قوله تعالى : { ومن كان في هذه أعمى } ، اختلفوا في هذه الإشارة ، فقال قوم : هي راجعة إلى النعم التي عددها الله تعالى فبهذه الآيات من قوله : { ربكم الذي يزجي لكم الفلك } إلى قوله { تفضيلاً } يقول : ومن كان منكم في هذه النعم التي قد عاين أعمى ، { فهو في } ، في أمر ، { الآخرة } ، التي لم يعاين ولم ير ، { أعمى وأضل سبيلاً } ، يروى هذا عن ابن عباس . وقال الآخرون : هي راجعة إلى الدنيا ، يقول : من كان في هذه أعمى القلب عن رؤية قدرة الله وآياته ورؤية الحق ، فهو في الآخرة أعمى ، وأضل سبيلاً ، أي : أخطأ طريقاً . وقيل : من كان في هذه الدنيا أعمى عن الاعتبار ، فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار . وقال الحسن : من كان في هذه الدنيا ضالاً كافراً ، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً ، لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته . وأمال بعض القراء هذين الحرفين ، وفتحهما بعضهم ، وكان أبو عمر يكسر الأول ويفتح الثاني ، فهو في الآخرة أشد عمى ، لقوله : { وأضل سبيلاً } .
{ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ } الدنيا { أَعْمَى } عن الحق فلم يقبله ، ولم ينقد له ، بل اتبع الضلال . { فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى } عن سلوك طريق الجنة كما لم يسلكه في الدنيا ، { وَأَضَلُّ سَبِيلًا } فإن الجزاء من جنس العمل ، كما تدين تدان .
وفي هذه الآية دليل على أن كل أمة تدعى إلى دينها وكتابها ، هل عملت به أم لا ؟
وأنهم لا يؤاخذون بشرع نبي لم يؤمروا باتباعه ، وأن الله لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه ومخالفته لها .
وأن أهل الخير ، يعطون كتبهم بأيمانهم ، ويحصل لهم من الفرح والسرور شيء عظيم ، وأن أهل الشر بعكس ذلك ، لأنهم لا يقدرون على قراءة كتبهم ، من شدة غمهم وحزنهم وثبورهم .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة من أوتى كتابه بشماله فقال : { وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } .
والمراد بالعمى هنا : عمى القلب لا عمى العين ، بدليل قوله - تعالى - : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } والمعنى : ومن كان من بنى آدم فى هذه الدنيا أعمى القلب ، مطموس البصيرة ، بسبب إيثاره الكفر على الإِيمان ، فهو فى الدار الآخرة أشد عمى وأضل سبيلاً منه فى الدنيا ، لأنه فى الدنيا كان فى إمكانه أن يتدارك ما فاته أما فى الآخرة فلا تدارك لما فاته .
وعبر - سبحانه - عن الذى أوتى كتابه بشماله بقوله - { وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى } للإِرشاد إلى العلة التى بسببها أصابه الشقاء فى الآخرة ، وهى - فقدانه النظر السليم ، وإيثاره الغى على الرشد ، والباطل على الحق .
ومن عمي في الدنيا عن دلائل الهدى فهو في الآخرة أعمى عن طريق الخير . وأشد ضلالا . وجزاؤه معروف . ولكن السياق يرسمه في المشهد المزدحم الهائل ، أعمى ضالا يتخبط ، لا يجد من يهديه ولا ما يهتدي به ، ويدعه كذلك لا يقرر في شأنه أمرا ، لأن مشهد العمى والضلال في ذلك الموقف العصيب هو وحده جزاء مرهوب ؛ يؤثر في القلوب !
وقوله : { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ } أي : في الحياة الدنيا { أَعْمَى } عن حجج الله وآياته وبيناته { فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى } أي : كذلك يكون { وَأَضَلُّ سَبِيلا } أي : وأضل منه كما كان في الدنيا ، عياذًا بالله من ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَن كَانَ فِي هََذِهِ أَعْمَىَ فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أَعْمَىَ وَأَضَلّ سَبِيلاً } .
