معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

قوله تعالى : { ولقد همت به وهم بها } ، والهم هو : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه . فهمها : عزمها على المعصية والزنا . وأما همه : فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن . وعن مجاهد قال : حل سراويله وجعل يعالج ثيابه ، وهذا قول أكثر المتقدمين مثل سعيد بن جبير والحسن . وقال الضحاك : جرى الشيطان فيما بينهما فضرب بإحدى يديه إلى جيد يوسف وباليد الأخرى إلى جيد المرأة حتى جمع بينهما . قال أبو عبيد القاسم بن سلام : وقد أنكر قوم هذا القول ، والقول ما قال متقدمو هذه الأمة ، وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء عليهم السلام من غير علم . وقال السدي وابن إسحاق : لما أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف عليه السلام عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وتشوقه إلى نفسها ، فقالت : يا يوسف ما أحسن شعرك ! . قال : هو أول ما ينتثر من جسدي . قالت : ما أحسن عينيك ! قال : هي أول ما تسيل على وجهي في قبري . قالت : ما أحسن وجهك ! قال : هو للتراب يأكله وقيل : إنها قالت : إن فراش الحرير مبسوط ، فقم فاقض حاجتي . قال : إذا يذهب نصيبي من الجنة . فلم تزل تطمعه وتدعوه إلي اللذة ، وهو شاب يجد من شبق الشباب ما يجده الرجل ، وهي امرأة حسناء جميلة ، حتى لان لها مما يرى من كلفها ، وهم بها ، ثم إن الله تعالى تدارك عبده ونبيه بالبرهان الذي ذكره . وزعم بعض المتأخرين : أن هذا لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام ، وقال : تم الكلام عند قوله : { ولقد همت به } ، ثم ابتدأ الخبر عن يوسف عليه السلام فقال : { وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } ، على التقديم والتأخير ، أي : لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، ولكنه رأى البرهان فلم يهم . وأنكره النحاة ، وقالوا : إن العرب لا تؤخر " لولا " عن الفعل ، فلا تقول : لقد قمت لولا زيد ، وهو يريد لولا زيد لقمت . وقيل : همت بيوسف أن يفترشها ، وهم بها يوسف أي : تمنى أن تكون له زوجة . وهذا التأويل وأمثاله غير مرضية لمخالفتها أقاويل القدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم الدين والعلم . وقال بعضهم : إن القدر الذي فعله يوسف عليه السلام كان من الصغائر ، والصغائر تجوز على الأنبياء عليهم السلام . روي أن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك حين خرج من السجن وأقرت المرأة ، قال يوسف : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال له جبريل : هممت بها يا يوسف ؟ فقال يوسف عند ذلك : { وما أبرئ نفسي } الآية . وقال الحسن البصري : إن الله تعالى لم يذكر ذنوب الأنبياء عليهم السلام في القرآن ليعيرهم ، ولكن ذكرها ليبين موضع النعمة عليهم ، ولئلا ييأس أحد من رحمته . وقيل : إنه ابتلاهم بالذنوب لينفرد بالطهارة والعزة ، ويلقاه جميع الخلق يوم القيامة على انكسار المعصية . وقيل : ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء وترك الإياس من المغفرة والعفو . وقال بعض أهل الحقائق : الهم همان : هم ثابت ، وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضى ، مثل هم امرأة العزيز ، والعبد مأخوذ به ، وهم عارض وهو الخطرة ، وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم ، مثل هم يوسف عليه السلام ، فالعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل .

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد محمش الزيادي ، ثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، ثنا أحمد بن يوسف السلمي ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر عن همام بن منبه قال : ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل : إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها ، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ، ما لم يعملها ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها " .

قوله تعالى : { لولا أن رأى برهان ربه } ، اختلفوا في ذلك البرهان : قال قتادة وأكثر المفسرين : أنه رأى صورة يعقوب ، وهو يقول له : يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء ! . وقال الحسن وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : مثل له يعقوب عليه السلام فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله . وقال السدي : نودي يا يوسف تواقعها ! إنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جوف السماء لا يطاق ، ومثلك إن تواقعها مثله إذا مات ووقع على الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يطاق ، ومثلك إن واقعتها مثل الثور يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفعه عن نفسه . وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { وهم بها } قال : حل سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته ، فإذا بكف قد بدت بينهما بلا معصم ولا عضد مكتوب عليها { وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون } [ الانفطار-11 ] فقام هاربا وقامت ، فما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد فظهرت تلك الكف مكتوبا عليها : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } [ الإسراء-32 ] فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد فظهر ، ورأى تلك الكف مكتوبا عليها { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } [ البقرة-281 ] فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد ، فقال الله عز وجل لجبريل عليه السلام : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحط جبريل عليه السلام عاضا على أصبعه ، يقول : يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء . وروي أنه مسحه بحناحه فخرجت شهوته من أنامله . وقال محمد بن كعب القرظي : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت حين هم بها فرأى كتابا في حائط البيت : { لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } . وروى عطية عن ابن عباس : في البرهان أنه رأى مثال الملك . وقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما : البرهان النبوة التي أودعها الله في صدره حالت بينه وبين ما يسخط الله عز وجل . وعن علي بن الحسين قال : كان في البيت صنم فقامت المرأة وسترته بثوب ، فقال لها يوسف : لم فعلت هذا ؟ . فقالت : استحييت منه أن يراني على المعصية . فقال يوسف : أتستحين مما لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه ؟ فأنا أحق أن أستحي من ربي ، وهرب . قوله تعالى : { لولا أن رأى برهان ربه } جواب لولا محذوف ، تقديره : لولا أن رأى برهان ربه لواقع المعصية . { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } ، فالسوء : الإثم . وقيل : السوء القبيح . والفحشاء : الزنا .

قوله تعالى : { إنه من عبادنا المخلصين } ، قرأ أهل المدينة والكوفة : { المخلصين } بفتح اللام حيث كان إذا لم يكن بعده ذكر الدين ، زاد الكوفيون مخلصاً في سورة مريم ففتحوا . ومعنى المخلصين المختارين للنبوة ، دليله : { إنا أخلصناهم بخالصة } [ ص~ -146 ] . وقرأ الآخرون بكسر اللام ، أي : المخلصين لله الطاعة والعبادة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

{ 23 - 29 } { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ }

هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته ، وصبره عليها أعظم أجرا ، لأنه صبر اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة ، لوقوع الفعل ، فقدم محبة الله عليها ، وأما محنته بإخوته ، فصبره صبر اضطرار ، بمنزلة الأمراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إلا الصبر عليها ، طائعا أو كارها ، وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام بقي مكرما في بيت العزيز ، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك ، أن { رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ } أي : هو غلامها ، وتحت تدبيرها ، والمسكن واحد ، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير إشعار أحد ، ولا إحساس بشر .

