قوله عز وجل : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين } يا محمد ، { إلا أنهم ليأكلون الطعام } روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، أنزل الله عز وجل هذه الآية . يعني : ما أنا إلا رسول وما كنت بدعاً من الرسل ، وهم كانوا بشراً يأكلون الطعام ، { ويمشون في الأسواق } . وقيل : معناه وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل لهم مثل هذا أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما قال في موضع آخر : ( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ) { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } أي بلية ، فالغني فتنة للفقير ، يقول الفقير : ما لي لم أكن مثله والصحيح فتنة للمريض ، والشريف فتنة للوضيع . وقال ابن عباس : أي جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى . وقيل : نزلت في ابتلاء الشريف بالوضيع ، وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم فرأى الوضيع قد أسلم قبله أنف ، وقال : أسلم بعده فيكون له علي السابقة والفضل ، فيقيم على كفره ويمتنع من الإسلام ، فذلك افتتان بعضهم ببعض ، وهذا قول الكلبي . وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، والوليد بن عقبة ، والعاص بن وائل ، والنضر بن الحارث ، وذلك أنهم لما رأوا أبا ذر ، وابن مسعود ، وعماراً ، وبلالاً ، وصهيباً ، وعامر بن فهيرة ، وذويهم ، قالوا : نسلم فنكون مثل هؤلاء ، وقال مقاتل : نزلت في ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش ، كانوا يقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمداً من موالينا وأراذلنا ، فقال الله تعالى لهؤلاء المؤمنين : { أتصبرون } يعني على هذه الحالة من الفقر والشدة والأذى . { وكان ربك بصيراً } بمن صبر وبمن جزع .
أخبرأنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن الحسن ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، حدثنا زكريا بن يحيى المروزي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والجسم فلينظر إلى من دونه في المال والجسم " .
ثم قال تعالى جوابا لقول المكذبين : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الْأَسْوَاقِ } فما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما جعلناهم ملائكة ، فلك فيهم أسوة ، وأما الغنى والفقر فهو فتنة وحكمة من الله تعالى كما قال : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } الرسول فتنة للمرسل إليهم واختبار للمطيعين من العاصين{[576]} والرسل فتناهم بدعوة الخلق ، والغنى فتنة للفقير والفقير فتنة للغني ، وهكذا سائر أصناف الخلق في هذه الدار دار الفتن والابتلاء والاختبار .
والقصد من تلك الفتنة { أَتَصْبِرُونَ } فتقومون بما هو وظيفتكم اللازمة الراتبة فيثيبكم مولاكم{[577]} أم لا تصبرون فتستحقون المعاقبة ؟
{ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } يعلم أحوالكم ، ويصطفي من يعلمه يصلح لرسالته ويختصه بتفضيله ويعلم أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
ثم تعود السورة مرة أخرى إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الرد على شبهات أعدائه فتقول : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ . . . } .
أى : وما أرسلنا قبلك - أيها الرسول الكريم - أحدا من رسلنا ، إلا وحالهم وشأنهم أنهم يأكلون الطعام الذى يأكله غيرهم من البشر . ويمشون فى الأسواق كما يمشى غيرهم من الناس ، طلبا للرزق .
وإذاً فقول المشركين فى شأنك " مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق " قول يدل على جهالاتهم وسوء نياتهم فلا تتأثر به ، ولا تلتفت إليه ، فأنت على الحق وهم على الباطل .
وقوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } بيان لسنة من سنن الله - تعالى - فى خلقه ، اقتضتها حكمته ومشيئته .
