محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (16)

ولما بين بطلان ما اقترحوا الإتيان به واستحالته ، أشار إلى تحقيق حقية القرآن ، وكونه من عنده تعالى بقوله :

[ 16 ] { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون 16 } .

{ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم } .

قال الزمخشري : يعني أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمرا عجيبا خارجا عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أميّ لم يتعلم ولم يستمع ، ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره ، ولا نشأ في بلد فيه علماء ، فيقرأ عليكم كتابا فصيحا ، يبهر كل كلام فصيح ، ويعلو على كل منثور ومنظوم ، مشحونا بعلوم من علوم الأصول والفروع ، وأخبار مما كان ويكون ناطقا بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله ، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره ، وما سمعتم منه حرفا من ذلك ، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه ، وألصقهم به .

{ ولا أدراكم به } أي ولا أعلمكم به على لساني { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله } أي من قبل نزوله ، لا أتعاطى شيئا مما يتعلق بنحوه ، ولا كنت متواصفا بعلم وبيان ، فتتهموني باختراعه . { أفلا تعقلون } أي فتعلموا أنه ليس إلا من الله ، لا من مثلي .

قال الزمخشري : وهذا جواب عما دسّوه تحت قولهم { ائت بقرآن غير هذا } من إضافة الافتراء إليه .

تنبيه :

رأى أبو السعود أن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على مجرد امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسلام ، لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم ، واقتصار حاله عليه الصلاة والسلام على اتباع الوحي ، وامتناع الاستبداد بالرأي من غير تعرض هناك ولا ههنا ، لكون القرآن في نفسه أمرا خارجا عن طوق البشر ، ولا لكونه عليه السلام غير قادر على الإتيان بمثله ، أن يستشهد ههنا على المطلوب مما يلائم ذلك من أحواله المستمرة في تلك المدة المتطاولة ، من كمال نزاهته عما يوهم شائبة صدور الكذب ، والافتراء عنه في حق أحد كائنا من كان ، كما ينبئ عنه تعقيبه بتظليم المفتري على الله تعالى . والمعنى : قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي ، لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال ، ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة ، فضلا عما فيه كذب أو افتراء ، أفلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد في هذا العهد البعيد ، مستحيل أن يفتري على الله ، ويتحكم على الخلق كافة ، بالأوامر والنواهي الموجبة لسفك الدماء ، وسلب الأموال ، ونحو ذلك . وأن ما أتى به وحي مبين ، تنزيل من رب العالمين انتهى .

وما استنسبه رحمه الله ، اقتصر عليه ابن كثير ، ثم استشهد بقول{[4715]} هرقل ملك الروم/ لأبي سفيان ، فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، " قال هرقل له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان فقلت : لا ! وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة ، وزعيم المشركين ، ومع هذا اعترف بالحق * والفضل ما شهدت به الأعداء * فقال له هرقل : فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ، ثم يكذب على الله " .

وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة{[4716]} : " بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته ، وقد كانت مدة مقامه بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة " .

وعن ابن المسيّب : " ثلاثا وأربعين سنة " . والصحيح المشهور الأول .


[4715]:الحديث أخرجه البخاري في صحيحه: 1- كتاب بدء الوحي، 6- حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع.
[4716]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده بالصفحة رقم 202 من الجزء الأول (طبعة الحلبي) والحديث رقم 1740 (طبعة المعارف).