الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمۡ لَيَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشُونَ فِي ٱلۡأَسۡوَاقِۗ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضٖ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرٗا} (20)

قوله : { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ } : في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ ، فقدِّره الزمخشريُّ تابعاً للزجَّاج : " وما أَرْسَلْنا قبلَك أحداً من المرسلين إلاَّ آكلين وماشِين " وإنما حُذِف لمكانِ الجارِّ بعدَه . وقَدَّره ابنُ عطية : " رجالاً أو رُسُلاً " . والضميرُ في " إنهم " وما بعدَه عائدٌ على هذا الموصوفِ المحذوفِ . والثاني : أنه لا محلَّ لها من الإِعرابِ ، وإنما هي صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ هو المفعولُ لأَرْسَلْنا ، تقديرُه : إلاَّ مَنْ إنهم ، فالضميرُ في " إنهم " وما بعدَه عائدٌ على معنى " مَنْ " المقدرةِ ، وإليه ذهب الفراء . وهو مردودٌ : بأنَّ حَذْفَ الموصولِ لا يجوزُ إلاَّ في مواضعَ تَقَدَّم التنبيهُ عليها في البقرةِ . الثالث : أنَّ الجملةَ محلُّها النصبُ على الحالِ . وإليه ذهب أبو بكر بن الأنباري . قال : التقديرُ : إلاَّ وإنهم ، يعني أنَّها حاليةٌ ، فقدَّر معها الواوَ بياناً للحالية . ورُدَّ : بكونِ ما بعدَ " إلاَّ " صفةً لِما قبلَها . وقدَّره أبو البقاء أيضاً .

والعامَّةُ على كسرِ " إنَّ " لوجودِ اللامِ في خبرِها ، ولكونِ الجملةِ حالاً على الراجحِ . قال أبو البقاء : " وقيل : لو لم تكنِ اللامُ لكُسِرَتْ أيضاً ؛ لأنَّ الجملةَ حاليةٌ ، إذ المعنى : إلاَّ وهم [ يأْكلون " ] . وقُرِىء " أنهم " بالفتح على زيادةِ اللامِ ، و " أَنْ " مصدريةٌ . التقدير : إلاَّ لأنَّهم . أي : ما جَعَلْناهم رسلاً إلى الناسِ إلاَّ لكونِهم مِثْلَهم .

وقرأ العامَّةُ " يَمْشُوْن " خفيفةً . وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعبد الله " يُمَشَّوْن " مشدَّداً مبنياً للمفعولِ . أي : تُمَشِّيهم حوائجُهم أو الناسُ . وقرأ [ أبو ] عبد الرحمن " يُمَشُّون " بالتشديدِ مبنياً للفاعل ، وهي بمعنى " يَمْشُون " . قال الشاعر :

ومَشَّى بأعطانِ المَبَأءَةِ وابْتَغَى *** قلائِصَ مِنْها صَعْبَةٌ ورَكُوْبُ

قال الزمخشري : " ولو قُرِىء " يُمَشُّون " لكان أوجهَ ، لولا الروايةُ " يعني بالتشديد . قلت : قد قرأ بها السُّلَمِيُّ ولله الحمد .

قوله : { أَتَصْبِرُونَ } المعادِلُ محذوفٌ أي : أم لا تصبرون . وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ قال الزمخشري : " موقعُها بعد الفتنةِ موقع " أيُّكم " بعد الابتلاءِ في قولهِ { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ } [ الملك : 2 ] يعني أنها معلَّقةٌ لِما فيها مِنْ معنى فِعْلِ القلبِ ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ على إسقاطِ الخافضِ .