أى : اختبرنا بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم ببعض ، ليظهر قوى الإيمان من ضعيفه ، إذ أن قوى الإيمان لتصديقه بقضاء الله وقدره يثبت على الحق ويلتزم بما أمره الله - تعالى - به ، أما ضعيف الإيمان فإنه يحسد غيره على ما آتاه الله - تعالى - من فضله . كما حسد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم على منصب النبوة الذى أعطاه الله - تعالى - إياه { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } قال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } أى : إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فأراد - سبحانه - أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم فى جميع الناس ، فالصحيح : فتنى للمريض . والغنى : فتنة للفقير . . ومعنى هذا ، أن كل واحد مختبر بصاحبه ، فالغنى ممتحن بالفقير ، فعليه أن يواسيه ولا يسخر منه ، والفقير ممتحن بالغنى ، فعليه أن لا يحسده . ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق . . والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار فى عصره . . . فالفتنة : أن يحسد المبتلَى المعافَى . والصبر : أن يحبس كلاهما نفسه ، هذا عن البطر وذاك عن الضجر .
والاستفهام فى قوله - تعالى - : { أَتَصْبِرُونَ } للتقرير أى : أتصبرون على هذا الابتلاء والاختبار فتنالوا من الله - تعالى - الأجر ، أم لا تصبرون فيزداد همكم وغمكم ؟
ويصح أن يكون الاستفهام بمعنى الأمر . أى : اصبروا على هذا الابتلاء كما فى قوله - تعالى - : { . . . وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ . . . } أى : أسلموا . . . وكما فى قوله - سبحانه - : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } أى : انتهوا عن الخمر والميسر .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أى : وكان ربك أيها - الرسول الكريم - بصيرا بأحوال النفوس الطاهرة والخفية ، وبتقلبات القلوب وخلجاتها . فاصبر على أذى قومك ، فإن العاقبة لك ولأتباعك المؤمنين .
فهذا التذييل فيه ما فيه من التسلية والتثبيت لفؤاد النبى صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيراً } .
وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا : ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ وجواب لهم عنه ، يقول لهم جلّ ثناؤه : وما أنكر يا محمد هؤلاء القائلون ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، من أكلك الطعام ومشيك في الأسواق ، وأنت لله رسول فقد علموا أنا ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كالذي تأكل أنت وتمشي ، فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة .
فإن قال قائل : فإن «مَنْ » ليست في التلاوة ، فكيف قلت معنى الكلام : إلاّ مَنْ إِنهم ليأكلون الطعام ؟ قيل : قلنا في ذلك معناه : أن الهاء والميم في قوله : «إنهم » ، كناية أسماء لم تُذكر ، ولا بدّ لها من أن تعود على من كُنِي عنه بها ، وإنما ترك ذكر «مَنْ » وإظهاره في الكلام اكتفاء بدلالة قوله : مِنَ المُرْسَلِينَ عليه ، كما اكتفي في قوله : وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ من إظهار «مَنْ » ، ولا شكّ أن معنى ذلك : وما منا إلاّ من له مقام معلوم ، كما قيل : وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها ومعناه : وإن منكم إلاّ من هو واردها فقوله : إنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعامَ صلة ل «مَنِ » المتروك ، كما يقال في الكلام : ما أرسلت إليك من الناس إلاّ مَنْ إنه ليبلغك الرسالة ، فإنه «ليبلغك الرسالة » صلة ل «مَنْ » .
وقوله : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً يقول تعالى ذكره : وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض ، جعلنا هذا نبيّا وخصصناه بالرسالة ، وهذا ملِكا وخصصناه بالدنيا ، وهذا فقيرا وحرمناه الدنيا ، لنختبر الفقير بصبره على ما حُرِم مما أعطيه الغنيّ ، والملك بصبره على ما أعطيه الرسول من الكرامة ، وكيف رضي كل إنسان منهم بما أعطى وقُسِم له ، وطاعته ربه مع ما حرِم مما أعطى غيره . يقول : فمن أجل ذلك لم أعط محمدا الدنيا ، وجعلته يطلب المعاش في الأسواق ، ولأبتليكم أيها الناس ، وأختبر طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلى ما دعاكم إليه ، بغير عَرَض من الدنيا ترجونه من محمد أن يعطيكم على اتباعكم إياه لأني لو أعطيته الدنيا ، لسارع كثير منكم إلى اتباعه طمعا في دنياه أن ينال منها .
