الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

{ ذَلِكَ } : قرأت العامة { ذلك } بفتح الذال ، وكذلك هذه وهاتان ، وأجاز أبو عمرو الإمالة في هذه ، ( ذ ) للاسم ، واللام عماد ، والكاف خطاب ، وهو إشارة إلى الغائب .

و { الْكِتَابُ } : بمعنى المكتوب كالحساب والعماد .

قال الشاعر :

بشرت عيالي إذ رأيت صحيفةً *** أتتك من الحجج تتلى كتابها

أو مكتوبها ، فوضع المصدر موضع الاسم ، كما يقال للمخلوق خلق ، وللمصور تصوير ، وقال : دراهم من ضرب الأمير ، أي هي مضروبة ، وأصله من الكتب ، وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض ، مأخوذ من قولهم : كتب الخرز ، إذا خرزته قسمين ، ويقال للخرز كتبة وجمعها كتب .

قال ذو المرّجة :

وفراء غرفية أثاي خوارزها *** مشلشل ضيعته فبينها الكتب

ويقال : كتبت البغل ، إذا حرمت من سفرتها الخلقة ، ومنه قيل للجند كتيبة ، وجمعها كتائب .

قال الشاعر :

وكتيبة جاءوا ترفل *** في الحديد لها ذخرٌ

واختلفوا في هذا { الْكِتَابُ } قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك ومقاتل : هو القرآن ، وعلى هذا القول يكون ( ذلك ) بمعنى ( هذا ) كقول الله تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ } [ الأنعام : 83 ] أي هذه .

وقال خفاف بن ندبه السلمي :

إن تك خيلي قد أُصيب صميمها *** فعمداَ على عين تيممت مالكا

أقول له الرمح يأطر متنه *** تأمل خفافاً إنني أنا ذالكا

يريد ( هذا ) .

وروى أبو الضحى عن ابن عباس قال : معناه ذلك الكتاب الذي أخبرتك أن أوجّه إليك .

وقال عطاء بن السائب : { ذَلِكَ الْكِتَابُ } الذي وعدتكم يوم الميثاق .

وقال يمان بن رئاب : { ذَلِكَ الْكِتَابُ } الذي ذكرته في التوراة والإنجيل .

وقال سعيد بن جبير : هو اللوح المحفوظ .

عكرمة : هو التوراة والإنجيل والكتب المتقدمّة .

وقال الفراء : إنّ الله تعالى وعد نبيه أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يَخْلَق على كثرة الردّ ، فلمّا أنزل القرآن قال : هو الكتاب الذي وعدتك .

وقال ابن كيسان : تأويله أنّ الله تعالى أنزل قبل البقرة بضع عشرة سورة كذّب بكلهّا المشركون ثم أنزل سورة البقرة بعدها فقال : { ذَلِكَ الْكِتَابُ } يعني ما تقدم البقرة من القرآن .

وقيل : ذلك الكتاب الذي كذب به مالك بن الصيف اليهودي . { لاَ رَيْبَ فِيهِ } : لا شكّ فيه ، إنّه من عند الله .

قال : { هُدَى } : أي هو هدىً ، وتم الكلام عند قوله فيه ، وقيل : " هو " نصب على الحال ، أي هادياً تقديره لا ريب في هدايته للمتقين .

قال أهل المعاني : ظاهره نفي وباطنه نهي ، أي لا ترتابوا فيه ، كقوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ } [ البقرة : 197 ] : أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الهدى ، والبيان وما يهتدي به ويستبين به الإنسان .

فصل في التقوى { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } : اعلم أنّ التقوى أصله وقى من وقيت ، فجعلت الواو تاء ، كالتكلان فأصله وكلان من وكلت ، والتخمة أصلها وخمة من وخم معدته إذا لم يستمرئ .

واختلف العلماء في معنى التقوى وحقيقة المتقي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جماع التقوى في قول الله تعالى : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ . . . } الآية " [ النحل : 90 ] .

قال ابن عباس : المتقي الذي يتقي الشرك والكبائر والفواحش .

وقال ابن عمر : التقوى أن لا يرى [ نفسه ] خيراً من أحد .

وقال الحسن : المتقي الذي يقول لكل من رآه هذا خيرٌ مني .

