الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (16)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم قال لكفار مكة: {قل لو شاء الله ما تلوته}، يعني ما قرأت هذا القرآن، {عليكم ولا أدراكم به} يقول: ولا أشعركم بهذا القرآن، {فقد لبثت فيكم عمرا} طويلا أربعين سنة، {من قبله}، من قبل هذا القرآن، فهل سمعتموني أقرأ شيئا عليكم؟

{أفلا} يعني فهلا {تعقلون} أنه ليس متقول منى، ولكنه وحي من الله إلي.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه معرّفه الحجة على هؤلاء المشركين الذين قالوا له ائت بقرآن غير هذا أو بدّله: قل لهم يا محمد "لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ "أي ما تلوت هذا القرآن عليكم أيها الناس بأن كان لا ينزل عليّ فيأمرني بتلاوته عليكم، "وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ" يقول: ولا أعلمكم به، "فَقَدْ لَبِثْتُ فيكُمْ عُمُرا مِنْ قَبْلِهِ" يقول: فقد مكثت فيكم أربعين سنة من قبل أن أتلوه عليكم ومن قبل أن يوحيه إليّ ربي، "أفَلا تَعْقِلُونَ" أني لو كنت منتحلاً ما ليس لي من القول كنت قد انتحلته في أيام شبابي وحداثتي وقبل الوقت الذي تلوته عليكم؟ فقد كان لي اليوم لو لم يوح إليّ وأومر بتلاوته عليكم مندوحة عن معاداتكم ومتسع في الحال التي كنت بها منكم قبل أن يوحى إليّ وأومر بتلاوته عليكم...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... يحتمل هذا الكلام وجوهًا:

أحدها: أنهم لما ادعوا عليه الاختراع من عنده قال: إني قد لبثت فيكم من قبله، أي: من قبل أن يوحى هذا إليَّ، فلم تروني خططت بيميني، ولا اختلفت إلى أحد في التعلم والدراسة، فكيف أخترع من عندي؛ إذ التأليف لا يلتئم ولا يتم إلا بأسباب تتقدم؟!

والثاني: فقد لبثت عمرا سنين لم تعرفوني ولا رأيتموني كذبت قط، فكيف أفتري على اللَّه تعالى وأخترع القرآن من عند نفسي؟! ألا ترى أنه قال على إثر هذه: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي: لا أحد أظلم ممن افترى على اللَّه كذبًا.

والثالث: يحتمل قوله: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ) فلم أسمع أحدًا ادعى البعث، ولا أقام حجة عليه، وأنا قد ادعيت البعث وأقمت على ذلك حجة، أفلا تعقلون هذا أني لم أخترع من عند نفسي؟!

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} يعني أن تلاوته ليست إلاّ بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات، وهو أن يخرج رجل أميّ لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء فيقرأ عليهم كتاباً فصيحاً، يبهر كل كلام فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان وما يكون، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلاّ الله، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} ولا أعلمكم به على لساني... {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً}... يعني: فقد أقمت فيما بينكم يافعاً وكهلاً، فلم تعرفوني متعاطياً شيئاً من نحوه ولا قدرت عليه، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان فتتهموني باختراعه. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فتعلموا أنه ليس إلاّ من الله لا من مثلي. وهذا جواب عما دسّوه تحت قولهم: ائت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه من كمال الحجة، أي هذا الكلام ليس من قبلي ولا من عندي وإنما هو من عند الله، ولو شاء ما بعثني به ولا تلوته عليكم ولا أعلمتكم به...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