وبنحو الذي قلنا تأويل في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : ثني عبد القدوس ، عن الحسن ، في قوله : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً . . . الاَية ، يقول هذا الأعمى : لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان ، ويقول هذا الفقير : لو شاء الله لجعلني غنيّا مثل فلان ، ويقول هذا السقيم : لو شاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبرُونَ قال : يُمْسك عن هذا ويُوَسّع على هذا ، فيقول : لم يعطني مثل ما أعطى فلانا ، ويُبْتَلَى بالوجع كذلك ، فيقول : لم يجعلني ربي صحيحا مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء ، ليعلم من يصبر ممن يجزع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، فيما يروي الطبري ، عن عكرِمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : وأنزل عليه في ذلك من قولهم : ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ . . . الاَية : وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعامَ ويَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ أي جعلت بعضكم لبعض بلاء ، لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت ، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم .
وقوله : وكانَ رَبّكَ بَصِيرا يقول : وربك يا محمد بصير بمن يجزع ومن يصبر على ما امتُحِن به من المحن . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : وكانَ رَبّكَ بَصِيرا إن ربك لبصير بمن يجزع ومن يصبر .
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الاسواق } .
هذا رد على قولهم : { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } [ الفرقان : 7 ] بعد أن رد عليهم قولهم { أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها } [ الفرقان : 8 ] بقوله : { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك } [ الفرقان : 10 ] ، ولكن لما كان قولهم : { أو يلقى إليه كنز } حالة لم تعط للرسل في الحياة الدنيا كان رد قولهم فيها بأن الله أعطاه خيراً من ذلك في الآخرة .
وأما قولهم : { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } فقد توسلوا به إلى إبطال رسالته بثبوت صفات البشر له ، فكان الرد عليهم بأن جميع الرسل كانوا متصفين بصفات البشر ، ولم يكن المشركون منكرين وجود رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم فقد قالوا : { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } [ الأنبياء : 5 ] ، وإذ كانوا موجودين فبالضرورة كانوا يأكلون الطعام إذ هم من البشر ويمشون في أسواق المدن والبادية لأن الدعوة تكون في مجامع الناس . وقد قال موسى { موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى } [ طه : 59 ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو قريشاً في مجامعهم ونواديهم ويدعو سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم .
وجملة : { ليأكلون الطعام } في موضع الحال لأن المستثنى منه عموم الأحوال . والتقدير : وما أرسلنا قبلك من المرسلين في حاللٍ إلا في حال { إنهم ليأكلون الطعام } . والتوكيد ب ( إن ) واللام لتحقيق وقوع الحال تنزيلاً للمشركين في تناسيهم أحوال الرسل منزلة من ينكر أن يكون الرسل السابقون يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق . ولم تقترن جملة الحال بالواو لأن وجود أداة الاستثناء كاف في الربط ولا سيما وقد تأكد الربط بحرف التوكيد فلا يزاد حرف آخر فيتوالى أربعة حروف وهي : إلاّ ، وإنّ ، واللام ، ويزاد الواو بخلاف قوله تعالى : { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } [ الحجر : 4 ] ، وقوله : { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون } [ الشعراء : 208 ] .
وإنما أبقى الله الرسل على الحالة المعتادة للبشر فيما يرجع إلى أسباب الحياة المادية إذ لا حكمة في تغيير حالهم عن ذلك وإنما يغير الله حياتهم النفسية لأن في تغييرها إعداد نفوسهم لتلقي الفيوضات الإلهية .
ولله تعالى حفاظ على نواميس نظام الخلائق والعوالم لأنه ما خلقها عبثاً فهو لا يغيرها إلا بمقدار ما تتعلق به إرادته من تأييد الرسل بالمعجزات ونحو ذلك .
