{ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } أي هذا الكتاب وهو القرآن ، وقيل : هذا فيه مضمر ، أي هذا ذلك الكتاب . قال الفراء : كان الله قد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، فلما أنزل القرآن قال : هذا ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أنزله عليك في التوراة والإنجيل وعلى لسان النبيين من قبلك ، وهذا للتقريب وذلك للتبعيد . وقال ابن كيسان : إن الله تعالى أنزل قبل سورة البقرة سوراً كذب بها المشركون ثم أنزل سورة البقرة فقال ذلك الكتاب ، يعنى ما تقدم البقرة من السور لا شك فيه . والكتاب مصدر وهو بمعنى المكتوب ، كما يقال للمخلوق خلق ، وهذا الدرهم ضرب فلان أي مضروبه . وأصل الكتاب : الضم والجمع ، ويقال للجند : كتيبة لاجتماعها ، وسمي الكتاب كتاباً لأنه جمع حرف إلى أحرف .
قوله تعالى : { لا ريب فيه } . أي لا شك فيه ، أنه من عند الله وأنه الحق والصدق ، وقيل هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه لقوله تعالى ( فلا رفث ولا فسوق ) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ، قرأ ابن كثير فيه بالإشباع في الوصل ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يلها ساكن ، ثم إن كان الساكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسرة ياء ، وإن كان غيرها يشبعها بالضم واواً . ووافقه حفص في قوله ( فيه مهاناً ) فأشبعه .
قوله تعالى : { هدى للمتقين } . يدغم الغنة عند اللام والراء أبو جعفر و ابن كثير و حمزة و الكسائي ، زاد حمزة و الكسائي عند الياء ، وزاد حمزة عند الواو ، والآخرون لا يدغمونها ، ويخفي أبو جعفر النون والتنوين عند الخاء والغين ، ( هدى للمتقين ) ، أي هو هدى أي رشد وبيان لأهل التقوى ، وقيل هو نصب على الحال أي هادياً تقديره لا ريب في هدايته للمتقين ، والهدى ما يهتدي به الإنسان ، ( للمتقين ) أي للمؤمنين . قال ابن عباس : المتقي من يتقي الشرك والكبائر والفواحش ، وهو مأخوذ من الاتقاء وأصله الحجز بين الشيئين ومنه يقال اتقى بترسه أي جعله حاجزاً بين نفسه وبين ما يقصده . وفي الحديث : " كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم " أي إذا اشتد الحرب جعلناه حاجزاً بيننا وبين العدو ، فكأن المتقي يجعل امتثال أمر الله والاجتناب عما نهاه حاجزاً بينه وبين العذاب .
قال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار : حدثني عن التقوى ؟ فقال : هل أخذت طريقاً ذا شوك ؟ قال : نعم . قال : فما عملت فيه ؟ قال : حذرت وشمرت ، قال كعب : وذلك التقوى . وقال شهر بن حوشب : المتقي الذي يترك ما لا بأس به حذراً لما به بأس .
وقال عمر بن عبد العزيز : التقوى ترك ما حرم الله ، وأداء ما افترض الله ، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير . وقيل هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم . وفي الحديث : " جماع التقوى في قوله تعالى ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) الآية " وقال ابن عمر : التقوى أن لا ترى نفسك خيراً من أحد . وتخصيص المتقين
وقوله { ذَلِكَ الْكِتَابُ } أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة ، المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم ، والحق المبين . ف { لَا رَيْبَ فِيهِ } ولا شك بوجه من الوجوه .
ونفي الريب عنه ، يستلزم ضده ، إذ ضد الريب والشك اليقين ، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب . وهذه قاعدة مفيدة ، أن النفي المقصود به المدح ، لا بد أن يكون متضمنا لضده ، وهو الكمال ، لأن النفي عدم ، والعدم المحض لا مدح فيه .
فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } والهدى : ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه ، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة . وقال { هُدًى } وحذف المعمول ، فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية ، ولا للشيء الفلاني ، لإرادة العموم ، وأنه هدى لجميع مصالح الدارين ، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية ، ومبين للحق من الباطل ، والصحيح من الضعيف ، ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم ، في دنياهم وأخراهم .
وقال في موضع آخر : { هُدًى لِلنَّاسِ } فعمم . وفي هذا الموضع وغيره { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق . فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا ، ولم يقبلوا هدى الله ، فقامت عليهم به الحجة ، ولم ينتفعوا به لشقائهم ، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر ، لحصول الهداية ، وهو التقوى التي حقيقتها : اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه ، بامتثال أوامره ، واجتناب النواهي ، فاهتدوا به ، وانتفعوا غاية الانتفاع . قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية ، والآيات الكونية .
ولأن الهداية نوعان : هداية البيان ، وهداية التوفيق . فالمتقون حصلت لهم الهدايتان ، وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق . وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها ، ليست هداية حقيقية [ تامة ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.