{ وَ } زادت المصيبة ، بأن { غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ } وصار المحل خاليا ، وهما آمنان من دخول أحد عليهما ، بسبب تغليق الأبواب ، وقد دعته إلى نفسها { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } أي : افعل الأمر المكروه وأقبل إليَّ ، ومع هذا فهو غريب ، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه ، وهو أسير تحت يدها ، وهي سيدته ، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك ، وهو شاب عزب ، وقد توعدته ، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن ، أو العذاب الأليم .

فصبر عن معصية الله ، مع وجود الداعي القوي فيه ، لأنه قد هم فيها هما تركه لله ، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء ، ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان ، الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف ، عن هذه المعصية الكبيرة ، و { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ } أي : أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح ، لأنه مما يسخط الله ويبعد منه ، ولأنه خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي .

فلا يليق بي أن أقابله في أهله بأقبح مقابلة ، وهذا من أعظم الظلم ، والظالم لا يفلح ، والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله ، ومراعاة حق سيده الذي أكرمه ، وصيانة نفسه عن الظلم الذي لا يفلح من تعاطاه ، وكذلك ما منَّ الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه ، يقتضي منه امتثال الأوامر ، واجتناب الزواجر ، والجامع لذلك كله أن الله صرف عنه السوء والفحشاء ، لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم ، الذين أخلصهم الله واختارهم ، واختصهم لنفسه ، وأسدى عليهم من النعم ، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

ولكن نداء العقل ونداء الشهوة الجامحة لم ينته عند هذا الحد ، بل نرى القرآن الكريم بحكى لنا بعد ذلك صداما آخر بينهما فيقول : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ . . . } .

وهذه الآية الكريمة من الآيات التي خلط المفسرون فيها بن الأقوال الصحيحة والأقوال السقيمة .

وسنبين أولا الرأى الذي نختاره في تفسيرها ثم نتبعه بعد ذلك بغيره فنقول : ألهّم : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه ، تقول هممت على فعل هذا الشئ ، إذا أقبلت نفسك عليه دون أن تفعله .

وقال : بعض العلماء : الهم نوعان : هم ثابت معه عزم وعقد ورضا ، وهو مذموم مؤاخد به صاحبه ، وهَمٌّ بمعنى خاطر وحديث نفس ، من غير تصميم وهو غير مؤاخذ به صاحبه ، لأن خطور المناهى في الصدور ، وتصورها في الأذهان ، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان .

روى الشيخان وأهل السنن عن أبى هريرة ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به ، أو تعمل به " .

وقد أجمع العلماء على أن همَّ امرأة العزيز بيوسف كان هما بمعصية ، وكان مقرونا بالعزم والجزم والقصد ، بدليل المراودة وتغليق الأبواب ، وقولها " هيْت لك " .

كما أجمعوا على أن يوسف - عليه السلام - لم يأت بفاحشة ، وأن همه كان مجرد خاطرة قلب بمقتضى الطبيعة البشرية : من غير جزم وعزم . . .

وهذا اللون من الهم لا يدخل تحت التكليف ، ولا يخل بمقام النبوّة ، كالصائم يرى الماء البارد في اليوم الشديد الحرراة ، فتميل نفسه إليه ، ولكن دينه يمنعه من الشرب منه ، فلا يؤاخذ بهذا الميل .

والمراد ببرهان ربه هو : ما غرسه الله - تعالى - في قلبه من العلم المصحوب بالعمل ، بأن هذا الفعل الذي دعته إليه امرأة العزيز قبيح ، ولا يليق به .

أو هو - كما يقول ابن جرير - رؤيته من آيات الله ما زجره عما كان همّ به . .

والمعنى : ولقد همت به ، أى : ولقد قصدت امرأة العزيز مواقعة يوسف - عليه السلام - قصداً جازما ، بعد أن أغرته بشتى الوسائل فلم يستجب لها . . .

{ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أى : ومال إلى مطاوعتها بمقتضى طبيعته البشرية وبمقتضى توفر كل الدواعى لهذا الميل . . .

ولكن مشاهدته للأدلة على شناعة المعصية ، وخوفه لمقام ربه ، وعون الله - تعالى - له على مقاومة شهوته . . . كل ذلك حال بينه وبين تنفيذ هذا الميل ، وصرفه عنه صرفا كليا ، وجعله يفر هاربا طالبا النجاة مما تريده منه تلك المرأة .

هذا هو الرأى الذي نختاره في تفسير هذه الآية الكريمة ، وقد استخلصناه من أقوال المفسرين القدامى والمحدثين .

فمن المفسرين القدامى الذن ذكروا هذا الرأى صاحب الكشاف ، فقد قال ما ملخصه .

وقوله - تعالى - { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } معناه : ولقد همت بمخالطته ؛ " وهم بها " أى : وهم بمخالطتها { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } جوابه محذوف تقديره ؛ لولا أن رأى برهان ربه لخالطها ، فحذف لأن قوله وهم بها يدل عليه ، كقولك : هممت بقتله لولا أنى خفت الله . معناه : لولا أنى خفت الله لقتلته .

فإن قلت : كيف جاز على نبى الله أن يكون منه هم بالمعصية ؟

قلت : " المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ، ونازعت إليها عن شهوة الشباب ، ميلا يشبه الهم به ، وكما تقتضيه تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم ، وهو يكسر ما به ، ويرده بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين بوجوب اجتناب المحارم ، ولو لم يكن ذلك الميل الشديؤد المسمى هما لشدته ، لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع ، لأن استعظام الصبر على الابتلاء ، على حسب عظم الابتلاء وشدته ، ولو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه بأنه من عباده المخلصين "

ومن المفسرين المحدثين الذين ذكروا هذا الرأى الإمام الآلوسى ، فقد قال ما ملخصه : قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أى : بمخالطته . . والمعنى : أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما ، لا يلويها عنها صارف بعدما باشرت مباديها . . .

والتأكيد - باللام وقد - لدفع ما يتوهم من احتمال إقلاعها عما كانت عليه .

{ وَهَمَّ بِهَا } أى : مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية . . . ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحتل التكليف ، وليس المراد أنه قصدها قصدا اختياريا ، لأن ذلك أمر مذموم تنادى الآيات بعدم اتصافه به ، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر على سبيل المشاكلة لا لشبهه به . . . { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أى محبته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا ، وسوء سبيله .

والمراد برؤيته له : كمال إيقانه به ، ومشاهدته له مشاهدة وصلت إلى مرتبة عين اليقين . . .

ومن المفسرين من يرى أن المراد بهما به : الهم بضربه نتيجة عصيانه لأمرها .

وان المراد بهمه بها : الدفاع عن نفسه برد الاعتداء ، ولكنه آثر الهرب .

