فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمۡ لَيَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشُونَ فِي ٱلۡأَسۡوَاقِۗ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضٖ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرٗا} (20)

ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله موضحاً لبطلان ما تقدّم من قوله : { يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } فقال : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق } قال الزجاج : الجملة الواقعة بعد «إلاّ » صفة لموصوف محذوف ، والمعنى : وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلاّ آكلين وماشين ، وإنما حذف الموصوف لأن في قوله : { مِنَ المرسلين } دليلاً عليه ، نظيره : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] أي وما منا أحد . وقال الفراء : لا محل لها من الإعراب ، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول ، والتقدير : إلاّ من أنهم ، فالضمير في أنهم وما بعده راجع إلى من المقدّرة ، ومثله قوله تعالى : { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] أي إلاّ من يردها ، وبه قرأ الكسائي ، قال الزجاج : هذا خطأ لأنّ من الموصولة لا يجوز حذفها . وقال ابن الأنباري : إنها في محل نصب على الحال ، والتقدير : إلاّ وأنهم ، فالمحذوف عنده الواو ، قرأ الجمهور : { إلا إنهم } بكسر إنّ لوجود اللام في خبرها كما تقرّر في علم النحو ، وهو مجمع عليه عندهم . قال النحاس : إلاّ أن عليّ بن سليمان الأخفش حكى لنا عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال : يجوز في إنّ هذه الفتح ، وإن كان بعدها اللام ، وأحسبه وهماً ، وقرأ الجمهور : { يمشون } بفتح الياء ، وسكون الميم ، وتخفيف الشين . وقرأ عليّ وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشدّدة ، وهي بمعنى القراءة الأولى ، قال الشاعر :

أمشي بأعطان المياه وأتقي *** قلائص منها صعبة وركوب

وقال كعب بن زهير :

منه تظل سباع الحيّ ضامزة *** ولا تمشي بواديه الأراجيل

{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } هذا الخطاب عامّ للناس ، وقد جعل سبحانه بعض عبيده فتنة لبعض ، فالصحيح فتنة للمريض ، والغنيّ فتنة للفقير ، وقيل المراد بالبعض الأوّل : كفار الأمم ، وبالبعض الثاني : الرسل . ومعنى الفتنة الابتلاء والمحنة . والأوّل أولى ، فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلى به ؛ فالمريض يقول لم لم أجعل كالصحيح ؟ وكذا كل صاحب آفة ، والصحيح مبتلى بالمريض ، فلا يضجر منه ، ولا يحقره ، والغني مبتلى بالفقير يواسيه ، والفقير مبتلى بالغنيّ يحسده . ونحو هذا مثله ، وقيل المراد بالآية : أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم ، ورأى الوضيع قد أسلم قبله أنف ، وقال لا أسلم بعده ، فيكون له علي السابقة والفضل ، فيقيم على كفره ، فذلك افتتان بعضهم لبعض ، واختار هذا الفراء والزجاج . ولا وجه لقصر الآية على هذا ، فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة : { أَتَصْبِرُونَ } هذا الاستفهام للتقرير ، وفي الكلام حذف تقديره ، أم لا تصبرون ؟ أي أتصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة ، والابتلاء العظيم . قيل : موقع هذه الجملة الاستفهامية ها هنا موقع قوله : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } في قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] ، ثم وعد الصابرين بقوله : { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أي بكل من يصبر ومن لا يصبر ، فيجازي كلاً منهما بما يستحقه . وقيل معنى { أتصبرون } : اصبروا مثل قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] أي : انتهوا .

/خ24