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بقوله «هذه » ، فقال بعضهم : أشير بذلك إلى النعم التي عدّدها تعالى ذكره بقوله : وَلَقَدْ كَرّمنا بَنِي آدَمَ وَحَملناهُمْ فِي البَرّ والبَحرِ وَرَزَقناهُمْ مِنَ الطّيّباتِ وَفَضّلناهُمْ على كَثِيرٍ مِمّنْ خَلَقْنا تَفَضِيلاً فقال : وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أعمَى فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى وأضَلّ سَبِيلاً . ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : سئل عن هذه الاَية وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أعمَى فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعمَى وأضَلّ سَبِيلاً فقال : قال وَلَقد كَرّمنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلناهُمْ فِي البَرّ والبَحرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطّيّباتِ وَفَضّلْناهُمْ على كَثِيرٍ مِمّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً قال : من عمي عن شكر هذه النعم في الدنيا ، فهو في الاَخرة أعمى وأضلّ سبيلاً .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن قدرة الله فيها وحججه ، فهو في الاَخرة أعمى . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أعْمَى يقول : من عمي عن قُدرة الله في الدنيا فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في هَذِهِ أعْمَى قال : الدنيا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أعْمَى فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى يقول : من كان في هذه الدنيا أعمى عما عاين فيها من نعم الله وخلقه وعجائبه فَهُوَ فِي الاَخَرَةِ أعْمَى وأضَلّ سَبِيلاً فيما يغيب عنه من أمر الاَخرة وأعمى .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أعْمَى في الدنيا فيما أراه الله من آياته من خلق السموات والأرض والجبال والنجوم فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ الغائبة التي لم يرها أعْمى وأضَلّ سَبِيلاً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وسئل عن قول الله تعالى وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أعْمَى فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى وأضَلّ سَبِيلاً فقرأ : إنّ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ لاَياتٍ للْمُؤْمِنِينَ وفِي أنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ . وقرأ : وَمِنْ آياتِهِ أنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ إذَا أنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ، وقرأ حتى بلغ : وَلَهُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ كُلّ لَهُ قانِتُونَ قال : كلّ له مطيعون ، إلا ابن آدم . قال : فمن كانت في هذه الاَيات التي يعرف أنها منا ، ويشهد عليها وهو يرى قدرتنا ونعمتنا أعمى ، فهو في الاَخرة التي لم يرها أعمى وأضلّ سبيلاً .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله على أنه المنفرد بخلقها وتدبيرها ، وتصريف ما فيها ، فهو في أمر الاَخرة التي لم يرها ولم يعاينها ، وفيما هو كائن فيها أعمى وأضلّ سبيلاً : يقول : وأضلّ طريقا منه في أمر الدنيا التي قد عاينها ورآها .
وإنما قلنا : ذلك أولى تأويلاته بالصواب ، لأن الله تعالى ذكره لم يخصص في قوله وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ الدنيا أعْمَى عمى الكافر به عن بعض حججه عليه فيها دون بعض ، فيوجه ذلك إلى عماه عن نعمه بما أنعم به عليه من تكريمه بني آدم ، وحمله إياهم في البرّ والبحر ، وما عدّد في الاَية التي ذكر فيها نعمه عليهم ، بل عمّ بالخبر عن عماه في الدنيا ، فهم كما عمّ تعالى ذكره .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى فكسرت القَرأَةُ جميعا أعني الحرف الأوّل قوله وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أعْمَى . وأما قوله فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى فإن عامة قرّاء الكوفيين أمالت أيضا قوله : فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى . وأما بعض قرّاء البصرة فإنه فتحه ، وتأوّله بمعنى : فهو في الاَخرة أشدّ عمى . واستشهد لصحة قراءته بقوله : وأضَلّ سَبِيلاً .
وهذه القراءة هي أَوْلى القراءتين في ذلك بالصواب للشاهد الذي ذكرنا عن قارئه كذلك ، وإنما كره من كره قراءته كذلك ظنا منه أن ذلك مقصود به قصد عمى العينين الذي لا يوصف أحد بأنه أعمى من آخر أعمى ، إذ كان عمى البصر لا يتفاوت ، فيكون أحدهما أزيد عمى من الاَخر ، إلا بإدخال أشدّ أو أبين ، فليس الأمر في ذلك كذلك .
وإنما قلنا : ذلك من عمى القلب الذي يقع فيه التفاوت ، فإنما عُنِي به عمى قلوب الكفار ، عن حجج الله التي قد عاينتها أبصارهم ، فلذلك جاز ذلك وحسُن . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى قال : أعمى عن حجته في الاَخرة .
