فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمۡ لَيَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشُونَ فِي ٱلۡأَسۡوَاقِۗ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضٖ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرٗا} (20)

ثم يرجع سبحانه على خطاب رسوله موضحا لبطلان ما تقدم من قولهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فقال :

{ وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } قال الزجاج : الجملة الواقعة بعد إلا صفة لموصوف محذوف والمعنى ما أرسلنا قبلك أحدا منهم إلا آكلين وماشين فأنت مثلهم في ذلك وقد قيل لهم مثل ما قيل لك ، وقال الفراء : لا محل لها من الإعراب إنما هي صلة لموصول محذوف والتقدير إلا من أنهم كما في قوله { إلا واردها } أي إلا من يردها ، وبه قال الكسائي وقال الزجاج : هذا خطأ لأن من الموصولة لا يجوز حذفها ، وقال ابن الأنباري : التقدير إلا وإنهم ، وقرئ إنهم بكسر إن لوجود اللام في خبرها وهو مجمع عليه عند النحاة . وقال المبرد : يجوز فيه الفتح ، قال النحاس : وأحسبه وهما . وقرئ يمشون مخففا ومثقلا . قال قتادة : يقول إن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا بهذه المنزلة يأكلون ويمشون .

{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } هذا الخطاب عام للناس ، وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم أيضا ، فإنه أشرف الأشراف ، وقد ابتلى بأخس الأخساء ، وقد جعل سبحانه بعض عبيده فتنة لبعض ، فالصحيح فتنة للمريض ، والغني فتنة للفقير ، وقيل المراد بالبعض الأول كفار الأمم ، وبالبعض الثاني الرسل ، ومعنى الفتنة الابتلاء ، والمحنة . والأول أولى ، فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلي به فالمريض يقول لم لم أجعل كالصحيح ؟ وكذا صاحب كل آفة ، والصحيح مبتلى بالمريض ، فلا يضجر منه ولا يحقره ، والغني مبتلى بالفقير يواسيه ، والفقير مبتلى بالغنى يحسده ، ونحوه هذا مثله .

وقيل المراد بالآية أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم ، ورأى الوضيع قد أسلم قبله ، أنف وقال : لا أسلم بعده فيكون له على السابقة والفضل ، فيقيم على كفره . فذلك افتتان بعضهم ببعض ، واختار هذا الفراء والزجاج ولا وجه لقصر الآية على هذا فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وقال الحسن : في الآية يقول الفقير لو شاء الله جعلني غنيا مثل فلان ، ويقول السقيم : لو شاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان ويقول الأعمى : لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان .

وعن أبي الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بقول : ( ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم ، وويل للمالك من المملوك ، وويل للمملوك من المالك ، وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد ، وويل للسلطان من الرعية ، وويل للرعية من السلطان بعضكم لبعض فتنة ، وهو قوله تعالى { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } {[1315]} أسنده الثعلبي ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض فتنة للبعض :

{ أَتَصْبِرُونَ } هذا الاستفهام للتقرير والتقدير : أتصبرون على ما ترون من هذه الحالة الشديدة والابتلاء العظيم فتؤجروا أم لا تصبرون فيزداد غمكم ، وعليه جرى الأكثرون وقيل : معنى أتصبرون اصبروا مثل قوله { فهل أنتم منتهون } أي انتهوا ، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ) {[1316]} ثم وعد الله الصابرين بقوله :

{ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } أي بكل من يصبر ومن لا يصبر فيجازي كلا منهما بما يستحقه


[1315]:الأحاديث الضعيفة 6154- 6155، من حديثين حتى ويل للملوك من المالك
[1316]:مسلم 2963- البخاري 2434