المسألة الأولى: اعلم أنا بينا فيما سلف، أن القوم إنما التمسوا منه ذلك الالتماس، لأجل أنهم اتهموه بأنه هو الذي يأتي بهذا الكتاب من عند نفسه، على سبيل الاختلاق والافتعال، لا على سبيل كونه وحيا من عند الله. فلهذا المعنى احتج النبي عليه الصلاة والسلام على فساد هذا الوهم بما ذكره الله تعالى في هذه الآية، وتقريره أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول عمره إلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتابا ولا تلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأولين. وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء، وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله تعالى، فقوله: {لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به} حكم منه عليه الصلاة والسلام بأن هذا القرآن وحي من عند الله تعالى، لا من اختلاقي ولا من افتعالي. وقوله: {فقد لبثت فيكم عمرا من قبله} إشارة إلى الدليل الذي قررناه، وقوله: {أفلا تعقلون} يعني أن مثل هذا الكتاب العظيم إذا جاء على يد من لم يتعلم ولم يتلمذ ولم يطالع كتابا ولم يمارس مجادلة، يعلم بالضرورة أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي والتنزيل، وإنكار العلوم الضرورية يقدح في صحة العقل، فلهذا السبب قال: {أفلا تعقلون}.

المسألة الثانية: قوله: {ولا أدراكم به} هو من الدراية بمعنى العلم...

إذا عرفت هذا فنقول: معنى {ولا أدراكم به} أي ولا أعلمكم الله به ولا أخبركم به...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما تم ما دفع به مكرهم في طعنهم، اتبعه بعذره صلى الله عليه وسلم في الإبلاغ على وجه يدل قطعاً على أنه كلام الله وما تلاه إلاّ بإذنه فيجتث طعنهم من أصله ويزيله بحذافيره فقال: {قل} أي لهم معلماً أنه سبحانه إما أن يشاء الفعل وإما أن يشاء عدمه وليست ثَمّ حالة سكوت أصلاً {لو شآء الله} أي الذي له العظمة كلها أن لا أتلوه عليكم {ما تلوته} أي تابعت قراءته {عليكم ولآ أدراكم} أي أعلمكم على وجه المعالجة هو سبحانه {به} على لساني؛ ولما كان ذكر ذلك أتبعه السبب المعرف به فقال: {فقد لبثت فيكم عمراً} ولما كان عمره لم يستغرق زمان القبل قال: {من قبله} مقدار أربعين سنة بغير واحد من الأمرين لكون الله لم يشأ واحداً منهما إذ ذاك، ثم أتيتكم بهذا الكتاب الأحكم المشتمل على حقائق علم الأصول ودقائق علم الفروع ولطائف علم الأخلاق وأسرار قصص الأولين في عبارة قد عجزتم -وأنتم أفصح الناس وأبلغهم- عن معارضة آية منها، فوقع بذلك العلم القطعي الظاهر جداً أنه من عند الله فلذلك سبب عنه إنكار العقل فقال: {أفلا تعقلون} إشارة إلى أنه يكفي -في معرفة أن القرآن من عند الله وأن غيره عاجز عنه- كون الناظر في أمره وأمري من أهل العقل، أي أفلا يكون لكم عقل فتعرفوا به حقيقة القرآن بما أرشدكم إليه في هذه الآية من هذا البرهان الظاهر والسلطان القاهر القائم على أنه ما يصح لي بوجه أن أبدله من قبل نفسي لأني مثلكم و قد عرفتم أنكم عاجزون عن ذلك مع التظاهر، فأنا وحدي -مع كوني أمياً- أعجز، و من أنه تعالى لو شاء ما بلغكم، ومن أني مكثت فيكم قبل إتياني به زمناً طويلاً لا أتلو عليكم شيئاً ولا أدعي فيكم علماً ولا أتردد إلى عالم؛ وتعرفوا أن قائل ما قلتم مكذب بآيات الله، وفاعل ما طلبتم كاذب على الله، وكل من ذلك أظلم الظلم.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ثم لقنه الجواب عن الشق الأول مفصولا لأهميته بقوله: {قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} أي لو شاء الله تعالى أن لا أتلو عليكم هذا القرآن ما تلوته عليكم، فإنما أتلوه بأمره تنفيذا لمشيئته.

