فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 92 ) } .

ثم أكد وجوب الوفاء تحريم النقض فقال : { وَلاَ تَكُونُواْ } ، فيما تصنعون من النقض بعد التوكيد . { كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا } ، أي : ما غزلته ، { مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } ، أي : إبرام الغزل وإحكامه . عن ابن عباس : أن سعيدة الأسدية كانت تجمع الشعر والليف ، فنزلت فيها هذه الآية ، وعن أبي بكر بن حفص مثله ، وفي الروايتين جميعا أنها كانت مجنونة ، وعن السدي في سبب نزولها قال : كانت امرأة بمكة تسمى خرقاء مكة ، كانت تغزل ، فإذا أبرمت غزلها نقضته .

وعن عبد الله بن كثير معناه ، وقيل هي امرأة حمقاء ، اسمها : ريطة بنت سعد بن تيم قرشية ، فالمشبه به معين على هذا ، وفي الكرخي : المراد به : تشبيه الناقض بمن هذا شأنه من غير تعيين ؛ لأن القصد بالأمثال صرف المكلف عن الفعل إذا كان قبيحا ، والدعاء إليه إذا كان حسنا ، وذلك يتم بدون التعيين إذ لا يلزم في التشبيه أن يكون المشبه به موجودا في الخارج .

{ أَنكَاثًا } ، جمع نكث بكسر النون ، ما ينكث فتله ليغزل ثانيا ، بمعنى : منكوث ، أي : منقوض ، يقال نكث الرجل العهد نكثا ، من باب قتل نقضه ونبذه فانتكث ، قال ابن قتيبة : هذه الآية متعلقة بما قبلها ، والتقدير : وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأيمان ، فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلا وأحكمته ، ثم جعلته أنكاثا ، أي : أقطاعا وأجزاء .

{ تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } ، قال الجوهري : الدخل : المكر والخديعة ، وقال أبو عبيدة : كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل ، وقيل : الدخل ما أدخل الشيء على فساده ، وقال الزجاج : غشا وغلا ، وقيل : أصل الدخل العيب ، والعيب ليس من الشيء الذي يدخل فيه . { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ } ، أي : بأن تكون جماعة ، أو لأجل وجدانكم أمة ، { هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ، جماعة ، أي : أكثر عددا منها وأوفر مالا ، يقال : ربى الشيء يربو إذا كثر ، قال الفراء : المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم وقد عزرتموهم بالأيمان ، قيل : وقد كانت قريش إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم ، نقضوا عهدهم وحالفوا أعدائهم ، قاله مجاهد . وقيل : هو تحذير للمؤمنين أن يغتروا بكثرة قريش وسعة أموالهم فينقضوا بيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

{ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ } ، أي : يختبركم بكونكم أكثر وأوفر ، لينظر هل تتمسكون بحبل الوفاء أم تنقضون اغترارا بالكثرة ، فالضمير في " به " ، راجع إلى مضمون الجملة المتقدمة ، أي : إنما يبلوكم الله بتلك الكثرة ليعلم ما تصنعون ، أو إنما يبلوكم الله بما يأمركم وينهاكم .

{ وَلَيُبَيِّنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ، فيوضح الحق والمحقين ويرفع درجاتهم ، ويبين الباطل والمبطلين فينزل بهم من العذاب ما يستحقونه ، أو يبين لكم ما كنتم تختلفون فيه من البعث والجنة والنار ، وفي هذا إنذار وتحذير من مخالفة الحق والركون إلى الباطل .