معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

ثم ضرب الله مثلاً لنقض العهد فقال : { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة } ، أي : من بعد غزله وإحكامه . قال الكلبي ، و مقاتل : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش ، يقال لها ريطة بنت عمرو بن سعد ابن كعب بن زيد مناة بن تميم ، وتلقب بجعر ، وكانت بها وسوسة ، وكانت اتخذت مغزلاً بقدر ذراع ، وصنارة مثل الأصبع ، وفلكة عظيمة ، على قدرها ، وكانت تغزل الغزل من الصوف والشعر والوبر ، وتأمر جواريها بذلك ، فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار ، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها . ومعناه : أنها لم تكف عن العمل ، ولا حين عملت كفت عن النقض ، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد ، لا كففتم عن العهد ، ولا حين عاهدتم وفيتم به . { أنكاثاً } ، يعني : أنقاضاً ، واحدها نكث ، وهو ما نقض بعد الفتل ، غزلاً كان أو حبلاً . { تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم } ، أي : دخلاً وخيانة وخديعة ، والدخل ما يدخل في الشيء للفساد . وقيل : الدخل و الدغل : أن يظهر الوفاء ويبطن النقض . { أن تكون } ، أي : لأن تكون { أمة هي أربى } أي : أكثر وأعلى ، { من أمة } قال مجاهد : وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء ، فإذا وجدوا قوماً أكثر منهم وأعز نقضوا حلف هؤلاء وحالفوا الأكثر ، فمعناه : طلبتم العز بنقض العهد ، بأن كانت أمة أكثر من أمة . فنهاهم الله عن ذلك . { إنما يبلوكم الله به } ، يختبركم الله بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ، { وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } ، في الدنيا .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

{ وَلَا تَكُونُوا } ، في نقضكم للعهود بأسوأ الأمثال وأقبحها وأدلها على سفه متعاطيها ، وذلك { كَالَّتِي } ، تغزل غزلا قويا ، فإذا استحكم وتم ما أريد منه ، نقضته فجعلته : { أَنْكَاثًا } ، فتعبت على الغزل ثم على النقض ، ولم تستفد سوى الخيبة والعناء وسفاهة العقل ونقص الرأي ، فكذلك من نقض ما عاهد عليه ، فهو ظالم جاهل سفيه ناقص الدين والمروءة .

وقوله : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ، أي : لا تنبغي هذه الحالة منكم تعقدون الأيمان المؤكدة وتنتظرون فيها الفرص ، فإذا كان العاقد لها ضعيفا غير قادر على الآخر أتمها ، لا لتعظيم العقد واليمين بل لعجزه . وإن كان قويا يرى مصلحته الدنيوية في نقضها ، نقضها غير مبال بعهد الله ويمينه .

كل ذلك دورانا مع أهوية النفوس ، وتقديما لها على مراد الله منكم ، وعلى المروءة الإنسانية ، والأخلاق المرضية لأجل أن تكون أمة أكثر عددا وقوة من الأخرى .

وهذا ابتلاء من الله وامتحان ، يبتليكم الله به حيث قيض من أسباب المحن ما يمتحن به الصادق الوفي من الفاجر الشقي .

{ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ، فيجازي كلا بما عمل ، ويخزي الغادر .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

ثم ضرب - سبحانه - مثلا لتقبيح نقض العهد ، فقال - تعالى - : { وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } .

وقوله : { غزلها } أي : مغزولها ، فهو مصدر بمعنى المفعول . والفعل منه غزل يغزل - بكسر الزاي . . من باب ضرب . يقال غزلت المرأة الصوف أو القطن غزلا .

والجار والمجرور في قوله : { مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } ، متعلق بالفعل { نقضت } ، أي : نقضته وأفسدته من بعد إبرامه وإحكامه .

و { أنكاثا } ، حال مؤكدة من : { غزلها } ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ، بتضمين الفعل نقضت معنى صيرت أو جعلت .

والأنكاث : جمع نكث - بكسر النون - ، بمعنى منكوث أي : منقوض ، وهو ما نقض وحل فتله ليغزل ثانيا ، والجمع أنكاث ، كحمل وأحمال .