{ولاَ أَدْرَاكُم بِهِ} أي ولو شاء أن لا يدريكم ويعلمكم به بإرسالي إليكم لما أرسلني ولما أدراكم به، ولكنه شاء أن يمن عليكم بهذا العلم الأعلى لتدروه، فتهتدوا به وتكونوا بهدايته خلائف الأرض، وقد علم أن هذا إنما يكون به، لا بقرآن آخر كما قال {لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، وقال: {ولَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52] [راجع تفسير هذه وما بعدها في ج 8 تفسير]، فهو قد أنزله عالما بأن فيه كل ما يحتاجون إليه من الهداية وأسباب السعادة، وأمرني بتبليغه إليكم، ولم يكن لي علم بشيء من ذلك قبله.

{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ} أي فقد مكثت فيما بين ظهرانيكم عمرا طويلا من قبله، وهو أربعون سنة لم أتل عليكم فيه سورة من مثله، ولا آية تشبه آياته، لا في العلم والعرفان، ولا في البلاغة ورعة البيان.

{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أن من عاش أربعين سنة لم يقرأ فيها كتابا، ولم يلقن من أحد علما، ولم يتقلد دينا، ولم يعرف تشريعا، ولم يمارس أساليب البيان، في أفانين الكلام، من شعر ونثر، ولا خطابة وفخر، ولا علم وحكم، لا يمكنه أن يأتي من تلقاء نفسه بمثل هذا القرآن المعجز لكم، بل هو يعجز جميع الخلق، حتى الدارسين لكتب الأديان والحكمة والتاريخ أن يأتوا بمثله؟ فكيف تقترحون عليّ أن آتي بقرآن غيره؟ وسيتحداهم في الآية 38 بسورة مثله.

ومما يمتاز به الوحي المحمدي على ما كان قبله أن أكثر أنبياء بني إسرائيل كانوا قبل نبوتهم على شيء من العلم الكسبي- كما بيناه في مباحث الوحي القريبة- وفاتنا فيها التذكير بما أوتي بعضهم من العلم -والحكم الوهبي قبلها أيضا- قال تعالى في موسى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واسْتَوى آتَيْنَاهُ حُكْماً وعِلْماً} [القصص: 14]، وبلوغ الأشد يكون في استكمال الثلاثين، وذكر بعد هذا خروجه إلى مدين، ونزل الوحي عليه في أثناء عودته منها. وكان موسى على علم بشرائع المصريين ومعارفهم أيضا، وقال تعالى في يوسف {ولَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وعِلْماً} [يوسف: 22]، ولم يقل: واستوى، فالظاهر أنه قبل النبوة أيضا، وكان العلم الذي امتاز به يوسف تأويل الأحاديث والرؤى، أي الأخبار بمآلها، وقال في يحيي {وآتيناه الحكم صبيا} [مريم: 12]، ولم ينقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم قبل النبوة علم ولا حكم في الأمور اللهم إلا حكمه في تنازع زعماء قريش عند بنائهم الكعبة: أيهم يضع الحجر الأسود في مكانه من الركن، وكادوا يقتتلون، فطلع عليهم، فقالوا: هذا الأمين نحكمه ونرضى بحكمه: أي لأنه أمين صادق لا يحابي. فحكم بوضعه في ثوب يأخذ سيد كل قبيلة ناحية منه، ثم ارتقى هو إلى موضعه من الركن فرفعوه إليه فوضعه فيه. والخبر من مراسيل السير لم يرد مرفوعا، وأخرجه البيهقي عن ابن شهاب الزهري، وقد عبر عنه بكلمة غلام، وفي السيرة الحلبية أن سنه صلى الله عليه وسلم كانت عند بناء الكعبة خمسا وثلاثين سنة.

