{ ذَلِكَ } : قرأت العامة { ذلك } بفتح الذال ، وكذلك هذه وهاتان ، وأجاز أبو عمرو الإمالة في هذه ، ( ذ ) للاسم ، واللام عماد ، والكاف خطاب ، وهو إشارة إلى الغائب .
و { الْكِتَابُ } : بمعنى المكتوب كالحساب والعماد .
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفةً *** أتتك من الحجج تتلى كتابها
أو مكتوبها ، فوضع المصدر موضع الاسم ، كما يقال للمخلوق خلق ، وللمصور تصوير ، وقال : دراهم من ضرب الأمير ، أي هي مضروبة ، وأصله من الكتب ، وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض ، مأخوذ من قولهم : كتب الخرز ، إذا خرزته قسمين ، ويقال للخرز كتبة وجمعها كتب .
وفراء غرفية أثاي خوارزها *** مشلشل ضيعته فبينها الكتب
ويقال : كتبت البغل ، إذا حرمت من سفرتها الخلقة ، ومنه قيل للجند كتيبة ، وجمعها كتائب .
وكتيبة جاءوا ترفل *** في الحديد لها ذخرٌ
واختلفوا في هذا { الْكِتَابُ } قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك ومقاتل : هو القرآن ، وعلى هذا القول يكون ( ذلك ) بمعنى ( هذا ) كقول الله تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ } [ الأنعام : 83 ] أي هذه .
إن تك خيلي قد أُصيب صميمها *** فعمداَ على عين تيممت مالكا
أقول له الرمح يأطر متنه *** تأمل خفافاً إنني أنا ذالكا
وروى أبو الضحى عن ابن عباس قال : معناه ذلك الكتاب الذي أخبرتك أن أوجّه إليك .
وقال عطاء بن السائب : { ذَلِكَ الْكِتَابُ } الذي وعدتكم يوم الميثاق .
وقال يمان بن رئاب : { ذَلِكَ الْكِتَابُ } الذي ذكرته في التوراة والإنجيل .
وقال سعيد بن جبير : هو اللوح المحفوظ .
عكرمة : هو التوراة والإنجيل والكتب المتقدمّة .
وقال الفراء : إنّ الله تعالى وعد نبيه أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يَخْلَق على كثرة الردّ ، فلمّا أنزل القرآن قال : هو الكتاب الذي وعدتك .
وقال ابن كيسان : تأويله أنّ الله تعالى أنزل قبل البقرة بضع عشرة سورة كذّب بكلهّا المشركون ثم أنزل سورة البقرة بعدها فقال : { ذَلِكَ الْكِتَابُ } يعني ما تقدم البقرة من القرآن .
وقيل : ذلك الكتاب الذي كذب به مالك بن الصيف اليهودي . { لاَ رَيْبَ فِيهِ } : لا شكّ فيه ، إنّه من عند الله .
قال : { هُدَى } : أي هو هدىً ، وتم الكلام عند قوله فيه ، وقيل : " هو " نصب على الحال ، أي هادياً تقديره لا ريب في هدايته للمتقين .
قال أهل المعاني : ظاهره نفي وباطنه نهي ، أي لا ترتابوا فيه ، كقوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ } [ البقرة : 197 ] : أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الهدى ، والبيان وما يهتدي به ويستبين به الإنسان .
فصل في التقوى { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } : اعلم أنّ التقوى أصله وقى من وقيت ، فجعلت الواو تاء ، كالتكلان فأصله وكلان من وكلت ، والتخمة أصلها وخمة من وخم معدته إذا لم يستمرئ .
واختلف العلماء في معنى التقوى وحقيقة المتقي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جماع التقوى في قول الله تعالى : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ . . . } الآية " [ النحل : 90 ] .
قال ابن عباس : المتقي الذي يتقي الشرك والكبائر والفواحش .
وقال ابن عمر : التقوى أن لا يرى [ نفسه ] خيراً من أحد .
وقال الحسن : المتقي الذي يقول لكل من رآه هذا خيرٌ مني .
