قوله تعالى : { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم } ، يعني : لو شاء الله ما أنزل القرآن علي . { ولا أدراكم به } ، أي : ولا أعلمكم الله . قرأ البزي عن ابن كثير : { ولا أدراكم به } بالقصر به على الإيجاب ، يريد : ولا علمكم به من غير قراءتي عليكم . وقرأ ابن عباس : { لأنذركم به } من الإنذار . { فقد لبثت فيكم عمرا } ، حينا وهو أربعون سنة ، { من قبله } ، من قبل نزول القرآن ولم آتكم بشيء . { أفلا تعقلون } ، أنه ليس من قبلي ، ولبث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم قبل الوحي أربعين سنة ثم أوحى الله إليه فأقام بمكة بعد الوحي ثلاث عشرة سنة ثم هاجر فأقام بالمدينة عشر سنين وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة . وروى أنس : أنه أقام بمكة بعد الوحي عشر سنين وبالمدينة عشر سنين ، وتوفي وهو ابن ستين سنة . والأول أشهر وأظهر .
{ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا ْ } طويلا { مِنْ قَبْلِهِ ْ } أي : قبل تلاوته ، وقبل درايتكم به ، وأنا ما خطر على بالي ، ولا وقع في ظني .
{ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ْ } أني حيث لم أتقوله في مدة عمري ، ولا صدر مني ما يدل على ذلك ، فكيف أتقوله بعد ذلك ، وقد لبثت فيكم عمرا طويلا تعرفون حقيقة حالي ، بأني أمي لا أقرأ ولا أكتب ، ولا أدرس ولا أتعلم من أحد " ؟
فأتيتكم بكتاب عظيم أعجز الفصحاء ، وأعيا العلماء ، فهل يمكن -مع هذا- أن يكون من تلقاء نفسي ، أم هذا دليل قاطع أنه تنزيل من حكيم حميد ؟
فلو أعملتم أفكاركم وعقولكم ، وتدبرتم حالي وحال هذا الكتاب ، لجزمتم جزما لا يقبل الريب بصدقه ، وأنه الحق الذي ليس بعده إلا الضلال ، ولكن إذ أبيتم{[394]} إلا التكذيب والعناد ، فأنتم لا شك أنكم ظالمون .
ثم لقن الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - ردا آخر عليهم ، زيادة في تسفيه أفكارهم فقال - تعالى - : { قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } وقوله : { وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ } بمعنى ولا أعلمكم وأخبركم به ، أى : بهذا القرآن . يقال : دريت الشيء وأدراني الله به ، أي أعلمني وأخبرني به .
وأدري فعل ماض ، وفاعله مستتر يعود على الله - عز وجل - والكاف مفعول به .
والمعنى : قل لهم - أيضا - أيها الرسول الكريم - لو شاء الله - تعالى - أن لا أتلو عليكم هذا القرآن لفعل ، ولو شاء أن يجعلكم لا تدرون منه شيئا ، لفعل - أيضا - ، فإن مرد الأمور كلها إليه ، ولكنه - سبحانه - شاء وأراد أن أتلوه عليكم ، وأن يعلمكم به بواسطتي ، فأنا رسول مبلغ ما أمرني الله بتبليغه .
قال القرطبي : " وقرأ ابن كثير : { أَدْرَاكُمْ بِهِ } بغير ألف بين اللام والهمزة .
والمعنى : لو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم فهي لام التأكيد دخلت على ألف أفعل .
وجاءت الآية الكريمة بدون عطف على ما قبلها ، إظهارا لكمال شأن المأمور به ، وإيذاناً باستقلاله ، فإن ما سبق كان للرد على اقتراحهم تبديل القرآن . وهذه الآية للرد على اقتراحهم الإِتيان بغيره .
ومفعول المشيئة محذوف . لأن جزاء الشرط ينبئ عنه ، أى : لو شاء الله عدم تلاوته ما تلوته عليكم :
وقوله : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ } تعليل للملازمة المستلزمة لكون عدم التلاوة وعدم العلم منوط بمشيئة الله - تعالى - وقوله : { عُمُراً } منصوب على الظرفية وهو كناية عن المدة الطويلة . أى : فأنتم تعلمون أني قد مكثت فيما بينكم ، مدة طويلة من الزمان ، قبل أن أبلغكم هذا القرآن ، حفظتم خلالها أحوالي ، وأحطتم خبرا بأقوالي وأفعالي ، وعرفتم أني لم أقرأ عليكم من آية أو سورة مما يشهد أن هذا القرآن إنما هو من عند الله - تعالى - .
والهمزة في قوله { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } داخلة على محذوف . وهى للاستفهام التوبيخي .
والتقدير : أجهلتم هذا الأمر الجلي الواضح ، فصرتم لا تعقلون أن أمثال هذه الاقتراحات المتعنتة التي اقترحتموها لا يملك تنفيذها أحد إلا الله - تعالى - .
قال الإِمام الرازي ما ملخصه : " أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم بما جاء في هذه الآية وتقريره : أو أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أول عمره إلى ذلك الوقت ، وكانوا عالمين بأحواله .
