الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ذلك الكتاب}، بمعنى هذا الكتاب، {لا ريب فيه}، يعني لا شك فيه أنه من الله جاء، وهو أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال: هذا القرآن {هدى} من الضلالة {للمتقين} من البشر.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ}

قال عامة المفسرين: تأويل قول الله تعالى:"ذَلِكَ الكِتَابُ": هذا الكتاب...

فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون «ذلك» بمعنى «هذا»؟ و«هذا» لا شك إشارة إلى حاضر معاين، و«ذلك» إشارة إلى غائب غير حاضر ولا معاين؟ قيل: جاز ذلك لأن كل ما تقضّى وقَرُب تقضيه من الأخبار فهو وإن صار بمعنى غير الحاضر، فكالحاضر عند المخاطب وذلك كالرجل يحدّث الرجل الحديث، فيقول السامع: إن ذلك والله لكما قلت، وهذا والله كما قلت، وهو والله كما ذكرت. فيخبر عنه مرة بمعنى الغائب إذ كان قد تقضّى ومضى، ومرة بمعنى الحاضر لقرب جوابه من كلام مخبره كأنه غير منقضٍ، فكذلك ذلك في قوله: (ذَلِكَ الكِتابُ) لأنه جل ذكره لما قدم قبل (ذلك الكتاب) (الم) التي ذكرنا تصرّفها في وجوهها من المعاني على ما وصفنا، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد هذا الذي ذكرته وبينته لك الكتابُ. ولذلك حسن وضع «ذلك» في مكان «هذا»، لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمنه قوله: (الم) من المعاني بعد تقضي الخبر عنه بألم، فصار لقرب الخبر عنه من تقضيه كالحاضر المشار إليه، فأخبر عنه بذلك لانقضائه ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب. وترجمه المفسرون أنه بمعنى «هذا» لقرب الخبر عنه من انقضائه، فكان كالمشاهد المشار إليه بهذا نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم...

وقد يحتمل قوله جل ذكره: (ذَلِكَ الكِتَابُ) أن يكون معنيا به السور التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة، فكأنه قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد اعلم أن ما تضمنته سور الكتاب التي قد أنزلتها إليك هو الكتاب الذي لا ريب فيه. ثم ترجمه المفسرون بأن معنى «ذلك»: «هذا الكتاب»، إذ كانت تلك السور التي نزلت قبل سورة البقرة من جملة جميع كتابنا هذا الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون لأن ذلك أظهر معاني قولهم الذي قالوه في ذلك... "لا رَيْبَ فِيهِ": لا شك فيه...

"هُدًى"... عن الشعبي: هُدًى قال: هدى من الضلالة...

عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (هُدًى للمتّقِينَ) يقول: نور للمتقين.

والهدى في هذا الموضع مصدر من قولك: هديت فلانا الطريق إذا أرشدته إليه، ودللته عليه، وبينته له، أهديه هُدًى وهداية.

فإن قال لنا قائل: أو ما كتاب الله نورا إلا للمتقين ولا رشادا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه ربنا عز وجل، ولو كان نورا لغير المتقين، ورشادا لغير المؤمنين لم يخصص الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدى، بل كان يعم به جميع المنذرين ولكنه هدى للمتقين، وشفاء لما في صدور المؤمنين، ووَقْرٌ في آذان المكذّبين، وعمى لأبصار الجاحدين، وحجة لله بالغة على الكافرين فالمؤمن به مهتد، والكافر به محجوج...

"للْمُتّقِينَ"... عن الحسن قوله: (للْمُتّقِينَ) قال: اتقوا ما حرم عليهم وأدّوا ما افترض عليهم...

عن ابن عباس: (للْمُتّقِينَ) أي الذين يحذرون من الله عز وجل عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء به...

عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (هُدى للْمُتّقِينَ) قال: هم المؤمنون...

عن قتادة: (هُدًى للْمُتّقِينَ) هم مَنْ نعتهم ووصفهم فأثبت صفتهم فقال: (الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ ومِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)...

عن ابن عباس: (للْمُتّقِين) قال: المؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي.

وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه: (هُدًى للْمُتّقينَ) تأويل من وصف القوم بأنهم الذين اتقوا الله تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه، فتجنبوا معاصيه واتقوه فيما أمرهم به من فرائضه فأطاعوه بأدائها. وذلك أن الله عز وجل إنما وصفهم بالتقوى فلم يحصر تقواهم إياه على بعضها من أهل منهم دون بعض. فليس لأحد من الناس أن يحصر معنى ذلك على وصفهم بشيء من تقوى الله عز وجل دون شيء إلا بحجة يجب التسليم لها، لأن ذلك من صفة القوم لو كان محصورا على خاصّ من معاني التقوى دون العام منها لم يَدَع الله جل ثناؤه بيان ذلك لعباده، إما في كتابه، وإما على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذْ لم يكن في العقل دليل على استحالة وصفهم بعموم التقوى.

فقد تبين إذا بذلك فساد قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو: الذين اتقوا الشرك وبرءوا من النفاق، لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق غير مستحق أن يكون من المتقين. إلا أن يكون عند قائل هذا القول معنى النفاق ركوب الفواحش التي حرمها الله جل ثناؤه وتضييع فرائضه التي فرضها عليه، فإن جماعة من أهل العلم قد كانت تسمي من كان يفعل ذلك منافقا، فيكون وإن كان مخالفا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم مصيبا تأويل قول الله عز وجل للمتقين.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

أصل الاتقاء الحجز بين الشيئين؛ ومنه اتقاه بالترس لأنه جعله حاجزا بينه وبينه، واتقاه بحق كذلك، ومنه الوقاية لأنها تحجز بين الرأس والأذى.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

كأن المتقي يجعل امتثال أمر الله والاجتناب عن نهيه حاجزا بينه وبين العذاب، فيتحرز بطاعة الله عن عقوبة الله.

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

تخصيص المتقين بالذكر تشريف لهم، أو لأنهم هم المنتفعون بالهدى.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... الريب: مصدر رابني، إذا حصل فيك الريبة. وحقيقة الريبة: قلق النفس واضطرابها. ومنه ما روى الحسن بن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة، وإنّ الصدق طمأنينة».

{فِيهِ هُدًى} الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية، بدليل وقوع الضلالة في مقابلته. قال الله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 24]...

ويقال: مهدي، في موضع المدح كمهتد؛ ولأن اهتدى مطاوع هدى، ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله...والمتقي في اللغة اسم فاعل، من قولهم: وقاه فاتقى. والوقاية: فرط الصيانة. ومنه: فرس واق، وهذه الدابة تقي من وجاها، إذا أصابه ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه.

وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. واختلف في الصغائر، وقيل الصحيح أنه لا يتناولها، لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر...

والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن... يقال إن قوله: {الم} جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها. و {ذلك الكتاب} جملة ثانية. و {لاَ رَيْبَ فِيهِ} ثالثة. و {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} رابعة. وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم؛ حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض؛ فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة. بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدّى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. فكان تقريراً لجهة التحدي، وشدّاً من أعضاده. ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلاً بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لبعض العلماء: فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر اتضاحاً، وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرّر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم لم تخل كل واحدة من الأربع، بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا النظم السري، من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه. وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة. وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف. وفي الرابعة الحذف. ووضع المصدر الذي هو {هُدًى} موضع الوصف الذي هو «هاد» وإيراده منكراً. والإيجاز في ذكر المتقين.

زادنا الله إطلاعاً على أسرار كلامه، وتبييناً لنكت تنزيله، وتوفيقاً للعمل بما فيه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قوله تعالى {لا ريب فيه}، فيه مسألتان:

المسألة الأولى: الريب قريب من الشك، وفيه زيادة، كأنه ظن سوء؛ تقول رابني أمر فلان إذا ظننت به سوء، ومنها قوله عليه السلام «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»...

فقوله تعالى {لا ريب فيه} المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شبهة في صحته، ولا في كونه من عند الله، ولا في كونه معجزا. ولو قلت: المراد لا ريب في كونه معجزا على الخصوص كان أقرب؛ لتأكيد هذا التأويل بقوله {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا}...

