساء تجمع بينكم وبينهن المودة والرحمة ، كما قال - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } وقوله - سبحانه - : { وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } معطوف على ما قبله . أى : كما خلق لكم من أنفسكم أزواجا ، خلق - أيضا - للأنعام من جنسها إناثا ، ليحصل التوالد والتناسل والتعمير لهذا الكون .

وقوله - تعالى - { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } بيان للحكمة من هذا الجعل والخلق للأزواج .

والذرء : التكاثر والبث . يقال : ذرأ فلان الشئ ، إذا بثه وكثره .

والضمير المنصوب فى قوله { يَذْرَؤُكُمْ } يعود إلى المخاطبين وإلى الأنعام ، على سبيل التغليب للعقلاء على غيرهم .

والضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى التزاوج بين الذكور والإِناث المفهوم من قوله - تعالى - : { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } .

أى : يكثركم وينميكم بسبب هذا التزاوج الذى يحصل بين ذكوركم وإناثكم حيث يتناسل - أحيانا - بين الذكر الواحد والأنثى الواحدة ، عدد كبير من الأولاد .

وقال - سبحانه - { يَذْرَؤُكُمْ فِيه } ولم يقل يذرؤكم به أى : بسببه ، للأشعار بان هذا التزواج قد صار مثل المنبع والأصل للبث والتكثير .

قال - تعالى - : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } .

قال بعض العلماء : فإن قيل : ما وجه إفراد الضمير المجرور فى قوله { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } مع أنه على ما ذكرتم ، يعود إلى الذكور والإِناث من الآدميين والأنعام ؟ .

فالجواب : أن من أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن . رجوع الضمير بصيغة الإِفراد إلى المثنى أو الجمع باعتبار ما ذكر .

ومنه قوله - تعالى - : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ } أى : يأتيكم بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم .

ثم نزه - سبحانه - ذاته عن الشبيه أو النظير . . فقال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .

أى : مثله شئ - تعالى - : لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله ، فالكاف مزيدة فى خبر { لَيْسَ } و { شَيْءٌ } اسمها . أى : ليس شئ مثله .

أو أن الكاف أصلية . فيكون المعنى : ليس مثله - تعالى - أحد لا فى الذات ولا فى الصفات ولا فى الأفعال .

وذلك كقول العرب : مثلك لا يبخل ، يعنون : أنت لا تبخل على سبيل الكتابة ، قصدا إلى المبالغة فى نفى البخل عن المخاطب بنفيه عن مثله ، فيثبت انتفاؤه عنه بدليله .

والمقصود من الجملة الكريمة على كل تفسير : تنزيهه - تعالى - عن مشابهة خلقه فى الذات أو الصفات أو الأفعال .

قال صاحب الكشاف : قالوا : مثلك لا يبخل ، فنفوا البخل عن مثله ، وهم يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة فى ذلك فسلكوا به طريق الكناية ، لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده ، وعمن هو على أخص أوصافه ، فقد نفوه عنه .

ونظيره قولك للعربى : العرب لا تحفر الذمم ، كان أبلغ من قولك : أنت لا تخفر . .

وقوله - تعالى - : { وَهُوَ السميع البصير } أى : وهو - سبحانه - السمي لكل أقوال خلقه ، البصير بما يسرونه وما يعلنونه من أفعال .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

ثم يعقب مرة أخرى بما يزيد هذه الحقيقة استقراراً وتمكيناً :

( فاطر السماوات والأرض ، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً . يذرؤكم فيه . ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) . .

فالله منزل ذلك القرآن ليكون حكمه الفصل فيما يختلفون فيه من شيء . . هو ( فاطر السماوات والأرض ) . . وهو مدبر السماوات والأرض . والناموس الذي يحكم السماء والأرض هو حكمه الفصل في كل ما يختص بهما من أمر . وشؤون الحياة والعباد إن هي إلا طرف من أمر السماوات والأرض ؛ فحكمه فيها هو الحكم الذي ينسق بين حياة العباد وحياة هذا الكون العريض ، ليعيشوا في سلام مع الكون الذي يحيط بهم ، والذي يحكم الله في أمره بلا شريك .

والله الذي يجب أن يرجعوا إلى حكمه فيما يختلفون فيه من شيء هو خالقهم الذي سوى نفوسهم ، وركبها : ( جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ) . . فنظم لكم حياتكم من أساسها ، وهو أعلم بما يصلح لها وما تصلح به وتستقيم . وهو الذي أجرى حياتكم وفق قاعدة الخلق التي اختارها للأحياء جميعا : ( ومن الأنعام أزواجاً ) . . فهنالك وحدة في التكوين تشهد بوحدانية الأسلوب والمشيئة وتقديرها المقصود . . إنه هو الذي جعلكم - أنتم والأنعام - تتكاثرون وفق هذا المنهج وهذا الأسلوب . ثم تفرد هو دون خلقه جميعا ، فليس هنالك من شيء يماثله - سبحانه وتعالى - : ( ليس كمثله شيء ) . . والفطرة تؤمن بهذا بداهة . فخالق الأشياء لا تماثله هذه الأشياء التي هي من خلقه . . ومن ثم فإنها ترجع كلها إلى حكمه عندما تختلف فيما بينها على أمر ، ولا ترجع معه إلى أحد غيره ؛ لأنه ليس هناك أحد مثله ، حتى يكون هناك أكثر من مرجع واحد عند الاختلاف .