وقد قرر هذا الرأى ودافع عنه وأنكر سواه صاحب المنار ، فقد قال ما ملخصه :

{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أى : وتالله لقد قهمت المرأة بالبطش به لعصيانه لأمرها ، وهى في نظرها سيدته وهو عبدها ، وقد أذلت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها ، بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه . . . فخرجت بذلك عن طبع أنوثتها في التمنع . . مما جعلها تحاول البطش به بعد أن أذل كرامتها ، وهو انتقام معهود من مثلها ، وممن دونها في كل زمان ومكان .

.

وكاد يرد صيالها ويدفعه بمثله ، وهو قوله - تعالى - { وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ولكنه رأى من برهان ربه في سريرة نفسه ، ما هو مصداق قوله - تعالى - { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } وهو إما النبوة . . . وإما معجزتها . . وإما مقدمتها من مقام الصديقية العليا ، وهى مراقبته لله - تعالى - ورؤيته ربه متجليا له ، ناظرا إليه .

وما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم منها بالبطش بيوسف ، وتفسير الهم منه برد الاعتداء الذي وقع عليه منها . . . اقول : ما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم بذلك ، لا أرى دليلا عليه من الآية ، لا عن طريق الإِشارة ، ولا عن طريق العبارة . . .

ولعل صاحب المنار - رحمه الله - أراد بهذا التفسير أن يبعد يوسف - عليه السلام - عن أن يكون قدهم بها هم ميل بمقتضى الطبيعة البشرية ، ونحن لا نرى مقتضيا لهذا الإِبعاد ، لأن خطور المناهى في الأذهان ، لا مؤاخذة عليها ، ما دامت لم يصاحبها عزم أو قصد - كما سبق أن أشرنا إلى ذلك من قبل .

هذا وهناك أقوال أخرى لبعض المفسرين في معنى الآية الكيرمة ، رأينا أن نضرب عنها صفحا ؛ لأنه لا دليل عليها لا من العقل ولا من النقل ولا من اللغة . . . وإنما هي من الأوهام الإِسرائيلية التي تتنافى كل التنافى مع أخلاق عباد الله المخلصين ، الذين على رأسهم يوسف - عليه السلام .

قوله - سبحانه - { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله - تعالى - به ، ورعايته له .

والكاف : نعت لمصدر محذوف والإِشارة بذلك إلى الإِراءة المدلول عليها بقوله { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك .

والصرف : نقل الشئ من مكان إلى مكان والمراد به هنا : الحفظ من الوقوع فيما نهى الله عنه ، أى : أريناه مثل هذه الإِراءة أو ثبتناه تثبيتا مثل هذا التثبيت لنعصمه ونحفظه ونصونه عن الوقوع في السوء - أى في المنكر والفجور والمكروه - والفحشاء - أى كل ما فحش وقبح من الأفعال كالزن ونحوه .

{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } - بفتح اللام - أى : إنه من عبادنا الذين أخلصناهم لطاعتنا وعصمناهم من كل ما يغضبنا .

وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمر " المخلصين " - بكسر اللام - أى : إنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم لنا .

والجملة الكريمة على القراءتين تعليل لحكمة صرفه - عليه السلام - عن السوء والفحشاء .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

والنص هنا صريح وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي ، المصحوب بتذكر نعمة الله عليه ، وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون هذه الحدود . فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهزة بعد تغليق الأبواب ، وبعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته وروايته :

( وقالت : هيت لك ) .

( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) !

لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة . فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعا شبقا ، والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع ! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضا على أصبعه بفمه ! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن - أي نعم من القرآن ! - تنهي عن مثل هذا المنكر ، وهو لا يرعوي ! حتى أرسل الله جبريل يقول له : أدرك عبدي ، فجاء فضربه في صدره . . إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع !

وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل ، وهم بها هم النفس ، ثم تجلى له برهان ربه فترك .

وأنكر المرحوم الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار على الجمهور هذا الرأي . وقال : إنها إنما همت بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها وهي السيدة الآمرة ، وهم هو برد الاعتداء ؛ ولكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر . . وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة ، فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل أو هم الميل إليه في تلك الواقعة . وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص .

أما الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا ، وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف ، في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة ، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعدما أوتيهما .

الذي خطر لي أن قوله تعالى :

( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) .

هو نهاية موقف طويل من الإغراء ، بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم . . وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ؛ ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة . . ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة ؛ لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة ، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك . فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته ، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما ، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا .

هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص ، ونتصور الظروف . وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية . وما كان يوسف سوى بشر . نعم إنه بشر مختار . ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات . فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه ، بعد لحظة الضعف الطارئة ، عاد إلى الاعتصام والتأبي .

( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِهَا لَوْلآ أَن رّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السّوَءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } .

ذُكر أن امرأة العزيز لما همّت بيوسف ، وأرادت مراودته ، جعلت تذكر له محاسن نفسه ، وتشوّقه إلى نفسها . كما :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلَقَدْ هَمّتْ بهِ وَهَمّ بِها } ، قال : قالت له : يا يوسف ، ما أحسن شعرك ! قال : هو أوّل ما ينتثر من جسدي . قالت : يا يوسف ، ما أحسن وجهك ! قال : هو للتراب يأكله . فلم تزل حتى أطمعته ، فهمت به ، وهمّ بها . فدخلا البيت ، وغلقت الأبواب ، وذهب ليحلّ سراويله ، فإذا هو بصورة يعقوب قائما في البيت قد عضّ على أصبعه ، يقول : يا يوسف ، تواقعها فإنما مَثَلُكَ ما لم تواقعها مثل الطير في جوّ السماء لا يطاق ، ومثلك إذا واقعتها مثلَه إذا مات ووقع إلى الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يُعمل عليه ، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه . فربط سراويله ، وذهب ليخرج يشتدّ ، فأدركْته ، فأخذت بمؤخر قميصه من خلفه ، فخرقته حتى أخرجته منه ، وسقط ، وطرحه يوسف ، واشتدّ نحو الباب .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أكبت عليه ، يعني : المرأة ، تطمعه مرّة ، وتخيفه أخرى ، وتدعوه إلى لذّة من حاجة الرجال في جمالها وحسنها ومُلكها ، وهو شاب مستقبل يجد من شبق الرجال ما يجد الرجل حتى رقّ لها مما يرى من كلفها به ، ولم يتخوّف منها حتى همّ بها ، وهمت به ، حتى خَلَوَا في بعض بيوته .

ومعنى الهمّ بالشيء في كلام العرب : حديث المرء نفسه بمواقعته ، ما لم يواقع .

فأما ما كان من همّ يوسف بالمرأة وهمها به ، فإن أهل العلم قالوا في ذلك ما أنا ذاكره ، وذلك ما :

حدثنا أبو كريب وسفيان بن وكيع ، وسهل بن موسى الرازي ، قالوا : حدثنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، سئل عن همّ يوسف ما بلغ ؟ قال : حلّ الهِمْيان ، وجلس منها مجلس الخاتن . لفظ الحديث لأبي كُريب .

