قوله تعالى : " ذلك الكتاب " قيل : المعنى هذا الكتاب . و " ذلك " قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر ، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب ، كما قال تعالى في الإخبار عن نفسه جل وعز : " ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم{[120]} " [ السجدة : 6 ] ، ومنه قول خُفاف بن نُدبة :
أقول له والرمح يَأْطِرُ{[121]} متنَه *** تأمل خُفافا إنني أنا ذلكا
أي أنا هذا . ف " ذلك " إشارة إلى القرآن ، موضوع موضع هذا ، تلخيصه : الم هذا الكتاب لا ريب فيه . وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما ، ومنه قوله تعالى : " وتلك حجتنا آتيناها{[122]} إبراهيم " [ الأنعام : 83 ] " تلك آيات{[123]} الله نتلوها عليك بالحق " [ البقرة : 252 ] أي هذه ، لكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل تلك . وفي البخاري " وقال معمر ذلك الكتاب هذا القرآن " . " هدى للمتقين " بيان ودلالة ، كقوله : " ذلكم حكم الله{[124]} يحكم بينكم " [ الممتحنة : 10 ] هذا حكم الله .
قلت : وقد جاء " هذا " بمعنى " ذلك " ، ومنه قوله عليه السلام في حديث أم حرام : ( يركبون ثبج{[125]} هذا البحر ) أي ذلك البحر ، والله أعلم . وقيل : هو على بابه إشارة إلى غائب .
واختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة ، فقيل : " ذلك الكتاب " أي الكتاب الذي كتبتُ على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق لا ريب فيه ، أي لا مبدل له . وقيل : ذلك الكتاب ، أي الذي كتبتُ على نفسي في الأزل ( أن رحمتي سبقت غضبي ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أن رحمتي تغلب غضبي ) في رواية : ( سبقت ) . وقيل : إن الله تعالى قد كان وعد نبيه عليه السلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ، فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حِمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان ) الحديث . وقيل : الإشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة . وقيل : إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة : " إنا سنلقي عليك{[126]} قولا ثقيلا " [ المزمل : 5 ] لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشرفا ( وفي النسخة : مستسرفا ) لإنجاز هذا الوعد من ربه عز وجل ، فلما أنزل عليه بالمدينة : " الم . ذلك الكتاب لا ريب فيه " [ البقرة : 1 - 2 ] كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة ، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة . وقيل : إن " ذلك " إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل . و " الم " اسم للقرآن ، والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل ، يعني أن التوراة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما . وقيل : إن " ذلك الكتاب " إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما ، والمعنى : الم ذانك الكتابان أو مثل ذينك الكتابين ، أي هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين ، فعبر ب " بذلك " عن الاثنين بشاهد من القرآن ، قال الله تبارك وتعالى : " إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك " [ البقرة : 68 ] أي عوان بين تينك : الفارض والبكر ، وسيأتي{[127]} . وقيل : إن " ذلك " إشارة إلى اللوح المحفوظ . وقال الكسائي : " ذلك " إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد . وقيل : إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتابا ، فالإشارة إلى ذلك الوعد . قال المبرد : المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا . وقيل : إلى حروف المعجم في قول من قال : " الم " الحروف التي تحديتكم بالنظم منها .
والكتاب مصدر من كتب يكتب إذا جمع ، ومنه قيل : كتيبة ، لاجتماعها . وتكتَّبت الخيل صارت كتائب . وكتبتُ البغلة : إذا جمعت بين شُفْري رَحِمِها بحلقة أو سير ، قال :
لا تأمنن فَزاريا حللت به *** على قَلوصك واكتبها بأَسْيَارِ
والكتبة ( بضم الكاف ) : الخرزة ، والجمع كتب . والكتب : الخزر . قال ذو الرمة :
وفْرَاءَ غَرْفِيةٍ أثْأَى خوارِزُها *** مُشَلشِلٌ ضيَّعتْه بينها الكُتَبُ{[128]}
والكتاب : هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة ، وسمي كتابا وإن كان مكتوبا ، كما قال الشاعر :
تؤمِّل رجعةً منِّي وفيها *** كتابٌ مثل ما لصق الغِرَاءُ
والكتاب : الفرض والحكم والقدر ، قال الجَعدِي :
يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني *** عنكم وهل أمنعنَّ الله ما فعلا
قوله تعالى : " لا ريب " نفي عام ، ولذلك نصب الريب به . وفي الريب ثلاثة معان :
أحدها : الشك ، قال عبد الله بن الزبعرى :
ليس في الحق يا أميمةُ ريبٌ *** إنما الريب ما يقول الجهول
بثينةُ قالت يا جميل أرَبْتَنِي*** فقلت كلانا يا بثينُ مريب
وثالثها : الحاجة ، قال{[129]} :
قضينا من تهامةَ كلَّ ريب *** وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
فكتاب الله تعالى لا شك فيه ولا ارتياب ، والمعنى : أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله ، وصفة من صفاته ، غير مخلوق ولا محدث ، وإن وقع ريب للكفار . وقيل : هو خبر ومعناه النهي ، أي لا ترتابوا ، وتم الكلام كأنه قال ذلك الكتاب حقا . وتقول : رابني هذا الأمر إذا أدخل عليك شكا وخوفا . وأراب : صار ذا ريبة ، فهو مريب . ورابني أمره . وريب الدهر : صروفه .
