التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (16)

{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 15 قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ولاَ أَدْرَاكُم بِهِ ( 1 ) فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ 16 فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ 17 } [ 15 17 ] .

في الآيات حكاية لبعض أقوال الكفار ومواقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث كانوا يطلبون منه إذا ما تلا عليهم ما يوحيه الله إليه من القرآن أن يأتيهم بقرآن غيره ، أو أن يدخل فيه بعض التبديل والتغيير ، وحيث أمر بالرد عليهم بأنه لا يمكنه أن يبدل ويغير فيه من عند نفسه وأنه إنما يبلغ ما يوحى إليه من الله عز وجل ويتبعه ويقف عنده ، وأنه يعرف ما ينتظره من عذاب الله العظيم لو تجرأ وعصى ربه ، وأنه إذ يبلغهم ما يوحى إليه إنما يفعل ما أمره الله الذي لو شاء ما تلاه عليهم ولا أنزله عليه ليبلغه لهم . وأنه لبث فيهم قبل الوحي القرآني عمرا طويلا فلم يصدر منه في هذا الصدد شيء ، وأن هذا وحده كاف لإقناعهم بأن ما يبلغهم إياه هو وحي الله وقرآنه لو تمعنوا وتعقلوا وتدبروا .

وانتهت الآيات بتقرير أن ليس أحد أشد ظلما ممن يفتري على الله الكذب في نسبة ما لم يصدر عنه إليه وفي تغيير ما يصدر عنه وتبديله ، ولا ممن يكذب بآياته الصادرة عنه ، وإنه لا يقدم على هذا إلاّ المجرمون الذين لن يفلحوا .

وقد يتبادر أن التقرير المنطوي في الآية وارد بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية وإلى المجرمين من ناحية أخرى في وقت واحد . وبالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ينطوي على تبرئته من أي احتمال للكذب على الله تعالى فيما يبلغه والله أعلم .

تعليق على قول الكفار

{ ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ }

وجواب القرآن عليه

روى بعض المفسرين{[1155]} أن خمسة من رجالات قريش جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلبوا منه الإتيان بقرآن ليس فيه تسفيه لعقولهم وحملة على آلهتهم وتبديل لهجته إذا كان يريد أن يستجيبوا له أو يسكتوا عنه ، ويدعوه وشأنه ، فأنزل الله الآيات على سبيل حكاية قولهم والرد عليه . وفحوى الآيات يسوغ القول حقا أنها في صدد مشهد مثل هذا المشهد . وبكلمة ثانية يجعل الرواية محتملة الصحة ولو لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة . غير أن عطف الآيات على ما قبلها وورود تعبير { لا يرجون لقاءنا } الذي تكرر وروده في الآيات السابقة يجعلاننا نرى في الآيات استمرارا للسياق . ونرجح أن المشهد كان قبل نزولها . فحكته الآيات في جملة ما حكاه السياق من مواقف الجاحدين بل إن خطورة المشهد الذي حكته يجعلنا نرجح أن السياق منذ بدء السورة هو تمهيد وتوطئة لحكايته .

ولقد احتوت سورة الإسراء السابقة لهذه السورة في ترتيب النزول آيات ذكرت أن الكفار كادوا يفتنون النبي صلى الله عليه وسلم عما أنزل عليه ليفتري على الله غيره على ما شرحناه في سياقها . فليس بعيدا أن يكون الموقف والمطلب واحدا ولاسيما أن سورة يونس نزلت بعد سورة الإسراء على ما روته الروايات وقامت عليه القرائن أو أن يكون الكفار عادوا فألحوا فيما طلبوه فكان هذا المشهد الذي نزلت الآيات به .

ولقد تكرر في السور السابقة حكاية مشاهد الجدل والحجاج حول القرآن ، كما استمر في السور اللاحقة أيضا ؛ مما يدل على أن القرآن كان موضوع حجاج وأخذ ورد دائم بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار ، ومما هو طبيعي لأنه أعظم وأقوى مظهر للنبوة والرسالة .

وهذا الجدل المستمر بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار حول القرآن وحكايته فيه يؤيد ما قلناه قبل من أن تعبير ( القرآن ) كان يطلق على ما كان ينزل منه قبل تمامه أولا ، ومن أن الفصول المحكمة فيه التي احتوت أسس الدعوة أي وحدة الله والإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء الآخرين وباليوم الآخر والتزام مكارم الأخلاق والأعمال الصالحة وعبادة الله وحده واجتناب الآثام والفواحش والشرك هي التي كان يقصد بها هذا التعبير ويدور حولها الجدل ، وتنزل الفصول التدعيمية الأخرى من قصص وأمثال وترغيب وترهيب وتذكير وتنديد وتسفيه لدعمها ثانيا ، ولما كان جميع ذلك وحيا ربانيا فقد شملته دفتا المصحف ودخل في نطاق تعبير كلام الله وقرآنه .

والمتمعن في الآيات يلمس صورة رائعة قوية تثير الإجلال والإعظام لصميمية الرسول صلى الله عليه وسلم في إبلاغه أمر الله القرآني ردا على طلب الكفار وإخلاصه وصدقه وعمق إيمانه بأنه إنما كان يبلغ وحي الله النازل عليه وباستشعاره خوفا عظيما تجاه أي احتمال في تبديل أو تعبير أو زيادة أو نقص فيما كان يوحى إليه في سياق إبلاغه وتفهيمه للناس .

وفيها ردّ قوي على من يزعم أن القرآن نابع من نفس النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي الآية الثانية صورة من صور نشأة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة من سيرته وخلقه ؛ حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتذكير السامعين بما كان من أمره وحالته قبل نزول الوحي إليه ، وبأنهم يعرفونه ويعرفون أنه لم يكن فضوليا ولا مفتريا ولا كذابا ولا مندفعا في أي أمر وحركة ، ولا راغبا في البروز والظهور ، ولا مترشحا للنبوة ، ولا شاعرا ولا خطيبا ولا كاتبا ولا قارئا ، وإن هذا لدليل على أنّ ما كان يبلغه ليس منه وإنما هو وحي الله وقرآنه .

ومن غرائب مفارقات مفسري الشيعة أنهم يقولون : إن جملة ( ائت بقرآن غير هذا ) عنت طلب قريش الإتيان بقرآن لا يذكر إمامة علي للمسلمين ويذكر شخصا بديلا عنه{[1156]} ، وتبدو شدة المفارقة إذا لوحظ أن الآية مكية وسياقها في صدد التنديد بالمشركين وسخف شركهم وحالة الضعف والقلة في المسلمين وكون عليا ما يزال صبيا .


[1155]:انظر الطبري والبغوي والخازن.
[1156]:انظر التفسير والمفسرون للذهبي جـ 2 ص 67.