المسألة الثانية: الوقف على {فيه} هو المشهور، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على {لا ريب}...واعلم أن القراءة الأولى أولى؛ لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى، والله أعلم.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

...وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبيا عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم: قال فما عملت فيه؟ قال: تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى.

... التقوى فيها جماع الخير كله، وهي وصية الله في الأولين والآخرين، وهي خير ما يستفيده الإنسان...

التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :

في درجات التقوى وهي خمس: أن يتقي العبد الكفر وذلك مقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي والحرمات وهو مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات وهو مقام الورع، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد، وأن يتقي حضور غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان معنى {الم} هذا كتاب من جنس حروفكم التي قد فقتم في التكلم بها سائر الخلق، فما عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله إلا لأنه كلام الله، أنتج ذلك كماله، فأشير إليه بأداة البعد ولام الكمال في قوله: {ذلك الكتاب} لعلو مقداره بجلالة آثاره، وبعد رتبته عن نيل المطرودين. ولما علم كماله أشار إلى تعظيمه بالتصريح بما ينتجه ويستلزمه ذلك التعظيم فقال {لا ريب فيه} أي في شيء من معناه ولا نظمه في نفس الأمر عند من تحقق بالنظر، فالمنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له، ولم يقدم الظرف لأنه كان يفيد الاختصاص فيفهم أن غيره من الكتب محل الريب.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{ذلك الكتاب} الكتاب بمعنى المكتوب، وهو اسم جنس لما يكتب، والمراد بالكتاب هذه الرقوم والنقوش ذات المعاني. والإشارة تفيد التعيين الشخصي أو النوعي. وليس المراد هنا نوعا من أنواع الكتب، بل المراد كتاب معروف معهود للنبي صلى الله عليه وسلم بوصفه. وذلك العهد مبني على صدق الوعد من الله بأنه يؤيده بكتاب تام كامل كافل لطلاب الحق بالهداية والإرشاد، في جميع شؤون المعاش والمعاد. فأشار بذلك إليه. ولا يضر أنه لم يكن موجودا كله وقت نزوله أمثال هذه الإشارة، فقد يكفي في صحتها وجود البعض. وقد كان نزل من القرآن جملة عظيمة قبل نزول أول هذه السورة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابتها فكتبت وحفظت، فالإشارة إليها إشارة إليه بل يكفي في صحة الإشارة أن يشار إلى سورة البقرة نفسها لأنه يصح فيها وصف {هدى للمتقين} والأول أشبه، والإشارة إلى الكتاب كله عند نزول بعضه إشارة إلى أن الله تعالى منجز وعده للنبي صلى الله عليه وسلم بإكمال الكتاب كله.

ومن حكمة الإشارة إليه بهذا الكتاب (أي المكتوب المرقوم) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتابته دون غيره، فهو الكتاب وحده، ولا يضر أنه عند النزول لم يكن مكتوبا بالفعل... والإشارة البعيدة بالكاف يراد بها بعد مرتبته في الكمال: وعلوها عن متناول قريحة شاعر أو مقول خطيب قوال، والبعد والقرب في الخطاب الإلهي إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين، ولا يقال: إن شيئا بعيدا عنه تعالى أو قريبا منه في المكان الحسي لأن كل الأشياء بالنسبة إليه تعالى سواء. وإنما القرب منه والبعد عنه تعالى معنوي وهو أقرب إلينا من أنفسنا بعلمه.

{لا ريب فيه} الريب والريبة: الشك والظنة (التهمة) والمعنى: أن ذلك الكتاب مبرأ من وصمات العيب فلا شك فيه، ولا ريبة تعتريه، لا من جهة كونه من عند الله تعالى، ولا في كونه هاديا مرشدا، ويصح أن يقال: إنه في قوة آياته، ونصوع بيناته، بحيث لا يرتاب عاقل منصف، غير متعنت ولا متعسف، في كونه هداية مفاضة من سماه الحق، مهداة إلى الخلق، على لسان أمي لم يسبق له قبله الاشتغال بشيء من علومه، ولا الإتيان بكلام يقرب منه في بلاغته، ولا في أسلوبه حتى بعد نبوته، -ولهذا قال فيما يأتي قريبا {22 وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} وحاصله: أنه كذلك في كل من نظمه وأسلوبه وبلاغته، ومن معانيه وعلومه وتأثيره في الهداية – لا يمكن أن توجه إليه الشبهة، أو تحوم حوله الريبة، سواء أشك في ذلك أحد بجهالته وعمى بصيرته – أو بتكلفه ذلك عنادا أو تقليدا – أم لا.