حدثنا أبو كريب ، وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن عيينة ، قال : سمع عبيد الله بن أبي يزيد ابن عباس في : { وَلَقَدْ همّتْ بِه وَهَمّ بِهَا } ، قال : جلس منها مجلس الخاتن ، وحلّ الهِمْيان .

حدثنا زياد بن عبد الله الحساني ، وعمرو بن عليّ ، والحسن بن محمد ، قالوا : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس سئل : ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال : حلّ الهميان ، وجلس منها مجلس الخاتن .

حدثني زياد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : سألت ابن عباس : ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال : استلقت له ، وجلس بين رجليها .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : استلقت له ، وحلّ ثيابه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، ما بلغ ؟ قال : استلقت له ، وجلس بين رجليها ، وحلّ ثيابه ، أو ثيابها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : سألت ابن عباس : ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال : استلقت على قفاها ، وقعد بين رجليها لينزع ثيابه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، قال : سئل ابن عباس ، عن قوله : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال : حلّ الهميان ، يعني : السراويل .

حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت الأعمش ، عن مجاهد ، في قوله : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : حلّ السراويل حتى التّبان ، واستلقت له .

حدثنا زياد بن عبد الله الحساني ، قال : حدثنا مالك بن سعير ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مجاهد ، في قوله : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : حلّ سراويله ، حتى وقع على التّبان .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : جلس منها مجلس الرجل من امرأته .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : ثني القاسم بن أبي بزة : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : أما هَمّها به : فاستلقت له ، وأما همه بها : فإنه قعد بين رجليها ، ونزع ثيابه .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثني حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن أبي مليكة ، قال : قلت لابن عباس : ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال : استلقت له ، وجلس بين رجليها ينزع ثيابه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا يحيى بن اليمان ، عن سفيان ، عن عليّ بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير وعكرمة ، قالا : حلّ السراويل ، وجلس منها مجلس الخاتن .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، عن شريك ، عن جابر ، عن مجاهد : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : استلقت ، وحلّ ثيابه حتى بلغ التبان .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : أطلق تكة سراويله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي ملكية ، قال : شهدت ابن عباس سئل عن همّ يوسف ما بلغ ؟ قال : حلّ الهميان ، وجلس منها مجلس الخاتن .

فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا ، وهو لله نبيّ ؟ قيل : إن أهل العلم اختلفوا في ذلك ، فقال بعضهم : كان ممن ابتلي من الأنبياء بخطيئة ، فإنما ابتلاه الله بها ليكون من الله عزّ وجلّ على وَجَل إذا ذكرها ، فيجدّ في طاعته إشفاقا منها ، ولا يتكل على سعة عفو الله ورحمته .

وقال آخرون : بل ابتلاهم الله بذلك ليعرّفهم موضع نعمته عليهم ، بصفحه عنهم ، وتركه عقوبته عليه في الآخرة .

وقال آخرون : بل ابتلاهم بذلك ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله ، وترك الإياس من عفوه عنه ، إذا تابوا .

وأما آخرون ممن خالف أقوال السلف ، وتأوّلوا القرآن بآرائهم ، فإنهم قالوا في ذلك أقوالاً مختلفة : فقال بعضهم : معناه : ولقد همت المرأة بيوسف ، وهمّ بها يوسف أن يضربها أو ينالها بمكروه لهمها به مما أرادته من المكروه ، لولا أن يوسف رأى برهان ربه ، وكفه ذلك عما همّ به من أذاها ، لا أنها ارتدعت من قِبلَ نفسها . قالوا : والشاهد على صحة ذلك قوله : { كذلكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السّوءَ والفَحْشاءَ } ، قالوا : فالسوء : هو ما كان همّ به من أذاها ، وهو غير الفحشاء .

وقال آخرون منهم : معنى الكلام : ولقد همت به . فتناهى الخبر عنها ، ثم ابتدىء الخبر عن يوسف ، فقيل : وهمّ بها يوسف ، لولا أن رأى برهان ربه . كأنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن يوسف لم يهمّ بها ، وأن الله إنما أخبر أن يوسف لولا رؤيته برهان ربه لهمّ بها ، ولكنه رأى برهان ربه ، فلم يهمّ بها ، كما قيل : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ إلاّ قَليلاً } . ويفسد هذين القولين أن العرب لا تقدم جواب «لولا » قبلها ، لا تقول : " لقد قمت لولا زيد " ، وهي تريد : " لولا زيد لقد قمت " ، هذا مع خلافهما جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين عنهم يؤخذ تأويله .

وقال آخرون منهم : بل قد همّت المرأة بيوسف ، وهمّ يوسف بالمرأة ، غير أن همهما كان تمثيلاً منهما بين الفعل والترك ، لا عزما ولا إرادة ، قالوا : ولا حرج في حديث النفس ولا في ذكر القلب إذا لم يكن معهما عزم ولا فعل . وأما البرهان الذي رآه يوسف ، فترك من أجله مواقعة الخطيئة ، فإن أهل العلم مختلفون فيه ، فقال بعضهم : نودي بالنهي عن مواقعة الخطيئة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي ملكية ، عن ابن عباس : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : نودي : يا يوسف ، أتزني ؟ فتكون كالطير وقع ريشه فذهب يطير ، فلا ريش له .

قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي ملكية ، عن ابن عباس ، قال : لم يتعظ على النداء حتى رأى برهان ربه ، قال : تمثال صورة وجه أبيه ، قال سفيان : عاضّا على أصبعه ، فقال : يا يوسف ، تزني ، فتكون كالطير ذهب ريشة ؟

حدثني زياد بن عبد الله الحساني ، قال : ثني محمد بن أبي عديّ ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : قال ابن عباس : نودي : يا ابن يعقوب ، لا تكن كالطائر له ريش ، فإذا زنى ذهب ريشه ، أو قعدَ لا ريش له ، قال : فلم يتعظ على النداء ، فلم يزد على هذا ، قال ابن جريج : وحدثني غير واحد ، أنه رأى أباه عاضّا على أصبعه .

حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن نافع عن ابن عمر ، عن ابن أبي ملكية ، قال : قال ابن عباس : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : نودي ، فلم يسمع ، فقيل له : يا ابن يعقوب ، تريد أن تزني ، فتكون كالطير نُتِف فلا ريش له ؟

حدثنا ابن حميد . قال : حدثنا سلمة ، عن طلحة ، عن عمرو الحضرميّ ، عن ابن أبي مليكة ، قال : بلغني أن يوسف لما جلس بين رجلي المرأة ، فهو يحلّ هميانه ، نودي : يا يوسف بن يعقوب ، لا تزن ، فإن الطير إذا زنى تناثر ريشه ، فأعرض . ثم نودي ، فأعرض . فتمثل له يعقوب عاضّا على أصبعه ، فقام .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، قال : نودي : يا ابن يعقوب ، لا تكن كالطير إذا زنى ذهب ريشه ، وبقي لا ريش له ، فلم يتعظ على النداء ، ففزع .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن أبي ملكية ، قال : قال ابن عباس : نودي : يا ابن يعقوب ، لا تكوننّ كالطائر له ريش ، فإذا زنى ذهب ريشه ، قال : أو قعد لا ريش له ، فلم يتعظ على النداء شيئا ، حتى رأى برهان ربه ، ففَرِق ، ففرّ .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سلمان ، عن ابن أبي مليكة ، قال : قال ابن عباس : نودي : يا ابن يعقوب ، أتزني ، فتكون كالطير وقع ريشه ، فذهب يطير فلا ريش له ؟

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني نافع بن يزيد ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة قال : نودي يوسف فقيل : أنت مكتوب في الأنبياء ، تعمل عمل السفهاء ؟

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان . عن ابن جريج ، عن ابن أبي ملكية ، قال : نودي : يوسف بن يعقوب ، تزني ، فتكون كالطير نتف فلا ريش له ؟

وقال آخرون : البرهان الذي رأى يوسف ، فكفّ عن مواقعة الخطيئة من أجله ، صورة يعقوب عليهما السلام يتوعدّه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو بن محمد العَنْقزيّ ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى صورة أو تمثال وجه يعقوب عاضّا على أصبعه ، فخرجت شهوته من أنامله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن العَنْقزي ، عن إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : مثل له يعقوب ، فضرب في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى تمثال وجه أبيه قائلاً بكفه ، هكذا ، - وبسط كفه - ، فخرجت شهوته من أنامله .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : مُثّل له يعقوب عاضّا على أصابعه ، فضرب صدره ، فخرجت شهوته من أنامله .

حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى صورة يعقوب واضعا أنملته على فيه يتوعده ، ففرّ .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى بن عباد ، قال : حدثنا جرير بن حازم ، قال سمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدّث ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : حين رأى يعقوب في سقف البيت ، قال : فنزعت شهوته التي كان يجدها حتى خرج يسعى إلى باب البيت ، فتبعته المرأة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع . وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن قرة بن خالد السدوسي ، عن الحسن ، قال : زعموا ، والله أعلم ، أن سقف البيت انفرج ، فرأى يعقوب عاضّا على أصابعه .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى تمثال يعقوب عاضّا على أصبعه ، يقول : يوسف ! يوسف !

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، نحوه .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو العنقزي ، قال : أخبرنا سفيان الثوري ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى تمثال وجه يعقوب ، فخرجت شهوته من أنامله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن عليّ بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير ، قال : رأى صورة فيها وجه يعقوب عاضّا على أصابعه ، فدفع في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله . فكلّ ولد يعقوب ولد له اثنا عشر رجلاً إلا يوسف ، فإنه نقص بتلك الشهوة ، ولم يولد له غير أحد عشر .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن زيد ، عن ابن شهاب ، أن حميد بن عبد الرحمن أخبره : أن البرهان الذي رأى يوسف ، يعقوب .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عيسى بن المنذر ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، قال : حدثنا يونس بن يزيد الأيلي ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : مثل له يعقوب .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : يعقوب .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : مثل له يعقوب .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه قال : جلس منها مجلس الرجل من امرأته حتى رأى صورة يعقوب في الجُدُر .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : مُثّل له يعقوب .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن القاسم بن أبي بزة ، قال : نودي : يا ابن يعقوب ، لا تكوننّ كالطير له ريش ، فإذا زنى قعد ليس له ريش ، فلم يعرض للنداء ، وقعد ، فرفع رأسه ، فرأى وجه يعقوب عاضّا على أصبعه ، فقام مرعوبا استحياء من الله تعالى ذكره . فذلك قول الله سبحانه وتعالى : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } : وجه يعقوب .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة ، قال : مثل له يعقوب عاضّا على أصابعه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن نضر بن عربيّ ، عن عكرمة ، مثله .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : مثل له يعقوب ، فدفع في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله .

قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن عليّ بن بذيمة ، قال : كان يولد لكلّ رجل منهم اثنا عشر ابنا إلا يوسف ، ولد له أحد عشر من أجل ما خرج من شهوته .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا : ابن وهب ، قال : قال أبو شريح : سمعت عبيد الله بن أبي جعفر يقول : بلغ من شهوة يوسف أن خرجت من بنانه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن محمد الخراسانيّ ، قال : سألت محمد بن سيرين ، عن قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : مثل له يعقوب عاضّا على أصابعه ، يقول : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله ، اسمك في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء ؟

حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى يعقوب عاضّا على أصبعه ، يقول : يوسف !

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال قتادة : رأى صورة يعقوب ، فقال : يا يوسف ، تعمل عمل الفجار ، وأنت مكتوب في الأنبياء ؟ فاستحيى منه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } : رأى آية من آيات ربه ، حجزه الله بها عن معصيته ، ذُكر لنا أنه مُثّلَ له يعقوب حتى كلمه ، فعصمه الله ، ونزع كلّ شهوة كانت في مفاصله .

قال : حدثنا سعيد عن قتادة ، عن الحسن : أنه مثل له يعقوب وهو عاضّ على أصبع من أصابعه .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي سالم ، عن أبي صالح ، قال : رأى صورة يعقوب في سقف البيت عاضّا على إصبعه ، يقول : يا يوسف ، يعني قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور ويونس عن الحسن ، في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى صورة يعقوب في سقف البيت عاضّا على أصبعه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي سالم ، عن أبي صالح مثله ، وقال عاضّا على أصبعه ، يقول : يوسف ! يوسف !

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمى ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية ، قال : نظر يوسف إلى صورة يعقوب عاضّا على أصبعه ، يقول : يا يوسف ! فذاك حيث كفّ ، وقام ، فاندفع .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم وأبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى صورة فيها وجه يعقوب عاضّا على أصابعه ، فدفع في صدره ، فخرجت شهوته من بين أنامله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى تمثال وجه أبيه ، فخرجت الشهوة من أنامله .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى بن عباد ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : تمثال صورة يعقوب في سقف البيت .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، قال : رأى يعقوب عاضّا على يده .

قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : يعقوب ضرب بيده على صدره ، فخرجت شهوته من أنامله .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، يقول في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } : آية من ربه . يزعمون أنه مثل له يعقوب ، فاستحيى .

