الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (16)

قوله تعالى : " قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به " أي لو شاء الله ما أرسلني إليكم فتلوت عليكم القرآن ، ولا أعلمكم الله ولا أخبركم به ؛ يقال : دريت الشيء وأدراني الله به ، ودريته ودريت به . وفي الدراية معنى الختل ، ومنه دريت الرجل أي ختلته ؛ ولهذا لا يطلق الداري في حق الله تعالى وأيضا عدم فيه التوقيف . وقرأ ابن كثير : " ولأدراكم به " بغير ألف بين اللام والهمزة ؛ والمعنى : لو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم ، فهي لام التأكيد دخلت على ألف أفعل . وقرأ ابن عباس والحسن " ولا أدراتكم به " بتحويل الياء ألفا{[8445]} ، على لغة بني عقيل ، قال الشاعر :

لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقَى*** على الأرض قيسيٌّ يسوق الأباعرا

وقال آخر :

ألا آذنت أهل اليمامة طيء*** بحرب كناصات الأغر المشَهَّرِ

قال أبو حاتم : سمعت الأصمعي يقول سألت أبا عمرو بن العلاء : هل لقراءة الحسن " ولا أدراتكم به " وجه ؟ فقال لا . وقال أبو عبيد : لا وجه لقراءة الحسن " ولا أدراتكم به " إلا الغلط . قال النحاس : معنى قول أبي عبيد : لا وجه ، إن شاء الله على الغلط ؛ لأنه يقال : دريت أي علمت ، وأدريت غيري ، ويقال : درأت أي دفعت ، فيقع الغلط بين دريت ودرأت . قال أبو حاتم : يريد الحسن فيما أحسب " ولا أدريتكم به " فأبدل من الياء ألفا على لغة بني الحارث بن كعب ، يبدلون من الياء ألفا إذا انفتح ما قبلها ، مثل : " إن هذان لساحران{[8446]} " [ طه : 63 ] . قال المهدوي : ومن قرأ " أدرأتكم " فوجهه أن أصل الهمزة ياء ، فأصله " أدريتكم " فقلبت الياء ألفا وإن كانت ساكنة ، كما قال : يايس في ييس وطايء في طيء ، ثم قلبت الألف همزة على لغة من قال في العالم العألم وفي الخاتم الخأتم . قال النحاس : وهذا غلط ، والرواية عن الحسن " ولا أدرأتكم " بالهمزة ، وأبو حاتم وغيره تكلم أنه بغير همز ، ويجوز أن يكون من درأت أي دفعت ، أي ولا أمرتكم أن تدفعوا فتتركوا الكفر بالقرآن .

قوله تعالى : " فقد لبثت فيكم عمرا " ظرف ، أي مقدارا من الزمان وهو أربعون سنة . " من قبله " أي من قبل القرآن ، تعرفونني بالصدق والأمانة ، لا أقرأ ولا أكتب ، ثم جئتكم بالمعجزات . " أفلا تعقلون " أن هذا لا يكون إلا من عند الله لا من قبلي . وقيل : معنى " لبثت فيكم عمرا " أي لبثت فيكم مدة شبابي لم أعص الله ، أفتريدون مني الآن وقد بلغت أربعين سنة أن أخالف أمر الله ، وأغير ما ينزله علي . قال قتادة : لبث فيهم أربعين سنة ، وأقام سنتين يرى رؤيا الأنبياء ، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتين وستين سنة .


[8445]:أي أن الأصل: "أدريتكم".
[8446]:راجع ج 11 ص 215 فما بعد.