{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } .
تذييل ، فضمير الخطاب في قوله : { بعضكم } يعم جميع الناس بقرينة السياق . وكلا البعضين مبهم يبينه المقام . وحال الفتنة في كلا البعضين مختلف ، فبعضها فتنة في العقيدة ، وبعضها فتنة في الأمن ، وبعضها فتنة في الأبدان .
والإخبار عنه ب { فتنة } مجازي لأنه سبب الفتنة ، وشمل أحد البعضين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه ، والبعض الآخر المشركين ؛ فكان حال الرسول فتنة للمشركين إذ زعموا أن حاله مناف للرسالة فلم يؤمنوا به وكان حال المؤمنين في ضعفهم فتنة للمشركين إذ ترفعوا عن الإيمان الذي يسويهم بهم ، فقد كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل وأضرابهم يقولون : إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار بن ياسر وصهيب وبلال ترفعوا علينا إدلالاً بالسابقة .
وهذا كقول صناديد قوم نوح لا نؤمن حتى تطرد الذين آمنوا بك فقال : { وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون } [ هود : 29 ، 30 ] .
وقال تعالى للنبيء صلى الله عليه وسلم { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بَيْنِنا أليس الله بأعلمَ بالشاكرين } [ الأنعام : 52 ، 53 ] .
والكلام تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم عن إعراض بعض قومه عن الإسلام ، ولذلك عقب بقوله : { أتصبرون } ، وهو استفهام مستعمل في الحث والأمر كقوله : { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] .
وموقع { وكان ربك بصيراً } موقع الحث على الصبر المأمور به ، أي هو عليم بالصابرين ، وإيذان بأن الله لا يضيع جزاء الرسول على ما يلاقيه من قومه وأنه ناصره عليهم .
وفي الإسناد إلى وصف الرب مضافاً إلى ضمير النبي إلماع إلى هذا الوعد فإن الرب لا يضيع أولياءه كقوله : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 97 99 ] أي النصر المحقق .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا:"ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ" وجواب لهم عنه، يقول لهم جلّ ثناؤه: وما أنكر يا محمد هؤلاء القائلون ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، من أكلك الطعام ومشيك في الأسواق، وأنت لله رسول فقد علموا أنا ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كالذي تأكل أنت وتمشي، فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة.
فإن قال قائل: فإن «مَنْ» ليست في التلاوة، فكيف قلت معنى الكلام: إلاّ مَنْ إِنهم ليأكلون الطعام؟ قيل: قلنا في ذلك معناه: أن الهاء والميم في قوله: «إنهم»، كناية أسماء لم تُذكر، ولا بدّ لها من أن تعود على من كُنِي عنه بها، وإنما ترك ذكر «مَنْ» وإظهاره في الكلام اكتفاء بدلالة قوله: مِنَ المُرْسَلِينَ عليه، كما اكتفي في قوله: "وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ "من إظهار «مَنْ»، ولا شكّ أن معنى ذلك: وما منا إلاّ من له مقام معلوم، كما قيل: "وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها" ومعناه: وإن منكم إلاّ من هو واردها فقوله: "إنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعامَ" صلة ل «مَنِ» المتروك، كما يقال في الكلام: ما أرسلت إليك من الناس إلاّ مَنْ إنه ليبلغك الرسالة، فإنه «ليبلغك الرسالة» صلة ل «مَنْ».
وقوله: "وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً" يقول تعالى ذكره: وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض، جعلنا هذا نبيّا وخصصناه بالرسالة، وهذا ملِكا وخصصناه بالدنيا، وهذا فقيرا وحرمناه الدنيا، لنختبر الفقير بصبره على ما حُرِم مما أعطيه الغنيّ، والملك بصبره على ما أعطيه الرسول من الكرامة، وكيف رضي كل إنسان منهم بما أعطى وقُسِم له، وطاعته ربه مع ما حرِم مما أعطى غيره. يقول: فمن أجل ذلك لم أعط محمدا الدنيا، وجعلته يطلب المعاش في الأسواق، ولأبتليكم أيها الناس، وأختبر طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلى ما دعاكم إليه، بغير عَرَض من الدنيا ترجونه من محمد أن يعطيكم على اتباعكم إياه لأني لو أعطيته الدنيا، لسارع كثير منكم إلى اتباعه طمعا في دنياه أن ينال منها...