يقال : نكث الرجل العهد نكثا - من باب قتل - إذا نقضه ونبذه ، ومنه قوله : - تعالى - { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } ، قال ابن كثير : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة ، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه .

وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده . وهذا أرجح وأظهر سواء أكان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا .

والمعنى : كونوا - أيها المسلمون - أوفياء بعهودكم ، ولا تنقضوها بعد إبرامها ، فإنكم إن نقضتموها كان مثلكم كمثل تلك المرأة الحمقاء ، التي كانت تفتل غزلها فتلا محكما ، ثم تنقضه بعد ذلك ، وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة محلولة . .

فالجملة الكريمة تحقر في كل جزئية من جزئياتها ، حال من ينقض العهد ، وتشبهه على سبيل التنفير والتقبيح بحال امرأة ملتاثة في عقلها ، مضطربة في تصرفاتها .

وقوله - سبحانه - : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } .

إبطال للأسباب التي كان يتخذها بعض الناس ذرائع ومبررات لنقض العهود .

والدَّخَل - بفتح الخاء - : المكر والغش والخديعة . وهو في الأصل اسم للشيء الذي يدخل في غيره وليس منه .

قال الراغب : والدخل كناية عن الفساد والعداوة المستبطنة ، كالدَّغلَ ، وعن الدعوة في النسب . . . ومنه قيل : شجرة مدخولة - أي : ليست من جنس الأشجار التي حولها .

وقوله : { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ . . . } ، متعلق بقوله : { تتخذون } .

وقوله : { أربى } ، مأخوذ من الربو بمعنى الزيادة والكثرة . يقال : رَبَا الشيء يربوا ، إذا زاد وكثر .

والمعنى : ولا تكونوا مشبهين لامرأة هذا شأنها ، حالة كونكم متخذين أيمانكم وأقسامكم وسيلة للغدر والخيانة ، من أجل أن هناك جماعة أوفر عددا وأكثر مالا من جماعة أخرى .

قال القرطبى : قال المفسرون : نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت أخرى ، ثم جاءت إحداهما قبيلة أخرى كبيرة قوية فداخلتها غدرت بالأولى ونقضت عهدها ، ورجعت إلى هذه الكبرى ، فنهاهم الله - تعالى- : أن ينقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى ، أو أكثر أموالا . . .

وقال الفراء : المعنى : لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم ، أو لقلتكم وكثرتهم وقد عززتموهم بالأيمان .

وقال ابن كثير : قال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ، فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز ، فنهوا عن ذلك .

والخلاصة : أن الآية الكريمة تدعو إلى وجوب الوفاء بالعهود في جميع الأحوال ، وتنهى عن اللجوء إلى الذرائع الباطلة ، من أجل نقض العهود ، إذ الإِسلام لا يقر هذه الذرائع وتلك المبررات ، بدعوى أن هناك جماعة أقوى من جماعة ، أو دولة أعز من دولة ، وإنما الذي يقره الإِسلام هو مراعاة الوفاء بالعهود ، وعدم اتخاذ الأيمان وسيلة للغش والخداع .

والضمير المجرور في قوله : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } ، يعود على مضمون الجملة المتقدمة ، وهي قوله - تعالى - : { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } .

أي : إنما يبلوكم الله ويختبركم بكون أمة أربى من أمة ، لينظر أتفُون بعهودكم أم لا . وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : قوله - تعالى - : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } ، الضمير لقوله : { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ . . . } ؛ لأنه في معنى المصدر . أي : إنما يختبركم بكونهم أربى ، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله ، وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم . وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم .

