إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (16)

وقوله عز وجل : { قُل لوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } تحقيقٌ لحقية القرآنِ وكونِه من عند الله تعالى إثرَ بيانِ بطلانِ ما اقترحوا الإتيانَ به واستحالتِه عبارةً ودلالةً ، وإنما صدر بالأمر المستقلِّ مع كونه داخلاً تحت الأمرِ السابقِ إظهاراً لكمال الاعتناءِ بشأنه وإيذاناً باستقلاله مفهوماً وأسلوباً ، فإنه برهانٌ دالٌّ على كونه بأمر الله تعالى ومشيئتِه كما سيأتي ، وما سبق مجردُ إخبارٍ باستحالة ما اقترحوه ، ومفعولُ شاء محذوفٌ ينبىء عنه الجزاءُ لا غيرُ ذلك كما قيل فإن مفعولَ المشيئةِ إنما يحذف إذا وقعت شرطاً وكان مفعولُها مضمونَ الجزاءِ ولم يكن في تعلقها به غرابةٌ كما في قوله : [ الكامل ]

لو شئتُ أن أبكي دماً لبكَيتُه *** . . .

حيث لم يحُذف لفقدان الشرطِ الأخيرِ ولأن المستلزِمَ للجزاء أعني عدمَ تلاوتِه عليه الصلاة والسلام للقرآن عليهم إنما هو مشيئتُه تعالى له لا مشيئتُه لغير القرآن ، والمعنى أن الأمرَ كلَّه منوطٌ بمشيئته تعالى وليس لي منه شيء قط ، ولو شاء عدمَ تلاوتي له عليكم لا بأن شاء عدمَ تلاوتي له من تلقاء نفسي بل بأن يُنزِلْه عليّ ولم يأمُرْني بتلاوته كما ينبىء عنه إيثارُ التلاوة على القراءة ما تلوتُه عليكم { وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ } أي ولا أعلمَكم به بواسطتي ، والتالي وهو عدمُ التلاوةِ والإدراءِ منتفٍ فينتفي المقدّم أعني مشيئتَه عدمَ التلاوة ، ولا يخفى أنها مستلزمةٌ لعدم مشيئتِه التلاوة قطعاً ، فانتفاؤُها مستلزمٌ لانتفائه حتماً وانتفاءُ عدمِ مشيئتِه التلاوةَ إنما يكون بتحقق مشيئةِ التلاوةِ فثبت أن تلاوتَه عليه الصلاة والسلام للقرآن بمشيئته تعالى وأمرِه ، وإنما قيدنا الإدراءَ بكونه بواسطته عليه الصلاة والسلام لأن عدمَ الإعلامِ مطلقاً ليس من لوازم الشرطِ الذي هو مشيئةُ عدمِ تلاوتِه عليه السلام فلا يجوز نظمُه في سلك الجزاءِ ، وفي إسناد عدمِ الإدراءِ إليه تعالى المنبىءِ عن استناد الإدراءِ إليه تعالى إيذانٌ بأنْ لا دخلَ له عليه السلام في ذلك حسبما يقتضيه المقامُ ، وقرىء ولا أدرَأْنُكم ولا أدرَأَكم بالهمزة فيهما على لغة من يقول : أعطأتُ وأرضأتُ في أعطيت وأرضيتُ أو على أنه من الدرء بمعنى الدفعِ أي ولا جعلتُكم بتلاوته عليكم خصَماءَ تدرَؤُني بالجِدال ، وقرىء ولا أنذرتُكم به وقرىء لأدْرَاكم بلام الجوابِ ، أي لو شاء الله ما تلوتُه عليكم أنا ولأَعلَمكم به على لسان غيري ، على معنى أنه الحقُّ الذي لا محيصَ عنه ، لو لم أُرسل به أنا لأُرسل به غيري البتة ، أو على معنى أنه تعالى يمُنّ على من يشاء فخصّني بهذه الكرامة .

{ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً } تعليلٌ للملازمة المستلزِمةِ لكون تلاوتِه بمشيئة الله تعالى وأمره حسبما بيّن آنفاً ، لكن لا بطريق الاستدلالِ عليها بعدم تلاوتِه عليه الصلاة والسلام فيما سبق بسبب مشيئتِه تعالى إياه بل بطريق الاستشهادِ عليها بما شاهدوا منه عليه الصلاة والسلام في تلك المدةِ الطويلةِ من الأمور الدالةِ على استحالة كونِ التلاوةِ من جهته عليه الصلاة والسلام بلا وحيٍ ، وعمراً نُصب على التشبيه بظرف الزمانِ ، والمعنى قد أقمتُ فيما بينكم دهراً مديداً مقدارَ أربعين سنةً تحفظون تفاصيلَ أحوالي طرّاً وتحيطون بما لديّ خبراً { مِن قَبْلِهِ } أي من قبل نزولِ القرآن لا أتعاطى شيئاً مما يتعلق به لا من حيث نظمه المعجز ولا من حيث معناه الكاشفُ عن أسرار الحقائقِ وأحكامِ الشرائع { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي ألا تلاحِظون ذلك فلا تعقلون امتناعَ صدورِه عن مثلي ، ووجوبَ كونِه منزلاً من عند الله العزيز الحكيم فإنه غيرُ خافٍ على من له عقلٌ سليمٌ . والحق الذي لا محيدَ عنه أن مَنْ له أدنى مَسَكةٍ من العقل إذا تأمل في أمره عليه الصلاة والسلام وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهرَ الطويلَ من غير مصاحبةِ العلماء في شأن من الشؤون ولا مراجعةٍ إليهم في فن من الفنون ولا مخالطةِ البلغاءِ في المفاوضة والحِوار ولا خوضٍ معهم في إنشاء الخُطبِ والأشعار ثم أتى بكتاب بهَرتْ فصاحتُه كلَّ فصيح فائقٍ وبزّت بلاغتُه كلَّ بليغٍ رائقٍ أو علا نظمُه كلَّ منثور ومنظومٍ وحوى فحواه بدائعَ أصنافِ العلومِ ، كاشفٌ أسرارَ الغيبِ من وراء أستارِ الكمُون ناطقٌ بأخبار ما قد كان وما سيكون ، مصدقٌ لما بين يديه من الكتب المنزلةِ مهيمنٌ عليها في أحكامها المُجْملة والمفصّلة لا يبقى عنده شائبةُ اشتباهٍ في أنه وحيٌ منزلٌ من عند الله ، هذا هو الذي اتفقت عليه كلمةُ الجمهور ، ولكن الأنسبَ ببناء الجوابِ فيما سلف على مجرد امتناعِ صدورِ التغيير والتبديلِ عنه عليه الصلاة والسلام لكونه معصيةً موجبةً للعذاب العظيم واقتصارِ حالِه عليه الصلاة والسلام على اتباع الوحي وامتناعِ الاستبدادِ بالرأي من غير تعرضٍ هناك ولا هاهنا لكون القرآنِ في نفسه أمراً خارجاً عن طَوْق البشرِ ولا لكونه عليه الصلاة والسلام غيرَ قادرٍ على الإتيان بمثله أن يُستشهدَ هاهنا على المطلب بما يلائم ذلك من أحواله المستمرةِ في تلك المدةِ المتطاولةِ من كمال نزاهتِه عليه الصلاة والسلام عما يوهم شائبةَ صدورِ الكذبِ والافتراءِ عنه في حق أحدٍ كائناً مَنْ كان كما ينبىء عنه تعقيبُه بتظليم المفتري على الله تعالى ، والمعنى قد لبثتُ فيما بين ظَهْرانيكم قبل الوحي لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدالٍ ولا أحوم حولَ مقالٍ فيه شائبةُ شبهةٍ فضلاً عما فيه كذبٌ أو افتراءٌ ، ألا تلاحظون فلا تعقِلون أن مَنْ هذا شأنُه المطردُ في هذا العهد البعيدِ مستحيلٌ أن يفتري على الله عز وجل ويتحكم على كافة الخلقِ بالأوامر والنواهي الموجبةِ لسلب الأموالِ وسفكِ الدماءِ ونحو ذلك ، وأن ما أتى به وحيٌ مبينٌ تنزيلٌ من رب العالمين .