ومع أنه - سبحانه - ( ليس كمثله شيء ) . . فإن الصلة بينه وبين ما خلق ليست منقطعة لهذا الاختلاف الكامل . فهو يسمع ويبصر : ( وهو السميع البصير ) . . ثم يحكم حكم السميع البصير .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

وقوله : { فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : خالقهما وما بينهما ، { جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي : من جنسكم وشكلكم ، منة عليكم وتفضلا جعل من جنسكم ذكرا وأنثى ، { وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا } أي : وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج .

وقوله : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي : يخلقكم فيه ، أي : في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم {[25794]} فيه ذكورا وإناثا ، خلقا من بعد خلق ، وجيلا بعد جيل ، ونسلا بعد نسل ، من الناس والأنعام .

وقال البغوي رحمه الله : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي : في الرحم . وقيل : في البطن . وقيل : في هذا الوجه من الخلقة .

قال مجاهد : ونسلا بعد نسل من الناس والأنعام .

وقيل : " في " بمعنى " الباء " ، أي : يذرؤكم به .

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أي : ليس كخالق الأزواج كلها شيء ؛ لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له ، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }


[25794]:- (1) في أ: "نوعكم".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

{ فاطر السموات والأرض } خبر آخر ل{ ذلكم } أو مبتدأ خبره . { جعل لكم } وقرئ بالجر على البدل من الضمير أو الوصف لإلى الله . { من أنفسكم } من جنسكم . { أزواجا } نساء . { ومن الأنعام أزواجا } أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجا ، أو خلق لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا وأناثا ، { يذرؤكم } يكثركم من الذرء وهو البث وفي معناه الذر والذرو والضمير على الأول للناس ، و{ الأنعام } على تغليب المخاطبين العقلاء . { فيه } في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجا يكون بينهم توالد ، فإنه كالمنبع للبث والتكثير . { ليس كمثله شيء } أي ليس مثله شيء يزاوجه ويناسبه ، والمراد من مثله ذاته كما في قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، على قصد المبالغة في نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى ، ونظيره قول رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب ألا وفيهم الطيب الطاهر لذاته . ومن قال الكاف فيه زائدة لعله عني أنه يعطى معنى { ليس مثله } غير أنه آكد لما ذكرناه . وقيل " مثله " صفته أي ليس كصفته صفة . { وهو السميع البصير } لكل ما يسمع و يبصر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

وهو { فاطر السماوات والأرض } ، أي مخترعها وخالقها شق بعضها من بعض .

وقوله تعالى : { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } يريد : زوج الإنسان الأنثى ، وبهذه النعمة اتفق الَّذْرُء ، وليست الأزواج هاهنا الأنواع ، وأما الأزواج المذكورة مع الأنعام ، فالظاهر أيضاً والمتسق : أنه يريد : إناث الذكران ، ويحتمل أن يريد الأنواع ، والأول أظهر .

وقوله : { يذرؤكم } أي يخلقكم نسلاً بعد نسل وقرناً بعد قرن ، قاله مجاهد والناس ، فلفظة ذرأ : تزيد على لفظة : خلق معنى آخر ليس في خلق ، وهو توالي الطبقات على مر الزمان .

وقوله : { فيه } الضمير عائد على الجعل الذي يتضمنه قوله : { جعل لكم } ، وهذا كما تقول : كلمت زيداً كلاماً أكرمته فيه . وقال القتبي : الضمير للتزويج ، ولفظة : «في » مشتركة على معان ، وإن كان أصلها الوعاء وإليه يردها النظر في كل وجه .

وقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } الكاف مؤكدة للتشبيه ، فبقي التشبيه أوكد ما يكون ، وذلك أنك تقول : زيد كعمرو ، وزيد مثل عمرو ، فأذا أردت المبالغة التامة قلت : زيد كمثل عمرو ، ومن هذا قول أوس بن حجر : [ المتقارب ]

وقتلى كمثل جذوع النخي . . . ل يغشاهمُ سيل منهمر{[10113]}

ومنه قول الآخر : [ البسيط ]

سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهمُ . . . ما إن كمثلهم في الناس من أحد{[10114]}

فجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب ، وتفترق الآية مع هذه الشواهد متى أردت أن تتبع بذهنك هذا اللفظ فتقدر للجزوع مثلاً موجوداً وتشبه القتل بذلك المثل أمكنك أو لا يمكنك هذا في جهة الله تعالى إلا أن تجعل المثل ما يتحصل في الذهن من العلم بالله تعالى ، إذ المثل والمثال واحد ، وذهب الطبري وغيره إلى أن المعنى : ليس كهو شيء . وقالوا لفظة مثل في الآية توكيد أو واقعة موقع هو{[10115]} .