عن ابن عباس، قال: وأنزل عليه في ذلك من قولهم: "ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ..." "وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعامَ ويَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ" أي جعلت بعضكم لبعض بلاء، لتصبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم.
وقوله: "وكانَ رَبّكَ بَصِيرا" يقول: وربك يا محمد بصير بمن يجزع ومن يصبر على ما امتُحِن به من المحن...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
إنّي جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا الهدى بغير أن أُعطيهم عليه الدنيا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رُسلي فلا يخالفون لفعلت، ولكن قدّرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أخبر أن الذين تَقْدَّموه من الرسل كانوا بَشَراً، ولم تكن الخصوصية لهم إلا ظهورَ المعجزات عليهم. وفي الجملة الفضائل بالمعاني لا بالصورة، ثم قال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً}. فَضَّلَ بعضاً على بعض، وأمر المفضولَ بالصبر والرضاء، والفاضلَ بالشكر على العطاء وخصَّ قوماً بالبلاء وجعلهم فتنة لأهل البلاء، وخصَّ قوماً بالعوافي، وآخرين بالأسقام والآلام، فلا لِمَن نَعَّمَه مناقب، ولا لِمَنْ امتحنه معايب... فبحُكمِه لا يِجُرْمهم، وبفضله لا بفعلهم، وبإرادته لا بعبادتهم، وباختياره لا بأوضارهم، وبأقذاره لا بأوزارهم، وبه لا بهم. قوله: {أَتَصْبِرُونَ؟} استفهام في معنى الأمر، فَمَنْ ساعَدَه التوفيقُ صبر وشكر ومن قارنه الخذلان أبي وكفر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلاّ آكلين وماشين... {فِتْنَةً} أي محنة وابتلاء. وهذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه، من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد ما احتج عليهم بسائر الرسل..
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" وما أرسلنا قبلك من المرسلين "نزلت جوابا للمشركين حيث قالوا:"مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق "[الفرقان: 7].
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى مخبرا عن جميع مَنْ بعثه من الرسل المتقدمين: إنهم كانوا يأكلون الطعام، ويحتاجون إلى التغذي به {وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ} أي: للتكسب والتجارة، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم؛ فإن الله جعل لهم من السمات الحسنة، والصفات الجميلة، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، والأدلة القاهرة، ما يستدل به كل ذي لب سليم، وبصيرة مستقيمة، على صدق ما جاءوا به من الله عز وجل.
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
وما أرسلنا قبلك رجالا من المرسلين إلا حالة أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق: أي ما أرسلناهم في حالة من الأحوال إلا في هذه الحال. و إن واللام والحصر بما و إلا، كل هذه لتأكيد المعنى الذي سيق إليه الكلام، و هو إثبات أن رسول البشر لا يكون إلا بشرا ردا على منكري ذلك المشركين. وعبر بالمضارع في يأكلون ويمشون؛ لأنهما من ضروريات بشريتهم، فهو يتجدد ويتكرر منهم. وأكل الطعام والمشي في الأسواق كناية عن البشرية، لأنهما وصفان لازمان لها...وعلمنا أن الرسول لا يكون إلا من جنس المرسل إليهم، ليحصل الاتصال، و يمكن التلقي. وأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لأرسل لهم ملك، و أنهم لو أنزل عليهم بشر لكسى حلة البشرية و لا لتلبس عليهم أمره، و لقالوا فيه مثل ما قالوا في المرسلين من البشر...وعلمنا أن البشر يؤهل للرسالة باصطفاء الله له، و من مقتضى ذلك الاصطفاء تطهيره من أول نشأته من أوضار البشرية، وظلم الجسمانية وتسفلها فتبقى روحه على غاية الطهر، والعلوية النورانية مستعدة للاتصال بالملأ الأعلى، حتى تستكمل قواها فيأتيها الملك بالوحي...وعلمنا: أن الرسل و إن كانوا موافقين لنا الخلقة البشرية.. فإنهم مباينون لنا غاية المباينة في الخلقة النفسية، من حيث الطهر والكمال..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا رد على قولهم: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق}...