هذه حجة عقلية ناهضة، على بطلان شبهتهم الداحضة، التي بنوا عليها مطالبة محمد صلى الله عليه وسلم بالإتيان بقرآن غير هذا القرآن، وقد ظهر لعلماء هذا العصر ما أيد دلالتها العلمية، فإنهم -بما حذقوا علم النفس وأخلاق البشر وطباعهم، وما عرفوا من درجات استعدادهم العلمي والعقلي باستقراء تاريخهم- قد حققوا أن استعداد الإنسان العقلي للعلوم، واستعداده النفسي للنهوض بالأعمال القومية أو العالمية، يظهر كل من الاستعدادين فيه من أوائل نشأته، ويكون في منتهى القوة والظهور بالفعل عند استكمال نموه في العقدين الثاني والثالث من عمره، فإذا بلغ الخامسة والثلاثين ولم يظهر نبوغه في علم من العلوم التي سبق اشتغاله بها، ولا النهوض بعمل من الأعمال العامة التي كان استشرق لها، فإن من المحال أن يظهر منه شيء من هذا أو ذاك من بعدها جديدا آنفا ويكون فيه نابغا ناجحا.

وقد قدمنا في مباحث إثبات (الوحي المحمدي) أن هذا القرآن مشتمل على تمحيص الحقائق في جميع العلوم والمعارف الدينية والتشريعية التي يتوقف عليها صلاح جميع البشر، وأن الرسول الذي أنزله الله عليه قام بتنفيذ هذا الإصلاح بما غير وجه الأرض، وقلب أحوال أكثر أممها فحولها إلى خير منها، وأن ذلك كله كان بعد أربعين سنة قضاها في الأمية. فهذا العلم الجديد الذي أيد حجة القرآن العقلية في هذا العصر له في علوم القرآن نظائر أشرنا إلى بعضها آنفا، وبينا كثيرا منها في تفسيرنا هذا، وهو مما يمتاز به على جميع التفاسير بفضل الله تعالى، وإن كان أكثر المسلمين غافلين عنه تبعا لغفلتهم عن القرآن نفسه، وعدم شعورهم بالحاجة إلى هدايته، بصد دعاة التقليد المعممين إياهم عنه، ومن الغريب أن ترى أساطين المفسرين لم يفهموا من الآية أن فيها جوابا عن الشق الأول من اقتراح المشركين وهو الإتيان بقرآن آخر، وقد هدانا الله تعالى إليه مع برهانه بفضله، وكم ترك الأول للآخر!!

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إنه وحي من الله، وتبليغه لكم أمر من الله كذلك. ولو شاء الله ألا أتلوه عليكم ما تلوته، ولو شاء الله ألا يعلمكم به ما أعلمكم. فالأمر كله لله في نزول هذا القرآن وفي تبليغه للناس. قل لهم هذا. وقل لهم: إنك لبثت فيهم عمرا كاملا من قبل الرسالة. أربعين سنة. فلم تحدثهم بشيء من هذا القرآن. لأنك لم تكن تملكه. لم يكن قد أوحي إليك. ولو كان في استطاعتك عمل مثله أو أجزاء منه فما الذي أقعدك عمرا كاملا؟

ألا إنه الوحي الذي لا تملك من أمره شيئا إلا البلاغ..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وفي هذا الجواب استدلال على أنه مرسل من الله تعالى، وأنه لم يختلق القرآن من عنده بدليلٍ التفَّتْ في مطاويه أدلة، وقد نظم فيه الدليل بانتفاء نقيض المطلوب على إثبات المطلوب، إذ قوله: {لو شاء الله ما تلوته} تقديره لو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوتُه. فإن فعل المشيئة يكثر حذف مفعوله في جملة الشرط لدلالة الجزاء عليه، وإنما بني الاستدلال على عدم مشيئة الله نفي تلاوته لأن ذلك مدَّعى الكفار لزعمهم أنه ليس من عند الله، فكان الاستدلال إبطالاً لدعواهم ابتداء وإثباتاً لدعواه مآلا. وهذا الجمع بين الأمرين من بديع الاستدلال، أي لو شاء الله أن لا آتيكم بهذا القرآن لما أرسلني به ولبقيت على الحالة التي كنت عليها من أول عمري.