وقوله { ومن كان } ، الآية ، قال محمد بن أبي موسى{[7645]} : الإشارة بهذه إلى النعم التي ذكرها في قوله { ولقد كرمنا بني آدم } أي من عمي عن شكر هذه النعم والإيمان لمسديها ، فهو في أمور الآخرة وشأنها { أعمى } .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل { أعمى } الثاني أن يكون بمنزلة الأول ، على أنه تشبيه بأعمى البصر ، ويحتمل أن يكون صفة تفضيل ، أي أشد عمى ، والعمى في هذه الآية هو عمى القلب في الأول والثاني ، وقال ابن عباس ومجاهد قتادة وابن زيد : الإشارة بهذه إلى الدنيا ، أي من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه ، فهو في الآخرة أعمى ؛ إما أن يكون على حذف مضاف ، أي في شأن الآخرة ، وإما أن يكون : فهو في يوم القيامة أعمى ، على معنى أنه حيران ، لا يتوجه له صواب ، ولا يلوح له نجح ، قال مجاهد «فهو في الآخرة أعمى » عن حجته .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر عندي أن الإشارة ب { هذه } إلى الدنيا ، أي من كان في دنياه هذه ووقت إدراكه وفهمه أعمى عن النظر في آيات الله ، فهو في يوم القيامة أشد حيرة وأعمى ، لأنه قد باشر الخيبة ، ورأى مخايل العذاب ، وبهذا التأويل ، تكون معادلة للتي قبلها ، من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه ، وإذا جعلنا قوله { في الآخرة } بمعنى في شأن الآخرة ، لم تطرد المعادلة بين الآيتين . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «أعمى » في الموضعين ، بغير إمالة ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بخلاف عنه في الموضعين بإمالة ، وقرأ أبو عمرو بإمالة الأول وفتح الثاني ، وتأوله بمعنى أشد عمى ، ولذلك لم يمله ، قال أبو علي : لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر ، و { أعمى } ليس كذلك لأن تقديره أعمى من كذا ، فليس يتم إلا في قولنا من كذا ، فهو إذاً ليس بآخر ، ويقوي هذا التأويل قوله عطفاً عليه { وأضل سبيلاً } فإنما عطف { أضل } الذي هو أفعل من كذا على ما هو شبيه به ، وإنما جعله في الآخرة { أضل سبيلا } ، لأن الكافر في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو ، وهو في الآخرة ، لا يمكنه ذلك ، فهو { أضل سبيلاً } ، وأشد حيرة ، وأقرب إلى العذاب ، وقول سيبويه رحمه الله : لا يقال أعمى من كذا كما يقال ما أبداه{[7646]} ، إنما هو في عمى العين الذي لا تفاضل فيه ، وأما في عمى القلب فيقال ذلك لأنه يقع فيه التفاضل ، وذكر مكي في هذه الآية ، أن العمى الأول هو عمى العين عن الهدى وهذا بين الاختلال ، والله المعين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أعمى}، يعني: الكافر، عمي عنها وهو معاينها، فلم يعرف أنها من الله عز وجل، فيشكر ربها، فيعرفه فيوحده تبارك وتعالى، {فهو في الآخرة أعمى}، يقول: فهو عما غاب عنه من أمر الآخرة من البعث والحساب والجنة والنار أعمى، {وأضل سبيلا}، يعني: وأخطأ طريقا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بقوله «هذه»؛
فقال بعضهم: أشير بذلك إلى النعم التي عدّدها تعالى ذكره بقوله:"وَلَقَدْ كَرّمنا بَنِي آدَمَ وَحَملناهُمْ فِي البَرّ والبَحرِ وَرَزَقناهُمْ مِنَ الطّيّباتِ وَفَضّلناهُمْ على كَثِيرٍ مِمّنْ خَلَقْنا تَفَضِيلاً" فقال: "وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أعمَى فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى وأضَلّ سَبِيلاً"... عن محمد بن أبي موسى، قال...: من عمي عن شكر هذه النعم في الدنيا، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن قدرة الله فيها وحججه، فهو في الآخرة أعمى... عن قتادة... يقول: من كان في هذه الدنيا أعمى عما عاين فيها من نعم الله وخلقه وعجائبه فَهُوَ فِي الآخَرَةِ أعْمَى وأضَلّ سَبِيلاً فيما يغيب عنه من أمر الآخرة وأعمى...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله على أنه المنفرد بخلقها وتدبيرها، وتصريف ما فيها، فهو في أمر الآخرة التي لم يرها ولم يعاينها، وفيما هو كائن فيها أعمى وأضلّ سبيلاً: يقول: وأضلّ طريقا منه في أمر الدنيا التي قد عاينها ورآها.