فقد توسلوا به إلى إبطال رسالته بثبوت صفات البشر له، فكان الرد عليهم بأن جميع الرسل كانوا متصفين بصفات البشر، ولم يكن المشركون منكرين وجود رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم... وإذ كانوا موجودين فبالضرورة كانوا يأكلون الطعام إذ هم من البشر ويمشون في أسواق المدن والبادية لأن الدعوة تكون في مجامع الناس...وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو قريشاً في مجامعهم ونواديهم ويدعو سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم...فضمير الخطاب في قوله: {بعضكم} يعم جميع الناس بقرينة السياق. وكلا البعضين مبهم يبينه المقام. وحال الفتنة في كلا البعضين مختلف، فبعضها فتنة في العقيدة، وبعضها فتنة في الأمن، وبعضها فتنة في الأبدان.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا بيان أن الرسل لا يكونون إلا من البشر، وذلك ليستطيعوا أن يرشدوهم ويوجهوهم، ويهديهم الله تعالى بهم...لا بد أن يعيشوا كما يعيش الضعفاء، فلا يكونون ملوكا أو من حواشي الملوك، وإذا كان بعض الأنبياء ذكر بالملك كداود وسليمان، فقد كانوا ملوكا في سلطانهم الحق، ولكن في عيشهم كانوا يعيشون كالضعفاء، فداود عليه السلام كان يأكل من عمل يده، ولعل ابنه سليمان لم يكن من الملوك الذين يستقلون في معيشتهم عن رعيتهم، ومن المؤكد أنه لم يكن ملكا مستعليا على رعيته، ولا يعيش عيش ضعفائهم...
{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} جعل الأقوياء فتنة للضعفاء بإيذائهم، والكافرين فتنة للرسل بعنادهم، والأغنياء فتنة للفقراء باستعلائهم، والضعفاء فتنة للأقوياء بسبقهم إلى الإيمان والحق، وتأخرهم، وهكذا كل من أعطى خيرا دنيويا أو أخرويا يكون فتنة لمن لم يكن مثله، وإن الواجب للمفتون هو الصبر، والواجب على أهل الحق من الأنبياء والصديقين أن يصبروا... {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} كان دالة على الدوام، وأن الناس تحت رقابة الله دائما، يعلم بحال الصابرين والتمكين منهم علم السميع الذي يسمع، والبصير الذي يبصر..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يرد هاهنا استفسار، وهو أن ردّ القرآن على المشركين في الآيات أعلاه قائم على أن جميع الأنبياء، كانوا من البشر. وهذا لا يحلّ المشكلة، بل يزيد من حدّتها، ذلك أن من الممكن أن يعمموا إشكالهم على جميع الأنبياء. و الجواب: أنّ الآيات القرآنية المختلفة تدلّ على أن إشكالهم على شخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانوا يعتقدون أنه اتخذ لنفسه وضعاً خاصاً به، ولهذا كانوا يقولون: ما لهذا الرّسول...وعلى فرض أنّهم سيعممون هذا الأشكال على جميع الأنبياء، فقد أعطى القرآن جوابهم أيضاً حيث يقول: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلا)... إشارة إلى أن الإنسان فقط يستطيع أن يكون مرشداً للإنسان، فهو الواقف على جميع حاجاته ورغباته ومشكلاته ومسائله.