وقال آخرون : بل البرهان الذي رأى يوسف ما أوعد الله عزّ وجلّ على الزنا أهله .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي مودود ، قال : سمعت محمد بن كعب القرظي ، قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت ، فإذا كتاب في حائط البيت : { لا تَقْرَبُوا الزّنا إنّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً } .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مودود ، عن محمد بن كعب ، قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت ، حين همّ ، فرأى كتابا في حائط البيت : { لا تَقْرَبُوا الزّنا إنّهُ كانَ فَاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً } .

قال : حدثنا زيد بن الحباب ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : لولا ما رأى في القرآن من تعظيم الزنا .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني نافع بن يزيد ، عن أبي صخر ، قال : سمعت القرظي يقول في البرهان الذي رأى يوسف : ثلاث آيات من كتاب الله : { إنّ عَلَيْكُمْ لحَافِظينَ . . . } ، الآية ، وقوله : { ومَا تَكُونُ فِي شأنٍ . . . } ، الآية ، وقوله : { أفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } . قال نافع : سمعت أبا هلال يقول مثل قول القُرَظي ، وزاد آية رابعة : { وَلا تَقْرَبُوا الزّنا } .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : أخبرنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، فقال : ما حرّم الله عليه من الزنا .

وقال آخرون : بل رأى تمثال الملك .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بها لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّهِ } ، يقول : آيات ربه ، أُرِيَ تمثال الملك .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان بعض أهل العلم ، فيما بلغني ، يقول : البرهان الذي رأى يوسف ، فصرف عنه السوء والفحشاء : يعقوب عاضّا على أصبعه ، فلما رآه انكشف هاربا . ويقول بعضهم : إنما هو خيال إطفير ، سيده ، حين دنا من الباب ، وذلك أنه لما هرب منها واتبعته ، ألفياه لدى الباب .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله جلّ ثناؤه أخبر عن همّ يوسف وامرأة العزيز كلّ واحد منهما بصاحبه ، لولا أن رأى يوسف برهان ربه ، وذلك آية من آيات الله ، زجرته عن ركوب ما همّ به يوسف من الفاحشة . وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب ، وجائز أن تكون صورة الملك ، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا ، ولا حجة للعذر قاطعة بأيّ ذلك من أيّ . والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى ، والإيمان به ، وترك ما عدا ذلك إلى عالمِه .

وقوله : { كذلكَ لِنَصْرفَ عَنْهُ السّوءَ والفَحْشاءَ } ، يقول تعالى ذكره : كما أرينا يوسف برهاننا على الزجر عما همّ به من الفاحشة ، كذلك نسبب له في كل ما عرض له من همّ يهمّ به فيما لا يرضاه ، ما يزجره ويدفعه عنه ، كي نصرف عنه ركوب ما حرّمنا عليه وإتيان الزنا ، لنطهره من دنس ذلك .

وقوله : { إنّهُ مِنْ عِبادِنا المُخْلَصِينَ } ، اختلف القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة : { إنّهُ مِنْ عِبادِنا المُخْلَصِينَ } ، بفتح اللام من «المخلصين » ، بتأويل : إن يوسف من عبادنا الذين أخلصناهم لأنفسنا واخترناهم لنبوّتنا ورسالتنا . وقرأ ذلك بعض قرأة البصرة : { إنّهُ مِنْ عِبادِنا المُخْلِصِينَ } ، بكسر اللام ، بمعنى : أن يوسف من عبادنا الذين أخلصوا توحيدنا وعبادتنا ، فلم يشركوا بنا شيئا ، ولم يعبدوا شيئا غيرنا .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بهما جماعة كثيرة من القرأة ، وهما متفقتا المعنى ؛ وذلك أن من أخلصه الله لنفسه فاختاره ، فهو مخلص لله التوحيد والعبادة ، ومن أخلص توحيد الله وعبادته فلم يشرك بالله شيئا ، فهو ممن أخلصه الله ، فبأيتهما قرأ القارىء ، فهو للصواب مصيب .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

{ ولقد همّت به وهمّ بها } وقصدت مخالطته وقصد مخالطتها ، والهم بالشيء قصده والعزم عليه ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بالشيء أمضاه ، والمراد بهمه عليه الصلاة والسلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري ، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم ، أو مشارفة الهم كقولك قتلته لو لم أخف الله . { لولا أن رأى برهان ربه } في قبح الزنا وسوء مغبته لخالطها لشبق الغلمة وكثرة المغالبة ، ولا يجوز أن يجعل { وهم بها } جواب { لولا } فإنها في حكم أدوات الشرط فلا يتقدم عليها جوابها ، بل الجواب محذوف يدل عليه . وقيل رأى جبريل عليه الصلاة والسلام . وقيل تمثل له يعقوب عاضا على أنامله . وقيل قطفير . وقيل نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء . { كذلك } أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه ، أو الأمر مثل ذلك . { لنصرف عنه السّوء } خيانة السيد . { والفحشاء } الزنا . { إنه من عبادنا المخلصين } اللذين أخلصهم الله لطاعته . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالكسر في كل القرآن إذا كان في أوله الألف واللام أي الذين أخلصوا دينهم لله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

وقوله : { ولقد همت به } الآية ، لا شك أن «هم » زليخا كان في أن يواقعها يوسف ، واختلف في «هم » يوسف عليه السلام ، فقال الطبري : قالت فرقة : كان مثل «همها » ، واختلفوا كيف يقع من مثل يوسف وهو نبي ؟ فقيل ذلك ليريه الله تعالى موقع العفو والكفاية ، وقيل الحكمة في ذلك أن يكون مثالاً للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع بهم إلى عفو الله كما رجعت بمن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب ، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخا وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو هذا ، وهي قد استلقت له ؛ قاله ابن عباس وجماعة من السلف .

وقالت فرقة في «همه » إنما كان بخطرات القلب التي لا يقدر البشر عن التحفظ منها ، ونزع عند ذلك ولم يتجاوزه ، فلا يبعد هذا على مثله عليه السلام ، وفي الحديث :

«إن من هم بسيئة ولم يعملها فله عشر حسنات »{[6632]} وفي حديث آخر «حسنة » ، فقد يدخل يوسف في هذا الصنف .

وقالت فرقة : كان «هم » يوسف بضربها ونحو ذلك .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف البتة ، والذي أقول في هذه الآية : إن كون يوسف نبياً في وقت هذه النازلة لم يصح ولا تظاهرت به رواية ، وإذا كان ذلك فهو مؤمن قد أوتي حكماً وعلماً ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته ، وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة ؛ وإن فرضناه نبياً في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو الخاطر ، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكة ونحو ذلك ، لأن العصمة مع النبوة ، وما روي من أنه قيل له : تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء ، فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد ، والهم بالشيء مرتبتان : فالواحدة الأولى تجوز عليه مع النبوة ، والثانية الكبرى لا تقع إلا من غير نبي ، لأن استصحاب خاطر المعصية والتلذذ به معصية تكتب ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفوسها مالم تنطق به أو تعمل »{[6633]} معناه من الخواطر ، وأما استصحاب الخاطر فمحال أن يكون مباحاً ، فإن وقع فهو خطيئة من الخطايا لكنه ليس كمواقعة المعصية التي فيها الخاطر ، ومما يؤيد أن استصحاب الخاطر معصية قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إنه كان حريصاً على قتل صاحبه »{[6634]} .