وأنه ما طالع كتابا ولا تتلمذ على أستاذ ولا تعلم من أحد ، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه ، جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول ودقائق علم الأحكام ، ولطائف علم الأخلاق ، وأسرار قص الأولين ، وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء ، وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإِلهام من الله - تعالى - .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لّوْ شَآءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه معرّفه الحجة على هؤلاء المشركين الذين قالوا له ائت بقرآن غير هذا أو بدّله : قل لهم يا محمد لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ أي ما تلوت هذا القرآن عليكم أيها الناس بأن كان لا ينزل عليّ فيأمرني بتلاوته عليكم ، وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ يقول : ولا أعلمكم به ، فَقَدْ لَبِثْتُ فيكُمْ عُمُرا مِنْ قَبْلِهِ يقول : فقد مكثت فيكم أربعين سنة من قبل أن أتلوه عليكم ومن قبل أن يوحيه إليّ ربي ، أفَلا تَعْقِلُونَ أني لو كنت منتحلاً ما ليس لي من القول كنت قد انتحلته في أيام شبابي وحداثتي وقبل الوقت الذي تلوته عليكم ؟ فقد كان لي اليوم لو لم يوح إليّ وأومر بتلاوته عليكم مندوحة عن معاداتكم ومتسع في الحال التي كنت بها منكم قبل أن يوحى إليّ وأومر بتلاوته عليكم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا أدرَاكُمْ بِهِ : ولا أعلمكم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ولَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ يقول : لو شاء الله لم يعلمكموه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ يقول : ما حذّرتكم به .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إذَا تُتْلَى عَليْهِم آياتُنا بَيّناتِ قالَ الّذِين لا يَرْجُونَ لِقَاءَنا ائْتِ بقُرآنٍ غيرِ هَذَا أوْ بَدّلْه ، وهو قول مشركي أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرا مِنْ قَبْلِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ لبث أربعين سنة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْارَاكُمْ بِهِ ولا أعلمكم به .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، أنه كان يقرأ : «وَلا أدْرَأتُكُمْ بِهِ » يقول : ما أعلمتكم به .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلا أدْارَاكُمْ بِهِ يقول : ولا أشعركم الله به .
وهذه القراءة التي حكيت عن الحسن عند أهل العربية غلط ، وكان الفراء يقول في ذلك قد ذكر عن الحسن أنه قال : «ولا أدْرأتكم به » ، قال : فإن يكن فيها لغة سوى «دريت » و «أدريت » ، فلعلّ الحسن ذهب إليها ، وأما أن يصلح من «دريت » أو «أدريت » فلا ، لأن الياء والوا إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا صحتا ولم تنقلبا إلى ألف مثل قضيت ودعوت ، ولعلّ الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها ، لأنها تضارع «درأت الحدّ » وشبهه . وربما غلطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز ، فيهمزون غير المهموز . وسمعت امرأة من طيّ تقول : رثأت زوجي بأبيات ، ويقولون : لبأت بالحجّ وحلأت السويق يتغلطون ، لأن «حلأت » قد يقال في دفع العطاش من الإبل ، و «لبأت » : ذهبت به إلى اللبأ ، لبأ الشاة ، و«رثأت زوجي » : ذهبت به إلى رثأت اللبن إذا أنت حلبت الحليب على الرائب ، فتلك الرثيئة . وكان بعض البصريين يقول : لا وجه لقراءة الحسن هذه لأنها من «أدريت » مثل «أعطيت » ، إلا أن لغة بني عقيل «أعطأت » يريدون «أعطيت » ، تحوّل الياء ألفا ، قال الشاعر :
لَقَدْ آذَنَتْ أهْلَ اليَمامَةِ طَيىّءٌ *** بحَرْبٍ كنَاصَاةَ الأغَرّ المُشَهّرِ
يريد كناصية حكي ذلك عن المفضل . وقال زيد الخيل :
لَعْمُركَ ما أخْشَى التّصَعْلُكَ ما بَقَا *** على الأرْضِ قَيْسيّ يَسُوقُ الأباعِرا
لَزَجَرْتُ قلبا لا يَرِيعُ لِزَاجِرٍ *** إنّ الغَوِيّ إذا نُهَا لَمْ يُعْتِب
يريد «نُهِي » . قال : وهذا كله على قراءة الحسن ، وهي مرغوب عنها ، قال : وطيّىء تصير كل ياء انكسر ما قبلها ألفا ، يقولون : هذه جاراة ، وفي الترقوة : ترقاة ، والعرقوة : عرقاة ، قال : وقال بعض طيىء : قد لقت فزارة ، حذف الياء من لقيت لما لم يمكنه أن يحوّلها ألفا لسكون التاء فيلتقي ساكنان . وقال : زعم يونس أن نسا ورضا لغة معروفة ، قال الشاعر :
وأبْنَيْتُ بالأَعْراضِ ذا البَطْنِ خالِدا *** نَسا أوْ تَناسَى أن يَعُدّ المَوَاليا
ورُوى عن ابن عباس في قراءة ذلك أيضا رواية أخرى ، وهي ما :
حدثنا به المثنى ، قال : حدثنا المعلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد بن حنظلة ، عن شهر بن حوشب ، عن ان عباس أنه كان يقرأ : «قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أنْذَرْتُكُمْ بِهِ » .
والقراءة التي لا أستجيز أن تعدوها هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار : لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ بمعنى : ولا أعلمكم به ، ولا أشعركم به .