{هدى للمتقين}... والمراد بالهداية هنا الدلالة على الصراط المستقيم مع المعونة الخاصة والأخذ باليد على ما تقدم في تفسير المراد من {اهدنا الصراط} لأن كونه هاديا للمتقين بالفعل غير كونه هاديا – دالا – سائر الناس من غير مراعاة أخذهم بدلالته، واستقامتهم على طريقته، وكلمة "المتقين "من الاتقاء والاسم التقوى وأصل المادة: وقى يقي. والوقاية معروفة المعنى، وهو البعد أو التباعد عن المضر أو مدافعته، ولكن نجد هذا الحرف مستعملا بالنسبة إلى الله تعالى كقوله {فإياي فاتقون – واتقوا الله – واتقون يا أولي الألباب لعلكم تفلحون} فمعنى اتقاء الله تعالى اتقاء عذابه وعقابه، وإنما تضاف التقوى إلى الله تعالى تعظيما لأمر عذابه وعقابه، وإلا فلا يمكن لأحد أن يتقي ذات الله تعالى ولا تأثير قدرته، ولا الخضوع الفطري لمشيئته...

إن العقاب الإلهي الذي يجب على الناس اتقاؤه قسمان: دنيوي وأخروي: وكل منهما يتقى باتقاء أسبابه، وهي نوعان:

مخالفة دين الله وشرعه.

ومخالفة سننه في نظام خلقه.

فأما عقاب الآخرة فيتقى بالإيمان الصحيح، والتوحيد الخالص، والعمل الصالح، واجتناب ما ينافي ذلك من الشرك والكفر والمعاصي والرذائل، وذلك مبين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم...

وأما عقاب الدنيا فيجب أن يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله تعالى في هذا العالم، ولا سيما سنن اعتدال المزاج وصحة الأبدان... وسنن الاجتماع البشري، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال يتوقف على معرفة نظام الحرب وفنونه، وإتقان آلاتها وأسلحتها... كما يتوقف على أسباب القوة المعنوية من اجتماع الكلمة واتحاد الأمة والصبر والثبات والتوكل على الله واحتساب الأجر عنده {8: 45 يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون 46 وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(ذلك الكتاب لا ريب فيه.. هدى للمتقين)..

الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى كيانه، والهدى ماهيته.. ولكن لمن؟ لمن يكون ذلك الكتاب هدى ونورا ودليلا ناصحا مبينا؟.. للمتقين.. فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب. هي التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك. هي التي تهيء لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب...

لا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم. بقلب خالص. ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى، ويحذر أن يكون على ضلالة، أو أن تستهويه ضلالة.. وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقيا، خائفا، حساسا، مهيأ للتلقي...

التقوى.. حساسية في الضمير، وشفافية في الشعور، وخشية مستمرة، وحذر دائم، وتوق لأشواك الطريق.. طريق الحياة.. الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات، وأشواك المطامع والمطامح، وأشواك المخاوف والهواجس، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء، والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعا ولا ضرا. وعشرات غيرها من الأشواك!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والهدى الشرعي هو: الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل. وأثر هذا الهدى هو الاهتداء، فالمتقون يهتدون بهديه والمعاندون لا يهتدون.

...وفي بيان كون القرآن هدى وكيفية صفة المتقي معان ثلاثة:

الأول: أن القرآن هدى في زمن الحال لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل وزمن الحال هو الأصل في اسم الفاعل والمراد حال النطق. والمتقون هم المتقون في الحال أيضاً لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال كما قلنا...

الثاني: أنه هدى في الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب، فيكون المراد من المتقين من كانت التقوى شعارهم أي إن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا...

الثالث: أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل، وتُعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في {هدى} لأن المصدر لا يدل على زمان معين.

حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل، لو وُصف باسم الفاعل فقيل هادٍ للمتقين...

فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم، ومبالغ علمهم، واختلاف مطالبهم، فمن منتفع بهديه في الدين، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين، وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}

... القول بأنه الكتاب، تمييز له عن كل كتب الدنيا، وتمييز له عن كل الكتب السماوية التي نزلت قبل ذلك، فالقرآن هو الكتاب الجامع لكل أحكام السماء، منذ بداية الرسالات حتى يوم القيامة...

والقرآن هو الكتاب، لأنه لن يصل إليه أي تحريف أو تبديل، فرسالات السماء السابقة ائتمن الله البشر عليها، فنسوا بعضها، وما لم ينسوه حرفوه، وأضافوا إليه من كلام البشر، ما نسبوه إلى الله سبحانه وتعالى ظلما وبهتانا، ولكن القرآن الكريم محفوظ من الخالق الأعلى، مصداقاً لقوله تعالى:

{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (سورة الحجر "9 ").

...فالقرآن نزل ليفرق بين الحق الذي جاءت به الكتب السابقة، وبين الباطل الذي أضافه أولئك الذي ائتمنوا عليها.

... وحتى نفهم المنطلق الذي نأخذ منه قضايا الدين، والتي سيكون دستورنا في الحياة، فلابد أن نعرف ما هو الهدى ومن هم المتقون؟

الهدى هو: الدلالة على طريق يوصلك إلى ما تطلبه. فالإشارات التي تدل المسافر على الطريق هي هدى له لأنها تبين له الطريق الذي يوصله إلى المكان الذي يقصده.. والهدى يتطلب هاديا ومهديا وغاية تريد أن تحققه. فإذا لم يكن هناك غاية أو هدف فلا معنى لوجود الهدى لأنك لا تريد أن تصل إلى شيء.. وبالتالي لا تريد من أحد أن يدلك على طريق.

إذن لابد أن نوجد الغاية أولا ثم نبحث عمن يوصلنا إليها.

وهنا نتساءل من الذي يحدد الهدف ويحدد لك الطريق للوصول إليه؟ إذا أخذنا بواقع حياة الناس فإن الذي يحدد لك الهدف لابد أن تكون واثقا من حكمته.. والذي يحدد لك الطريق لابد أن يكون له من العلم ما يستطيع به أن يدلك على أقصر الطرق لتصل إلى ما تريد...

إذن فكلنا محتاجون إلي كامل العلم والحكمة ليرسم لنا طرق حياتنا.. وأن يكون قادرا على كل شيء، ومالكا لكل شيء، والكون خاضعا لإرادته حتى نعرف يقينا أن ما نريده سيتحقق، وأن الطريق الذي سنسلكه سيوصلنا إلي ما نريده. وينبهنا الله سبحانه وتعالى إلى هذه القضية فيقول:

{قل إن هدى الله هو الهدى} (من الآية 120سورة البقرة).

إن الله يريد أن يلفت خلقه إلى أنهم إذا أرادوا أن يصلوا إلى الهدف الثابت الذي لا يتغير فليأخذوه عن الله. وإذا أرادوا أن يتبعوا الطريق الذي لا توجد فيه أي عقبات أو متغيرات.. فليأخذوا طريقهم عن الله تبارك وتعالى.. إنك إذا أردت باقيا.. فخذ من الباقي، وإذا أردت ثابتا.. فخذ من الثابت

...ذلك أن من وضع القوانين من البشر له هدف يريد أن يحققه، ولكن الله جل جلاله لا هوى له.. فإذا أردت أن تحقق سعادة في حياتك، وأن تعيش آمنا مطمئنا.. فخذ الهدف عن الله، وخذ الطريق عن الله. فإن ذلك ينجيك من قلق متغيرات الحياة التي تتغير وتتبدل. والله قد حدد لخلقه ولكل ما في كونه أقصر طريق لبلوغ سعادته. والذين لا يأخذون هذا الطريق يتعبون أنفسهم ويتعبون مجتمعهم ولا يحققون شيئا.

إذن فالهدف يحققه الله لك، والطريق يبينه الله لك.. وما عليك إلا أن تجعل مراداتك في الحياة خاضعة لما يريده الله.