وقول الله تعالى : { إن بعض الظن إثم }{[6635]} وهذا منتزع من غير موضع من الشرع ، والإجماع منعقد أن الهم بالمعصية واستصحاب التلذذ بها غير جائز ولا داخل في التجاوز .

واختلف في «البرهان » الذي رأى يوسف ، وقيل : نودي . واختلف فيما نودي به ، فقيل ناداه جبريل : يا يوسف ، تكون في ديوان الأنبياء . وتفعل فعل السفهاء ؟ وقيل : نودي : يا يوسف ، لا تواقع المعصية فتكون كالطائر الذي عصى فتساقط ريشه فبقي ملقى - ناداه بذلك يعقوب - ، وقيل غير هذا مما في معناه ، وقيل : كان «البرهان » كتاباً رآه مكتوباً ، فقيل : في جدار المجلس الذي كان فيه ، وقيل : بين عيني زليخا ، وقيل : في كف من الأرض خرجت دون جسد ؛ واختلف في المكتوب ، فقيل : قوله تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت }{[6636]} ، وقيل : قوله تعالى : { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً }{[6637]} وقيل غير هذا . وقيل : كان البرهان أن رأى يعقوب عليه السلام ممثلاً معه في البيت عاضاً على إبهامه وقيل : على شفته . وقيل بل انفرج السقف فرآه كذلك . وقيل : إن جبريل قال له : لئن واقعت المعصية لأمحونك من ديوان النبوة ، وقيل : إن جبريل ركضه فخرجت شهوته على أنامله .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقيل : بل كان «البرهان » فكرته في عذاب الله ووعيده على المعصية ، وقيل : بل كان البرهان الذي اتعظ به أن زليخا قالت له : مكانك حتى أستر هذا الصنم - لصنم كان معها في البيت - فإني أستحيي منه أن يراني على هذه الحال ؛ وقامت إليه فسترته بثوب فاتعظ يوسف وقال : من يسترني أنا من الله القائم على كل شيء ، وإذا كنت أنت تفعلين هذا لما لا يعقل فإن أولى أن أستحيي من الله .

و «البرهان » في كلام العرب الشيء الذي يعطي القطع واليقين ، كان مما يعلم ضرورة أم بخبر قطعي أو بقياس نظري ، فهذه التي رويت فيما رآه يوسف براهين .

و { أن } في قوله : { لولا أن رأى } في موضع رفع ، التقدير : لولا رؤيته برهان ربه ، وهذه { لولا } التي يحذف معها الخبر ، تقديره : لفعل أو لارتكب المعصية . وذهب قوم إلى أن الكلام تم في قوله : { ولقد همت به } وأن جواب { لولا } في قوله : { وهم بها } وأن المعنى : لولا أن رأى البرهان لهمَّ أي فلم يهم عليه السلام ، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف{[6638]} . قال الزجّاج : ولو كان الكلام : ولهمَّ بها لولا ، لكان بعيداً ، فكيف مع سقوط اللام{[6639]} ! .

والكاف من قوله : { كذلك } متعلقة بمضمر تقديره : جرت أفعالنا وأقدارنا { كذلك لنصرف }{[6640]} ، ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير : عصمتنا له كذلك لنصرف .

وقرأ الجمهور «لنصرف » بالنون ، وقرأ الأعمش «ليصرف » بالياء - على الحكاية عن الغائب{[6641]} - ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء «المخلِصين » بكسر اللام في كل القرآن ، وكذلك { مخلصاً } في سورة مريم{[6642]} . وقرأ نافع { مخلصاً } [ الزمر : 2-11-14 ، مريم : 51 ] كذلك بكسر اللام ، وقرأ سائر القرآن «المخلَصين » بفتح اللام ، وقرأ حمزة والكسائي وجمهور من القراء «المخلَصين » بفتح اللام و «مخلصاً » كذلك في كل القرآن .


[6632]:الحديث رواه البخاري في الرقاق، ومسلم في مواضع كثيرة، والترمذي في تفسير سورة الأعراف، والدارمي في الرقاق، والإمام أحمد في أكثر من موضع من مسنده، ولفظه كما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: (قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة).
[6633]:الحديث رواه البخاري ، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه الطبراني في الكبير عن عمران بن حصين، ورمز له الإمام السيوطي في الجامع الصغير بأنه صحيح.
[6634]:أخرجه الشيخان في الصحيحين، والإمام أحمد في مسنده، وأبو داود والنسائي عن أبي بكرة، وأخرجه ابن ماجه عن أبي موسى، ونص الحديث كاملا: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه).
[6635]:من الآية (12) من سورة (الحجرات).
[6636]:من الآية (33) من سورة (الرعد).
[6637]:الآية (32) من سورة (الإسراء).
[6638]:قال أبو حيان في "البحر المحيط": "ليس كما ذكر، وهو موجود في لسان العرب، قال تعالى: {إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين} فقوله: {إن كادت لتبدي به} إما أن يتخرج على أنه الجواب، وإما أن يتخرج على ما نذهب إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير: لولا أن رطبنا على قلبها لكادت تبدي به. وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك لأنها أقوال متكاذبة، يناقض بعضها بعضا، مع كونها قادحة وبخاصة في المقطوع لهم بالعصمة، والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب لأنهم قدروا جواب "لولا" محذوفا ولا يدل عليه دليل لأنهم لم يقدروا لهم بها، ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط لأن ما قبل الشرط دليل، ولا يحذف شيء بدون دليل".
[6639]:رد عليه أبو حيان أيضا في البحر بأنه كلام لا يصح الالتفات إليه، لأنه يوهم أن قول الله تعالى: {وهم بها} هو جواب "لولا"، ونحن لم نقل بذلك، وإنما هو دليل الجواب. وعلى تقدير أن يكون هو نفس الجواب فاللام ليست بلازمة، لأن جواب "لولا" يجوز أن يأتي – إذا كان بصيغة الماضي – باللام وبغير اللام، تقول: لولا زيد لأكرمتك، ولولا زيد أكرمتك، فمن ذهب إلى أن قوله تعالى: {وهم بها} هو نفس الجواب لم يبعد. ثم قال: "والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله، ولا نقول: إن جواب العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري، وأبو عباس المبرد، بل نقول: إن جواب "لولا" محذوف لدلالة ما قبله عليه كما يقول جمهور البصريين في قول العرب: "أنت ظالم إن فعلت" فإنهم يقدرونه: إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قوله: "أنت ظالم" على ثبوت الظلم، بل هو مثبت على تقدير وجوب الفعل، وكذلك التقدير هنا: "لولا أن رأى برهان ربه لهم بها"، فكان موجد الهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى لهم".
[6640]:يرى الحوفي أن الكاف للتشبيه في موضع نصب، أي: أريناه البرهان كذلك، وقال أبو البقاء: الكاف في موضع رفع، والتقدير: الأمر كذلك، وقال أبو حيان: التقدير: مثل تلك الرؤية نرى براهيننا لنصرف، فالإشارة إلى الرؤية، والناصب للكاف ما دل عليه قوله: {لولا أن رأى برهان ربه}، و [لنصرف] متعلق بذلك الفعل الناصب للكاف.
[6641]:وهو عائد على الله تعالى.
[6642]:في قوله تعالى في الآية (51): {واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا}.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

الهم : العزم على الفعل . وتقدم عند قوله تعالى : { وهمّوا بما لم ينالوا } في سورة براءة ( 74 ) . وأكد همّها ب { قد } ولام القسم ليفيد أنها عزمت عزماً محققاً .