والدليل الثاني مطوي هو مقتضى جواب (لو)، فإن جواب (لو) يقتضي استدراكاً مطرداً في المعنى بأن يثبت نقيض الجواب، فقد يُستغنى عن ذكره وقد يذكر، فتقديره هنا: لو شاء الله ما تلوته لكنني تلوته عليكم. وتلاوته هي دليل الرسالة لأن تلاوته تتضمن إعجازه علمياً إذ جاء به من لم يكن من أهل العلم والحكمة، وبلاغياً إذ جاء كلاماً أعجز أهل اللغة كلهم مع تضافرهم في بلاغتهم وتفاوت مراتبهم، وليس من شأن أحد من الخلق أن يكون فائقاً على جميعهم ولا من شأن كلامه أن لا يستطيع مثلَه أحد منهم.

ولذلك فُرعت على الاستدلال جملةُ: {فقد لبثت فيكم عُمراً من قبله أفلا تعقلون} تذكيراً لهم بقديم حاله المعروفة بينهم وهي حال الأمية، أي قد كنت بين ظهرانيكم مدة طويلة، وهي أربعون سنة، تشاهدون أطوار نشأتي فلا ترون فيها حالة تشبه حالة العظمةِ، والكمال المتناهي الذي صار إليه لما أوحَى الله إليه بالرسالة، ولا بلاغة قول واشتهاراً بمقاولة أهل البلاغة والخطابة والشعر تشبه بلاغة القول الذي نطق به عن وحي القرآن، إذ لو كانت حالته بعد الوحي حالاً معتاداً وكانت بلاغة الكلام الذي جاء به كذلك لكان له من المقدمات من حين نشأته ما هو تهيئة لهذه الغاية وكان التخلق بذلك أطواراً وتدرجاً. فلا جرم دل عدم تشابه الحالين على أن هذا الحال الأخير حال رَباني محض، وأن هذا الكلام موحًى إليه من عند الله ليس له بذاته عمل فيه.

فما كان هذا الكلام دليلاً على المشركين وإبطالاً لادعائهم إلا لَما بني على تلاوة القرآن فكان ذكر القرآن في الاستدلال هو مناطه، ثم لما فرع عليه جملة: {فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون} إذ كان تذكيراً لهم بحاله قبل أن يتلو عليهم القرآن ولولا ذانك الأمران لعاد الاستدلال مصادرة، أي استدلالاً بعين الدعوى لأنهم ينهَض لهم أن يقولوا حينئذٍ: ما أرسلك الله إلينا وقد شاء أن لا يرسلك إلينا ولكنك تقولت على الله ما لم يقله.

فهذا بيان انتظام هذا الدليل من هذه الآية. وقد آل الدليل بهذا الوجه إلى الاستدلال عليهم بمعجزة القرآن والأمية. ولكلمة {تلوته} هنا من الوقع ما ليس لغيرها لأنها تتضمن تالياً كلاماً، ومتلواً، وباعثاً بذلك المتلو. فبالأول: تشير إلى معجزة المقدرة على تلاوة الكتاب مع تحقق الأمية لأن أسلوب الكتب الدينية غير الأسلوب الذي عرفه العرب من شعرائهم وخطبائهم.

وبالثاني: تشير إلى القرآن الذي هو معجزة دالة على صدق الآتي به لما فيه من الحقائق والإرشاد الديني الذي هو من شأن أنبياء الأديان وعلمائها، كما قال تعالى: {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون} [العنكبوت: 48، 49]. وبالثالث: تشير إلى أنه كلام من عند الله تعالى، فانتظمت بهذا الاستدلال دلالة صدق النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته عن الله تعالى.

والتلاوة: قراءة المكتوب أو استعراض المحفوظ، فهي مشعرة بإبلاغ كلام من غير المبلِّغ. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {واتَّبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} في سورة [البقرة: 102]، وعند قوله: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} في سورة [الأنفال: 2].