قال القاضي أبو محمد : ومما يؤيد دخول الكاف تأكيداً أنها قد تدخل على الكاف نفسها ، وأنشد سيبويه :

وصاليات ككما يؤثفين . . . {[10116]}


[10113]:البيت من قصيدة قالها أوس بن حجر في حرب كانت بين قومه من بني تميم وبين أسد وغنى، وفيه يصف نتيجة المعركة التي تركت القتلى من بني أسد كجذوع النخل التي غطاها السيل المنهمر من المطر، والجذوع جمع جذع وهو ساق النخلة، ومعنى تغشاهم: غطاهم وغمرهم، والمسبل: المطر، وفي الحديث: (فجاء بالماء جوني له سبل) أي مطر جود هاطل، وابن عطية يستشهد بالبيت على أن التشبيه يكون بالكاف وبكلمة مثل معا عند إرادة المبالغة التامة، وذلك أنه يجوز أن تشبه فتقول: قتلى كجذوع النخيل، ويجوز أن تقول: قتلى مثل جذوع النخيل، فإذا أردت المبالغة التامة قلت: قتلى كمثل جذوع النخيل. وهذا هو ما جاء في الآية الكريمة، إذ اجتمع في التشبيه الكاف ومثل زيادة في المبالغة مع نفي ذلك، فالنفي هنا أوكد ما يكون.
[10114]:وهذا أيضا شاهد على أنه يجمع في الكلام بين لفظين يؤديان معنى واحدا للتأكيد، وفي هذا البيت أدخل الشاعر على (ما) وهي حرف جحد (إن) وهي حرف جحد أيضا، وساغ ذلك لاختلاف لفظ كل منهما عن الآخر، وإن اتفق المعنى. والشاعر في البيت يمدح (سعد بن زيد)، وينفي أن يكون في الناس أحد مثلهم.
[10115]:الفرق بين القولين أن كلمة (مثل) فيما ذكر الطبري هي التي دخلت للتوكيد، وأداة التشبيه الأصلية هي الكاف، أما القول الأول ففيه أن (الكاف) هي التي دخلت للتوكيد، وأداة التشبيه الأصلية هي (مثل)، على أن الطبري قد ذكر القولين، واستشهد لكل منهما، وقد اختلفت الرؤية بالنسبة للشواهد، فما اعتبره بعضهم شاهدا للقول الأول اعتبره غيره شاهدا للقول الثاني، والشواهد تصلح لذلك. هذا وقد ذكر صاحب البحر المحيط أن العرب تقول: (مثلك لا يفعل كذا)، يريدون به المخاطب، كأنهم إذا نفوا الوصف عن مثل المخاطب كان نفيا عن المخاطب نفسه، وهو من باب المبالغة، فجرت الآية في ذلك على نهج العرب من إطلاق المثل على الشيء نفسه، ثم علق على كلام الطبري الذي جعل كلمة (مثل) زائدة للتوكيد، وجعلها كالكاف في قول الشاعر: (وصاليات ككما يؤثفين)- علق على هذا بقوله: (ليس بجيد، لأن (مثلا) اسم والأسماء لا تزاد، بخلاف الكاف فإنها حرف فتصلح للزيادة.
[10116]:هذا بيت من أبيات من بحر السريع، نسبها في خزانة الأدب إلى خطام المجاشعي، ونسبها الصقلي- في شرحه أبيات الإيضاح للفارسي- وكذلك الجوهري في الصحاح، نسبها إلى هميان بن قحافة، والأبيات في خزانة الأدب، وفي هوامش الجزء الأول من (سر صناعة الإعراب) لابن جني. وقد قال محقق تفسير الطبري: إنها من مشطور الرجز، وقال في خزانة الأدب: (ربما حسب من لا يحسن العروض أنها من الرجز، لأن الرجز لا يكون فيه معولات فيرد إلى فعولات). والصاليات: أراد بها الأثافي لأنها صليت بالنار، أي أحرقت حتى اسودت، وقد روي البيت (وما ثلاث) بدلا من (وصاليات)، ومعنى ما ثلاث: منتصبات. و(يؤثفين) وزنه (يؤفعلن) والهمزة زائدة، وقيل: وزنه (يفعلين) فالهمزة أصل، ومعنى الكلمة: يجعلن أثافي للقدر، وهي جمع أثفية. وموضع الشاهد في البيت قوله: (ككما)، والكاف الأولى جارة والثانية مؤكدة لها، وقال الزمخشري: (وعلى هذا يجوز أن يكون الكاف اسمين أو حرفين)، وقال ابن السيد في شرح أدب الكاتب: (أجرى الكاف الجارة- وهي الثانية- مجرى (مثل) فأدخل عليها كافا ثانية، فكأنه قال: (كمثل ما يؤثفين) و(ما) مع الفعل بتقدير المصدر، كأنه قال: كمثل إثفائها، أي: إنها على حالها حين أثفيت، ويرى الفارسي أنها يجوز أن تكون موصولة، وخلاصة القول أن الكاف دخلت على الكاف للتوكيد، والذي أنشد البيت شاهدا على ذلك هو سيبويه في الكتاب.