وقال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار : حدِّثني عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقاً ذا شوك ؟ قال : نعم ، وقال : فما عملت فيه ؟ قال : حذرت وتشمّرت ، فقال كعب : ذلك التقوى ، ونظمه ابن المعتز فقال :
خلّ الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التقى
واضع كماش فوق أر *** ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحتقرنّ صغيرة *** إنّ الجبال من الحصا
وقال عمر بن عبد العزيز : ليس التقوى قيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ، ولكن التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله ، فما رزق بعد ذلك فهو خير على خير .
وقيل لطلق بن حبيب : أجمل لنا التقوى ؟ فقال : التقوى عمل يطلبه الله على نور من الله رجاء ثواب الله ، والتقوى ترك معصية الله على نور من الله مخافة عقاب الله .
وقال بكر بن عبد الله : لا يكون الرجل تقياً حتى يكون يتقي الطمع ، ويتقي الغضب .
وقال عمر بن عبد العزيز : المتقي لمحرم لا تحرم ، يعني في الحرم .
وقال شهر بن حوشب : المتقي الذي يترك مالا يأتمن به حذراً لما به بأس .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : إنّما سمي المتقون ؟ لتركهم ما لا بأس به حذراً للوقوع فيما به بأس .
وقال سفيان الثوري والفضيل : هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه .
وقال الجنيد بن محمد : ليس المتقي الذي يحب للناس ما يحب لنفسه ، إنّما المتقي الذي يحب للناس أكثر مما يحب لنفسه ، أتدرون ما وقع لأستاذي سري بن المفلّس ؟ سلّم عليه ذات يوم صديق له فردّ عليه ، وهو عابس لم يبشَّ له ، فقلت له في ذلك فقال : بلغني أنّ المرء المسلم إذا سلّم على أخيه وردّ عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة ، فتسعون لأجلهما ، وعشرة للآخر فأحببت أنْ يكون له التسعون .
محمد بن علي الترمذي : هو الذي لا خصم له .
السري بن المفلّس : هو الذي يبغض نفسه .
الشبلي : هو الذي يبغي ما دون الله .
قال جعفر الصادق : أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد :ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل
الثوري : هو الذي اتّقى الدنيا وأقلها .
محمد بن يوسف المقري : مجانبة كل ما يبعدك عن الله .
القاسم بن القاسم : المحافظة على آداب الشريعة .
وقال أبو زيد : هو التورّع عن جميع الشبهات .
وقال أيضاً : المتقي من إذا قال قال لله ، وإذا سكت سكت لله ، وإذا ذكر ذكر لله تعالى .
الفضيل : يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوّه كما يأمنه صديقه .
وقال سهل : المتقي من تبرّأ من حوله وقوّته .
وقال : التقوى أنْ لا يراك الله حيث نهاك ، ولا يفقدك من حيث أمرك .
وقيل : هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل : هو أن تتقي بقلبك عن الغفلات ، وبنفسك من الشهوات ، وبحلقك من اللذات ، وبجوارحك من السيئات ، فحينئذ يرجى لك الوصول لما ملك الأرض والسماوات .
أبو القاسم ( حكيم ) : هو حسن الخلق .
وقال بعضهم : يستدل على تقوى الرجل بثلاث : بحسن التوكّل فيما لم ينل ، وحسن الرضا فيما قد نال ، وحسن الصبر على ما فات .
وقيل : المتقي من اتّقى متابعة هواه .
وقال مالك : حدثنا وهب بن كيسان أنّ بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد الله بن الزبير أنّ لأهل التقى علامات يعرفون بها : الصبر عند البلاء ، والرضا بالقضاء ، والشكر عند النعمة ، والتذلل لأحكام القرآن .
وقال ميمون بن مهران : لا يكون الرجل تقياً حتى يكون أشدّ محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر .
وقال أبو تراب : بين يدي التقوى عقبات ، من لا يجاوزها لا ينالها ، اختيار الشدة على النعمة ، واختيار القول على الفضول ، واختيار الذلّ على العزّ ، واختيار الجهد على الراحة ، واختيار الموت على الحياة .
وقال بعض الحكماء : لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلاّ إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق ، فيطاف به في السوق لم يستحي من شيء عليها .
وقيل : التقوى أن تزيّن سرّك للحقّ ، كما تزيّن علانيتك للخلق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.