وقال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار : حدِّثني عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقاً ذا شوك ؟ قال : نعم ، وقال : فما عملت فيه ؟ قال : حذرت وتشمّرت ، فقال كعب : ذلك التقوى ، ونظمه ابن المعتز فقال :

خلّ الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التقى

واضع كماش فوق أر *** ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحتقرنّ صغيرة *** إنّ الجبال من الحصا

وقال عمر بن عبد العزيز : ليس التقوى قيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ، ولكن التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله ، فما رزق بعد ذلك فهو خير على خير .

وقيل لطلق بن حبيب : أجمل لنا التقوى ؟ فقال : التقوى عمل يطلبه الله على نور من الله رجاء ثواب الله ، والتقوى ترك معصية الله على نور من الله مخافة عقاب الله .

وقال بكر بن عبد الله : لا يكون الرجل تقياً حتى يكون يتقي الطمع ، ويتقي الغضب .

وقال عمر بن عبد العزيز : المتقي لمحرم لا تحرم ، يعني في الحرم .

وقال شهر بن حوشب : المتقي الذي يترك مالا يأتمن به حذراً لما به بأس .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : إنّما سمي المتقون ؟ لتركهم ما لا بأس به حذراً للوقوع فيما به بأس .

وقال سفيان الثوري والفضيل : هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه .

وقال الجنيد بن محمد : ليس المتقي الذي يحب للناس ما يحب لنفسه ، إنّما المتقي الذي يحب للناس أكثر مما يحب لنفسه ، أتدرون ما وقع لأستاذي سري بن المفلّس ؟ سلّم عليه ذات يوم صديق له فردّ عليه ، وهو عابس لم يبشَّ له ، فقلت له في ذلك فقال : بلغني أنّ المرء المسلم إذا سلّم على أخيه وردّ عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة ، فتسعون لأجلهما ، وعشرة للآخر فأحببت أنْ يكون له التسعون .

محمد بن علي الترمذي : هو الذي لا خصم له .

السري بن المفلّس : هو الذي يبغض نفسه .

الشبلي : هو الذي يبغي ما دون الله .

قال جعفر الصادق : أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد :ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

الثوري : هو الذي اتّقى الدنيا وأقلها .

محمد بن يوسف المقري : مجانبة كل ما يبعدك عن الله .

القاسم بن القاسم : المحافظة على آداب الشريعة .

وقال أبو زيد : هو التورّع عن جميع الشبهات .

وقال أيضاً : المتقي من إذا قال قال لله ، وإذا سكت سكت لله ، وإذا ذكر ذكر لله تعالى .

الفضيل : يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوّه كما يأمنه صديقه .

وقال سهل : المتقي من تبرّأ من حوله وقوّته .

وقال : التقوى أنْ لا يراك الله حيث نهاك ، ولا يفقدك من حيث أمرك .

وقيل : هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .

وقيل : هو أن تتقي بقلبك عن الغفلات ، وبنفسك من الشهوات ، وبحلقك من اللذات ، وبجوارحك من السيئات ، فحينئذ يرجى لك الوصول لما ملك الأرض والسماوات .

أبو القاسم ( حكيم ) : هو حسن الخلق .

وقال بعضهم : يستدل على تقوى الرجل بثلاث : بحسن التوكّل فيما لم ينل ، وحسن الرضا فيما قد نال ، وحسن الصبر على ما فات .

وقيل : المتقي من اتّقى متابعة هواه .

وقال مالك : حدثنا وهب بن كيسان أنّ بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد الله بن الزبير أنّ لأهل التقى علامات يعرفون بها : الصبر عند البلاء ، والرضا بالقضاء ، والشكر عند النعمة ، والتذلل لأحكام القرآن .

وقال ميمون بن مهران : لا يكون الرجل تقياً حتى يكون أشدّ محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر .

وقال أبو تراب : بين يدي التقوى عقبات ، من لا يجاوزها لا ينالها ، اختيار الشدة على النعمة ، واختيار القول على الفضول ، واختيار الذلّ على العزّ ، واختيار الجهد على الراحة ، واختيار الموت على الحياة .

وقال بعض الحكماء : لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلاّ إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق ، فيطاف به في السوق لم يستحي من شيء عليها .

وقيل : التقوى أن تزيّن سرّك للحقّ ، كما تزيّن علانيتك للخلق .

وقال أبو الدرداء :

يريد المرء أنْ يعطى مناه *** ويأبى الله إلاّ ما أرادا

يقول المرء فائدتي وذخري *** وتقوى الله أفضل ما استفادا