السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

{ ذلك الكتاب } الذي تقرؤه يا محمد على الناس { لا ريب فيه } لا شك في أنه من عند الله تعالى .

فإن قيل : لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد ؟ أجيب : بأن الإشارة وقعت فيه للتعظيم ولذلك قال الطيبي : أحسن ما قيل في توجيه ذلك قول صاحب «المفتاح » قال ذلك الكتاب ذهاباً إلى بعده درجة وقيل : وقعت الإشارة إلى { ألم } بعدما سبق التكلم به وتقضى ، والمنقضي في حكم المتباعد ، وهذا في كل كلام يحدّث الرجل بحديث ثم يقول : وذلك ما لا شك فيه ويحسب الحاسب ثم يقول : فذلك كذا وكذا وقال تعالى : { لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك } ( البقرة ، 68 ) وقال نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم { لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي } ( يوسف ، 37 ) ولأنه لما وصل من المرسل سبحانه وتعالى إلى المرسل إليه صلى الله عليه وسلم وقع في حدّ البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً : احتفظ بذلك أي : تمسك به ، وقيل : معناه ذلك الكتاب الموعود إنزاله بقوله تعالى : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } ( المزمل ، 5 ) أو في الكتب المتقدّمة لأن سورة البقرة مدنية كما مرّ وأكثرها احتجاج على اليهود وعلى بني إسرائيل وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام إن الله يرسل محمداً وينزل عليه كتاباً فقال تعالى : { ذلك الكتاب } أي : الذي أخبر الأنبياء المتقدّمون بأن الله سينزله على النبيّ المبعوث من ولد إسماعيل وقيل : إنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله : وإنه في أمّ الكتاب لدينا وقد كان صلى الله عليه وسلم أخبر أمته بذلك فغير ممتنع أن يقول تعالى : { ذلك الكتاب } ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ . والكتاب مصدر سمي به المفعول للمبالغة أو فعال بني للمفعول كاللباس ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب ، وأصل الكتب الضمّ والجمع ، سمي الكتاب كتاباً لأنه جمع حرف إلى حرف والكتاب جاء في القرآن على وجوه ، أحدها : الفرض قال تعالى : { كتب عليكم القصاص } ( البقرة ، 178 ) { كتب عليكم الصيام } ( البقرة ، 183 ) { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } ( النساء ، 103 ) وثانيها : الحجة والبرهان قال تعالى : { فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } ( الصافات ، 157 ) أي : برهانكم ، وثالثها : الأجل قال تعالى : { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } ( الحجر ، 4 ) أي : أجل ، ورابعها : بمعنى مكاتبة السيد رقيقه ، قال تعالى : { والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم } ( النور ، 33 ) .

فإن قيل : كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق وكم من مرتاب فيه ؟ أجيب : بأنّ الله تعالى ما نفى أن أحداً لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه ألا ترى إلى قوله تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } ( البقرة ، 23 ) فإنه لم ينف عنهم الريب بل أرشدهم إلى الطريق المزيح للريب وهو أن يجتهدوا في معارضة سورة من سوره ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة وقيل : هو خبر بمعنى النهي أي : لا ترتابوا فيه كقوله تعالى : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } ( البقرة ، 197 ) أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ، والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيه الريبة وهي قلق النفس واضطرابها سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة ، وفي الحديث : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإنّ الشك ريبة والصدق طمأنينة ) ، رواه الترمذي لكن بلفظ فإنّ الصدق طمأنينة والكذب ريبة وصححه ، ومعناه : اترك ما فيه شك إلى ما لا شك فيه فإذا ارتابت نفسك في شيء فاتركه أو اطمأنت إليه فافعله فإنّ نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق وترتاب من الكذب وهذا مخصوص بذوي النفوس الشريفة القدسية الطاهرة .

تنبيه : جملة النفي خبر مبتدؤه ذلك و{ هدى } خبر ثانٍ أي هادٍ { للمتقين } الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي لاتقائهم بذلك النار . وتخصيص المتقين بالذكر تشريفاً لهم ولأنهم هم المنتفعون بالهدى كما قال تعالى : { إنما أنت منذر من يخشاها } ( النازعات ، 45 ) وقال تعالى : { إنما تنذر من اتبع الذكر } ( يس ، 11 ) وقد كان صلى الله عليه وسلم منذراً لكل الناس لأنّ هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره .

ولها ثلاث مراتب :

الأولى : التوقي من العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى : { وألزمهم كلمة التقوى } ( الفتح ، 26 ) .

والثانية : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم ، وهذا التجنب هو المتعارف بالتقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى : { ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا } ( المائدة ، 65 ) ( الأعراف ، 96 ) وعلى هذا قول عمر بن عبد العزيز : التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير .

والثالثة : أن يتنزه عما يشغل سرّه عن الحق تعالى وهذه هي التقوى الحقيقية المطلوبة بقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } ( آل عمران ، 102 ) وقال ابن عمر : التقوى أن لا ترى نفسك خيراً من أحد . قرأ ابن كثير : فيه هدى ، فيصل الهاء من فيه بياء في الوصل لأنها مكسورة وقبلها ساكن فإن كانت هاء الكناية مضمومة وقبلها ساكن وصلها بواو فإن كان قبلها متحرّك وبعدها متحرّك فجميع القرّاء يصلونها مكسورة بياء ويصلونها مضمومة بواو ، فمثال المكسورة به أن يوصل ، ومثال المضمومة قال له صاحبه وهو وما أشبه ذلك ، فإن كان قبلها متحرّك وبعدها ساكن فالجميع على عدم الصلة مثال ذلك به الله وله الملك وما أشبه ذلك ، ويدغم أبو عمرو الهاء في الهاء بخلاف عنه ، وكذا كل مثلين ما لم يكن الحرف المدغم تاء متكلم مثل : كنت تراباً أو تاء مخاطب مثل أفأنت تكره الناس أو منوّناً مثل : سميع عليم أو مشدّداً مثل : فتمّ ميقات ربه .