ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله موضحاً لبطلان ما تقدّم من قوله : { يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } فقال : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق } قال الزجاج : الجملة الواقعة بعد «إلاّ » صفة لموصوف محذوف ، والمعنى : وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلاّ آكلين وماشين ، وإنما حذف الموصوف لأن في قوله : { مِنَ المرسلين } دليلاً عليه ، نظيره : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] أي وما منا أحد . وقال الفراء : لا محل لها من الإعراب ، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول ، والتقدير : إلاّ من أنهم ، فالضمير في أنهم وما بعده راجع إلى من المقدّرة ، ومثله قوله تعالى : { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] أي إلاّ من يردها ، وبه قرأ الكسائي ، قال الزجاج : هذا خطأ لأنّ من الموصولة لا يجوز حذفها . وقال ابن الأنباري : إنها في محل نصب على الحال ، والتقدير : إلاّ وأنهم ، فالمحذوف عنده الواو ، قرأ الجمهور : { إلا إنهم } بكسر إنّ لوجود اللام في خبرها كما تقرّر في علم النحو ، وهو مجمع عليه عندهم . قال النحاس : إلاّ أن عليّ بن سليمان الأخفش حكى لنا عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال : يجوز في إنّ هذه الفتح ، وإن كان بعدها اللام ، وأحسبه وهماً ، وقرأ الجمهور : { يمشون } بفتح الياء ، وسكون الميم ، وتخفيف الشين . وقرأ عليّ وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشدّدة ، وهي بمعنى القراءة الأولى ، قال الشاعر :
أمشي بأعطان المياه وأتقي *** قلائص منها صعبة وركوب
منه تظل سباع الحيّ ضامزة *** ولا تمشي بواديه الأراجيل
{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } هذا الخطاب عامّ للناس ، وقد جعل سبحانه بعض عبيده فتنة لبعض ، فالصحيح فتنة للمريض ، والغنيّ فتنة للفقير ، وقيل المراد بالبعض الأوّل : كفار الأمم ، وبالبعض الثاني : الرسل . ومعنى الفتنة الابتلاء والمحنة . والأوّل أولى ، فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلى به ؛ فالمريض يقول لم لم أجعل كالصحيح ؟ وكذا كل صاحب آفة ، والصحيح مبتلى بالمريض ، فلا يضجر منه ، ولا يحقره ، والغني مبتلى بالفقير يواسيه ، والفقير مبتلى بالغنيّ يحسده . ونحو هذا مثله ، وقيل المراد بالآية : أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم ، ورأى الوضيع قد أسلم قبله أنف ، وقال لا أسلم بعده ، فيكون له علي السابقة والفضل ، فيقيم على كفره ، فذلك افتتان بعضهم لبعض ، واختار هذا الفراء والزجاج . ولا وجه لقصر الآية على هذا ، فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة : { أَتَصْبِرُونَ } هذا الاستفهام للتقرير ، وفي الكلام حذف تقديره ، أم لا تصبرون ؟ أي أتصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة ، والابتلاء العظيم . قيل : موقع هذه الجملة الاستفهامية ها هنا موقع قوله : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } في قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] ، ثم وعد الصابرين بقوله : { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أي بكل من يصبر ومن لا يصبر ، فيجازي كلاً منهما بما يستحقه . وقيل معنى { أتصبرون } : اصبروا مثل قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] أي : انتهوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.