ويجوز أن يعود إلى ما أمر الله به من الوفاء بالعهد ، فيكون المعنى : إنما يبلوكم الله ويختبركم بما أمركم به من الوفاء بالعهود ، ومن النهي عن النقض ليظهر لكم المطيع من العاصي ، وقوي الإِيمان من ضعيفه .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان أن مرد الفصل بين العباد فيما اختلفوا فيه إليه - تعالى - وحده ، فقال : { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فيجازي أهل الحق بما يستحقون من ثواب ، ويجازي أهل الباطل بما هم أهله من عقاب .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

90

وقد تشدد الإسلام في مسألة الوفاء بالعهود فلم يتسامح فيها أبدا ، لأنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم ، والنصوص القرآنية هنا لا تقف عند حد الأمر بالوفاء والنهي عن النقض إنما تستطرد لضرب الأمثال ، وتقبيح نكث العهد ، ونفي الأسباب التي قد يتخذها بعضهم مبررات :

( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ، أن تكون أمة هي أربى من أمة . إنما يبلوكم الله به . وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .

فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي ، تفتل غزلها ثم تنقضه وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة ومحلولة ! وكل جزيئة من جزئيات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجيب . وتشوه الأمر في النفوس وتقبحه في القلوب . وهو المقصود . وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة الملتاثة العقل ، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه !

وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول [ ص ] بأن محمدا ومن معه قلة ضعيفة ، بينما قريش كثرة قوية . فنبههم إلى أن هذا ليس مبررا لأن يتخذوا أقسامهم غشا وخديعة فيتخلوا عنها : ( تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة ) أي بسبب كون أمة أكثر عددا وقوة من أمة . وطلبا للمصلحة مع الأمة الأربى .

ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقا لما يسمى الآن " مصلحة الدولة " فتعقد دولة معاهدة مع دولة أو مجموعة دول ، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر ، تحقيقا لمصلحة الدولة ! فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر ، ويجزم بالوفاء بالعهد ، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل . ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهدا ولا تعاونا على غير البر والتقوى . ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان ، وأكل حقوق الناس ، واستغلال الدول والشعوب . . وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية فنعم العالم بالطمأنينة والثقة والنظافة في المعاملات الفردية والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى الإسلام .

والنص هنا يحذر من مثل ذلك المبرر ، وينبه إلى أن قيام مثل هذه الحالة : ( أن تكون أمة هي أربى من أمة )هو ابتلاء من الله لهم ليمتحن إرادتهم ووفاءهم وكرامتهم على أنفسهم وتحرجهم من نقض العهد الذي أشهدوا الله عليه : ( إنما يبلوكم الله به ) . .

ثم يكل أمر الخلافات التي تنشب بين الجماعات والأقوام إلى الله في يوم القيامة للفصل فيه : ( وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون )يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

وقوله : { وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا } ، قال عبد الله بن كثير ، والسدّي : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة ، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه .

وقال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده .

وهذا القول أرجح وأظهر ، وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا .

وقوله : { أَنْكَاثًا } ، يحتمل أن يكون اسم مصدر : نقضت غزلها أنكاثا ، أي : أنقاضا . ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان ، أي : لا تكونوا أنكاثا ، جمع نكث من ناكث ؛ ولهذا قال بعده : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ } ، أي : خديعة ومكرًا ، { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ، أي : يحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم ، فإذا أمكنكم الغدر بهم غَدَرتم . فنهى الله عن ذلك ، لينبه بالأدنى على الأعلى ؛ إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه ، فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى .

وقد قدمنا - ولله الحمد - في سورة " الأنفال " {[16675]} قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمَدٌ ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل ، حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم ، أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون ، فقال له عمرو بن عَبْسَة : الله أكبر يا معاوية ، وفاء لا غدرًا ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عُقدة حتى ينقضي أمَدها " . فرجع معاوية بالجيش ، رضي الله عنه وأرضاه .

قال ابن عباس : { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ، أي : أكثر .

وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ، فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز . فنهوا عن ذلك . وقال الضحاك ، وقتادة ، وابن زيد نحوه .

وقوله : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } ، قال سعيد بن جُبَير : يعني بالكثرة . رواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن جرير : أي : بأمره إياكم بالوفاء والعهد .

{ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ، فيجازى كل عامل بعمله ، من خير وشر .


[16675]:عند تفسير الآية: 58.