التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

قوله : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ) ، ( أنكاثا ) ، حال من ( غزلها ) ، وقيل : مفعول ثان للفعل ( نقضت ) أي صيرت غزلها أنقاضا . والأنكاث جمع نكث بكسر النون ؛ أي : منكوث ، بمعنى : منقوض{[2597]} ؛ والمعنى : أن الله ينهى عباده المؤمنين عن نقض الأيمان بعد توكيدها . فنقضها حرام ؛ لأنه غدر وخيانة وسوء في الخلق يتلبس به الناقضون للعهود والأيمان . والله جل وعلا يحذر المؤمنين من نقض عهودهم وأيمانهم بعد إبرامها وتوثيقها ، كيلا يكونوا في ذلك نظراء لامرأة ضالة حمقاء تنقض غزلها بعد إبرامه وإحكامه . ولا يجترئ على نكث العهد أو العقد أو اليمين إلا السفيه الأحمق .

وقيل : إن التي كانت تفعل ذلك امرأة حمقاء خرقاء معروفة بمكة ، كانت تنقض غزلها عقب إبرامه ، فكلما عقدته نكثته .

والصواب : أن الآية تفيد عموم التحذير والنهي عن نكث العهود والمواثيق . وإنما هذا مثل ضربه الله لناقض العهد أو اليمين ؛ إذ شبهه بامرأة تنقض غزلها بعد إحكامه وتقويته ، لغير مصلحة ولا جدوى إلا الحماقة والسفه .

قوله : ( تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ) ، الجملة في محل نصب حال من : ( أنكاثا ) ، ( دخلا ) ، مفعول ثان لقوله : ( تتخذون ) ، وقيل : مفعول لأجله . والدخل ، بالتحريك ، ما داخلك من فساد في عقل أو جسم ، ويعني أيضا : الغدر والمكر والخديعة{[2598]} . والمراد : أنكم تجعلون أيمانكم التي حلتم بها لمن عاقدتموهم من الناس ( دخلا بينكم ) ، أي : خديعة وغرورا ، لكي يطمئنوا إليكم ، وأنتم تخفون لهم في أنفسكم الغدر وعدم الوفاء لهم بالعهد ، والانتقال إلى قوم آخرين لكونهم أكثر عددا منهم . وهو قوله : ( أن تكون أمة هي أربى من أمة ) ، أي : بسبب أن تكون ، أو مخافة أن تكون جماعة أزيد عددا من جماعة ، أو ناس أكثر من ناس . وقد قيل : كانوا يخالفون الحلفاء فيجدون غيرهم أكثر منهم مالا وأعز نفرا وأزيد عددا ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون هؤلاء لقوتهم وكثرتهم . وذلك خلق الأرذال والخائنين والخائرين من الناس الذين لا تمسكهم عقيدة ولا يشدهم عهد أو ميثاق ، لكنهم سجيتهم الغدر والخداع ونقض العهود كلما سنحت الظروف ليجنحوا إلى حلفاء أقوياء جدد . أولئك هم الأرذلون المنافقون الذين يلهثون خلف الأهواء والمفاسد من خسائس الأغراض والمنافع . لكن المسلمين شيمتهم الثبات على العقيدة والمبدأ ودوام التلبس بخلق الإسلام في رعي العهود وصون الأيمان والمواثيق ، والثبات على الحق والفضيلة في كل الأحوال والأزمات دون زيغ أو انحراف أو اضطراب مهما تكن الظروف من الشدة واحتدام البأس والكروب . وقوله : ( تكون ) ، فعل تام ، و ( أمة ) ، فاعله . أو فعل ناقص ، و ( أمة ) ، اسمها . وخبرها ( أربى ) {[2599]} .

قوله : ( إنما يبلوكم الله به ) ، الضمير في قوله : ( به ) ، يعود على المصدر من ( أن تكون ) ، والتقدير : إنما يبلوكم الله بكون أمة ؛ أي : يختبركم الله بكونهم أربى منكم ، لينظر أتصبرون على الثبات على الحق والوفاء بعهد الله وما وكدتم من الأيمان ، أم أنكم تغترون بكثرة المشركين وقلة المسلمين وفقرهم ، فتميلون إلى عدو الله وعدوكم وهم المشركون .

قوله : ( وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) ، لسوف يبين الله للناس إذا جيء بهم يوم القيامة ما كانوا يختلفون فيه في الدنيا ؛ إذ كان المؤمنون يقرون بوحدانية الله ويصدقون المرسلين وخاتمهم محمد بن عبد الله عليه وعليهم صلوات الله وسلامه ، وكان المشركون والظالمون يجحدون الرسالات جميعا أو بعضها ؛ فقد جحدت يهود بعض النبيين ، من بينهم : محمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام . وجحدت النصارى نبوة الرسول الأعظم خاتم النبيين والمرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم . لكن المسلمون صدقوا النبيين أجمعين وأيقنوا أنهم جميعا على الحق وأنهم قد أوحي إليهم . وكذلك كان اختلاف الناس في الدنيا . ويوم القيامة يلاقون الجزاء ليجد كل فريق منهم سبيله إما إلى النعيم ، وإما إلى الجحيم{[2600]} .


[2597]:- الدر المصون جـ 281.
[2598]:- القاموس المحيط ص 129.
[2599]:- الدر المصون جـ7 ص 281.
[2600]:- تفسير الطبري جـ14 ص 110- 113 وتفسير النسفي جـ2 ص 298 وتفسير البيضاوي ص 365.