مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (16)

قوله تعالى { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون }

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنا بينا فيما سلف ، أن القوم إنما التمسوا منه ذلك الالتماس ، لأجل أنهم اتهموه بأنه هو الذي يأتي بهذا الكتاب من عند نفسه ، على سبيل الاختلاق والافتعال ، لا على سبيل كونه وحيا من عند الله . فلهذا المعنى احتج النبي عليه الصلاة والسلام على فساد هذا الوهم بما ذكره الله تعالى في هذه الآية . وتقريره أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول عمره إلى ذلك الوقت ، وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتابا ولا تلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد ، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول ، ودقائق علم الأحكام ، ولطائف علم الأخلاق ، وأسرار قصص الأولين . وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء ، وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله تعالى ، فقوله : { لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به } حكم منه عليه الصلاة والسلام بأن هذا القرآن وحي من عند الله تعالى ، لا من اختلاقي ولا من افتعالي . وقوله : { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله } إشارة إلى الدليل الذي قررناه ، وقوله : { أفلا تعقلون } يعني أن مثل هذا الكتاب العظيم إذا جاء على يد من لم يتعلم ولم يتلمذ ولم يطالع كتابا ولم يمارس مجادلة ، يعلم بالضرورة أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي والتنزيل . وإنكار العلوم الضرورية يقدح في صحة العقل . فلهذا السبب قال : { أفلا تعقلون } .

المسألة الثانية : قوله : { ولا أدراكم به } هو من الدراية بمعنى العلم . قال سيبويه : يقال دريته ودريت به ، والأكثر هو الاستعمال بالباء . والدليل عليه قوله تعالى : { ولا أدراكم به } ولو كان على اللغة الأخرى لقال ولا أدراكموه .

إذا عرفت هذا فنقول : معنى { ولا أدراكم به } أي ولا أعلمكم الله به ولا أخبركم به . قال صاحب «الكشاف » : قرأ الحسن { ولا أدرأكم به } على لغة من يقول أعطأته وأرضأته في معنى أعطيته وأرضيته ويعضده قراءة ابن عباس { ولا أنذرتكم به } ورواه الفراء { ولا أدرأتكم } به بالهمز ، والوجه فيه أن يكون من أدرأته إذا دفعته ، وأدرأته إذا جعلته داريا ، والمعنى : ولا أجعلكم بتلاوته خصماء تدرؤنني بالجدال وتكذبونني ، وعن ابن كثير { ولأدرأكم } بلام الابتداء لإثبات الإرداء .

وأما قوله تعالى : { به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله } فالقراءة المشهورة بضم الميم ، وقرئ { عمرا } بسكون الميم .