الأول : قوله تعالى : " فيه هدى للمتقين " الهاء في " فيه " في موضع خفض بفي ، وفيه خمسة أوجه ، أجودها : فيهِ هدى . ويليه : فيهُ هدى ( بضم الهاء بغير واو ){[130]} وهي قراءة الزهري وسلام أبي المنذر . ويليه : فيهي هدى ( بإثبات الياء ) وهي قراءة ابن كثير . ويجوز فيهو هدى ( بالواو ) . ويجوز فيه هدى ( مدغما ) وارتفع " هدى " على الابتداء والخبر " فيه " . والهدى في كلام العرب معناه الرشد والبيان ، أي فيه كشف لأهل المعرفة ورشد وزيادة بيان وهدى .
الثانية : الهدى هُديان : هدى دلالة ، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم ، قال الله تعالى : " ولكل قوم هاد{[131]} " [ الرعد : 7 ] . وقال : " وإنك لتهدي إلى صراط{[132]} مستقيم " [ الشورى : 52 ] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه ، وتفرد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : " إنك لا تهدي{[133]} من أحببت " [ القصص : 56 ] فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ، ومنه قوله تعالى : " أولئك على هدى من ربهم " [ البقرة : 5 ] وقوله : " ويهدي من يشاء " [ فاطر : 8 ] والهدى : الاهتداء ، ومعناه راجع إلى معنى الإرشاد كيفما تصرفت . قال أبو المعالي : وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها ، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين : " فلن يضل أعمالهم{[134]} . سيهديهم " [ محمد : 4 - 5 ] ومنه قوله تعالى : " فاهدوهم إلى صراط{[135]} الجحيم " [ الصافات : 23 ] معناه فاسلكوهم إليها .
الثالثة : الهدى لفظ مؤنث . قال الفراء : بعض بني أسد تؤنث الهدى فتقول : هذه هدى حسنة . وقال اللحياني : هو مذكر ، ولم يعرب لأنه مقصور والألف لا تتحرك ، ويتعدى بحرف وبغير حرف وقد مضى في " الفاتحة{[136]} " ، تقول : هديته الطريق وإلى الطريق والدار وإلى الدار ، أي عرفته . الأولى لغة أهل الحجاز ، والثانية حكاها الأخفش . وفي التنزيل : " اهدنا الصراط المستقيم{[137]} " و " الحمد لله الذي هدانا{[138]} لهذا " [ الأعراف : 43 ] وقيل : إن الهدى اسم من أسماء النهار ؛ لأن الناس يهتدون فيه لمعايشهم وجميع مأربهم ، ومنه قول ابن مُقبل :
[ حتى استَبَنْتُ الهدى والبيدُ هاجمةٌ *** يخشعن في الآل غُلْفاً أو يُصلِّينَا ]{[139]}
قوله تعالى : " للمتقين " خص الله تعالى المتقين بهدايته وإن كان هدى للخلق أجمعين تشريفا لهم ، لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه . وروي عن أبى رَوق أنه قال : " هدى للمتقين " أي كرامة لهم ، يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم . وأصل " للمتقين " : للموتقيين بياءين مخففتين ، حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء وأدغمت التاء في التاء فصار للمتقين .
الخامسة : التقوى يقال أصلها في اللغة قلة الكلام ، حكاه ابن فارس .
قلت : ومنه الحديث ( التقيُّ مُلْجَم والمتَّقي فوق المؤمن والطائع ) وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى ، مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزا بينك وبينه ، كما قال النابغة :
سقط النَّصِيفُ{[140]} ولم تُرِدْ إسقاطَهُ *** فتناولته واتقتنا باليد
فألقت قناعا دونه الشمس واتقت *** بأحسن موصولين كفٌّ ومِعْصَمُ
وخرج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث سعيد بن زَربي أبي عبيدة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال : قال يوما لابن أخيه : يا ابن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قال : نعم ، قال : لا خير فيهم إلا تائب أو تقي ثم قال : يا ابن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قلت : بلى ، قال : لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم . وقال أبو يزيد البسطامي : المتقي من إذا قال : قال لله ، ومن إذا عمل ، عمل لله . وقال أبو سليمان الداراني : المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات . وقيل : المتقي الذي اتقى الشرك وبرئ من النفاق . قال ابن عطية : وهذا فاسد ، لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق . وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبيا عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقا ذا شوك ؟ قال : نعم : قال فما عملت فيه ؟ قال : تشمرت وحذرت ، قال : فذاك التقوى . وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فنظمه :
خل الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التُّقَى
واصنع كماش فوق أر *** ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة *** إن الجبال من الحصى
السادسة : التقوى فيها جماع الخير كله ، وهي وصية الله في الأولين والآخرين ، وهي خير ما يستفيده الإنسان ، كما قال أبو الدرداء وقد قيل له : إن أصحابك يقولون الشعر وأنت ما حفظ عنك شيء ، فقال :
يريد المرء أن يؤتى مناه *** ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي *** وتقوى الله أفضل ما استفادا
وروى ابن ماجه في سننه عن أبى أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ( ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خير له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله ) . والأصل في التقوى : وَقْوَى على وزن فعلى فقلبت الواو تاء من وقيته أقيه أي منعته ، ورجل تقي أي خائف ، أصله وقي ، وكذلك تقاة ، كانت في الأصل : وقاة ، كما قالوا : تجاه وتراث ، والأصل وجاه ووراث .