وإنما قلنا: ذلك أولى تأويلاته بالصواب، لأن الله تعالى ذكره لم يخصص في قوله "وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ "الدنيا "أعْمَى" عمى الكافر به عن بعض حججه عليه فيها دون بعض، فيوجه ذلك إلى عماه عن نعمه بما أنعم به عليه من تكريمه بني آدم، وحمله إياهم في البرّ والبحر، وما عدّد في الآية التي ذكر فيها نعمه عليهم، بل عمّ بالخبر عن عماه في الدنيا، فهم كما عمّ تعالى ذكره...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم {ومن كان في هذه} الدنيا {أعمى} عن توحيد الله والإيمان به مع كثرة. آياته ودلالته على وحدانيته فهو عن الإيمان بالآخرة والبعث بعد الموت أعمى.
وقال بعضهم: {ومن كان في هذه أعمى} الدنيا {أعمى} عن الحق {فهو في الآخرة أعمى} عن حججه، لأنه إذا عمي عن الحق فهو عن حججه أعمى، فتكون {في} بمعنى عن؛ إذ الآيات والدلالات على وحدانية الله أكثر وأظهر من الدلالة على البعث والآخرة؛ إذ ليس شيء إلا وفيه أثر وحدانيته ودلالة ألوهيته، ولا كذلك الآخرة، فهو عن الإيمان بها أشد عمى.
وقال بعضهم: من عمي في هذه الدنيا عن الإيمان بالله فهو في الآخرة أعمى عن الإيمان به، لأن الدنيا مما يقبل فيها الإيمان، وفي الآخرة لا يقبل... وهو قول الحسن... وقال أبو بكر قريبا من هذا، وهو أن من عمي عن الرشد والحق في هذه الدنيا لجهله به فهو في الآخرة عند علمه بالرشد والحق أشد عمى...
وقال بعضهم: من عمي قلبه في الدنيا عن الإيمان بالله والتوحيد له فهو في الآخرة أعمى الوجه والحواس كقوله: {لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا} (طه: 125)... لما تركوا الانتفاع بها في الدنيا لما جعلت لهم الحواس... ويشبه أن يكون قوله: {ومن كان في هذه أعمى} بالافتراء على الله {فهو في الآخرة أعمى} أي مفتر على الله أيضا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... والعمى في هذه الآية هو عمى القلب في الأول والثاني،...
والظاهر عندي أن الإشارة ب {هذه} إلى الدنيا، أي من كان في دنياه هذه ووقت إدراكه وفهمه أعمى عن النظر في آيات الله، فهو في يوم القيامة أشد حيرة وأعمى، لأنه قد باشر الخيبة، ورأى مخايل العذاب، وبهذا التأويل، تكون معادلة للتي قبلها، من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ومن كان} منهم {في هذه} الدار {أعمى} أي ضالاً يفعل في الأعمال فعل الأعمى في أخذ الأعيان، لا يهتدي إلى أخذ ما ينفعه وترك ما يضره، ولا يميز بين حسن وقبح {فهو في الآخرة} لأن كل أحد يقوم على ما مات عليه {أعمى} أي أشد عمى مما كان عليه في هذه الدار، لا ينجح له قصد، ولا يهتدي لصواب، ولا يقدر على قراءة كتاب، لما فيه من موجبات العذاب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن عمي في الدنيا عن دلائل الهدى فهو في الآخرة أعمى عن طريق الخير. وأشد ضلالا. وجزاؤه معروف. ولكن السياق يرسمه في المشهد المزدحم الهائل، أعمى ضالا يتخبط، لا يجد من يهديه ولا ما يهتدي به، ويدعه كذلك لا يقرر في شأنه أمرا، لأن مشهد العمى والضلال في ذلك الموقف العصيب هو وحده جزاء مرهوب؛ يؤثر في القلوب!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد بالعمى في الآخرة ما ينشأ عن العمى من الحيرة واضطراب البال، فالأعْمَى أيضاً مستعار لمشابه الأعمى بإحدى العلاقتين.
ووصف {أعمى} في المرتين مراد به مجرد الوصف لا التفضيل. ولما كان وجه الشبه في أحوال الكافر في الآخرة أقوى منه في حاله في الدنيا أشير إلى شدة تلك الحالة بقوله: {وأضل سبيلاً} القائم مقام صيغة التفضيل في العمَى لكون وصف (أعمى) غير قابل لأن يصاغ بصيغة التفضيل لأنه جاء بصيغة التفضيل في حال الوصف.ووجه كون ضلاله في الآخرة أشد أن ضلاله في الدنيا كان في مكنته أن ينجو منه بطلب ما يرشده إلى السبيل الموصل من هدي الرسول والقرآن مع كونه خلياً عن لحاق الألم به، وأما ضلاله في الآخرة فهو ضلال لا خلاصَ منه وهو مقارن للعذاب الدائم، فلا جرم كان ضلاله في الآخرة أدخل في حقيقة الضلال وماهيته.