وجملة { ولقد همت به } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً . والمقصود : أنها كانت جادة فيما راودته لا مختبرة . والمقصود من ذكر هَمّها به التمهيد إلى ذكر انتفاء همه بها لبيان الفرق بين حاليهما في الدين فإنه معصوم .

وجملة { وهَمّ بها لولا أن رأى برهان ربه } معطوفة على جملة { ولقد همت به } كلها . وليست معطوفة على جملة { همت } التي هي جواب القسم المدلول عليه باللام ، لأنه لما أردفت جملة { وهمّ بها } بجملة شرط { لولا } المتمحض لكونه من أحوال يوسف عليه السّلام وحْده لا من أحوال امرأة العزيز تعين أنه لا علاقة بين الجملتين ، فتعين أن الثانية مستقلة لاختصاص شرطها بحال المسند إليه فيها .

فالتقدير : ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمّ بها ، فقدم الجواب على شرطه للاهتمام به . ولم يقرن الجواب باللاّم التي يكثر اقتران جواب { لولا } بها لأنه ليس لازماً ولأنه لمّا قُدم على { لولا } كُره قرنه باللام قبل ذكر حرف الشرط ، فيحسن الوقف على قوله : { ولقد همت به } ليظهر معنى الابتداء بجملة { وهَمّ بها } واضحاً . وبذلك يظهر أن يوسف عليه السّلام لم يخالطه همّ بامرأة العزيز لأن الله عصمه من الهمّ بالمعصية بما أراه من البرهان .

قال أبو حاتم : كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله : { ولقد همّت به وهمّ بها } الآية قال أبو عبيدة : هذا على التقديم والتأخير ، أي تقديم الجواب وتأخير الشرط ، كأنه قال : ولقد همّت به ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمّ بها .

وطعن في هذا التأويل الطبري بأن جواب { لولا } لا يتقدم عليها . ويدفع هذا الطعن أن أبا عبيدة لما قال ذلك علمنا أنه لا يرى منع تقديم جواب { لولا } ، على أنه قد يجعل المذكور قبل { لولا } دليلاً للجواب والجواب محذوفاً لدلالة ما قبل { لولا } عليه . ولا مفرّ من ذلك على كل تقدير فإن { لولا } وشرطها تقييد لقوله : { وهمّ بها } على جميع التأويلات ، فما يقدّر من الجواب يقدّر على جميع التأويلات .

وقال جماعة : هَمّ يوسف بأن يجيبها لما دعته إليه ثم ارعوى وانكفّ على ذلك لما رأى برهان ربه . قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن أبي مليكة ، وثعْلب . وبيان هذا أنه انصرف عمّا همّ به بحفظ الله أو بعصمته ، والهمّ بالسيئة مع الكف عن إيقاعها ليس بكبيرة فلا ينافي عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوءة على قول من رأى عصمتهم منها قبل النبوءة ، وهو قول الجمهور ، وفيه خلاف ، ولذلك جوز ابن عباس ذلك على يوسف . وقال جماعة : هَمّ يوسف وأخذ في التهيّؤ لذلك فرأى برهاناً صرفه عن ذلك فأقلع عن ذلك . وهذا قول السديّ ، ورواية عن ابن عباس . وهو يرجع إلى ما بيناه في القول الذي قبله .

وقد خبط صاحب « الكشاف » في إلصاق هذه الروايات بمن يسميهم الحشوية والمجْبرة ، وهو يعني الأشاعرة ، وغض بصره عن أسماء من عزيت إليهم هذه التّأويلات ( رمتني بدائها وانسلت ) ولم يتعجب من إجماع الجميع على محاولة إخوة يوسف عليه السّلام قتلَه والقتلُ أشد .

والرؤية : هنا عِلمية لأن البرهان من المعاني التي لا ترى بالبصر .

والبرهان : الحجة . وهذا البرهان من جملته صرفهُ عن الهمّ بها ، ولولا ذلك لكان حال البشرية لا يسلم من الهمّ بمطاوعتها في تلك الحالة لتوفّر دواعي الهمّ من حسنها ، ورغبتها فيه ، واغتباط أمثاله بطاعتها ، والقرب منها ، ودواعي الشباب المسولة لذلك ، فكان برهان الله هو الحائل بينه وبين الهمّ بها دون شيء آخر .

واختلف المفسرون في ما هو هذا البرهان ، فمنهم من يشير إلى أنه حجة نظرية قبّحت له هذا الفعل ، وقيل : هو وحي إلهي ، وقيل : حفظ إلهي ، وقيل : مشاهدات تمثلت له .

والإشارة في قوله : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } إلى شيء مفهوم مما قبله بتضمنه قوله : { رأى برهان ربّه } ، وهو رأي البرهان ، أي أريناه كذلك الرأي لنصرف عنه السوء .

والصرف : نقل الشيء من مكان إلى مكان ، وهو هنا مجاز عن الحفظ من حلول الشيء بالمحل الذي من شأنه أن يحل فيه . عبر به عن العصمة من شيء يوشك أن يلابس شيئاً . والتعبير عن العصمة بالصرف يشير إلى أن أسباب حصول السوء والفحشاء موجودة ولكن الله صرفهما عنه .

والسوء : القبيح ، وهو خيانة من ائتمنه . والفحشاء : المعصية ، وهي الزنى . وتقدم السوء والفحشاء عند قوله تعالى : { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء } في سورة البقرة ( 169 ) . ومعنى صرفهما عنه صرف ملابسته إياهما .

وجملة { إنه من عبادنا المخلصين } تعليل لحكمة صرفه عن السوء والفحشاء الصرف الخارق للعادة لئلا ينتقص اصطفاء الله إياه في هذه الشدة على النفس .

قرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف { المخلَصين } بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم . وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب بكسر اللام على معنى المخلصين دينهم لله . ومعنى التعليل على القراءتين واحد .