معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان } ، يعني : العلماء والقراء من أهل الكتاب .

قوله تعالى : { ليأكلون أموال الناس بالباطل } ، يريد : ليأخذون الرشا في أحكامهم ، ويحرفون كتاب الله ، ويكتبون بأيديهم كتبا يقولون : هذه من عند الله ، ويأخذون بها ثمنا قليلا من سفلتهم وهي المآكل التي يصيبونها منهم على تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم ، يخافون لو صدقوهم لذهبت عنهم تلك المآكل .

قوله تعالى : { ويصدون } ، ويصرفون الناس .

قوله تعالى : { عن سبيل الله } ، دين الله عز وجل .

قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } ، قال ابن عمر رضي الله عنهما : كل مال تؤدى زكاته فليس بكنز ، وإن كان مدفونا . وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز ، وإن لم يكن مدفونا . ومثله عن ابن عباس .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني سويد بن سعيد ، حدثنا حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم أن أبا صالح ذكوان أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه ، وظهره ، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ، ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ، ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة ، بطح لها بقاع قرقر ، أوفر ما كانت ، لا يفقد منها فصيلا واحدا ، تطؤه بأخفافها ، وتعضه بأفواهها ، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضي الله بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ، ولا صاحب بقر ولا غنم ، لا يؤدي منها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة ، بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ، ولا جلحاء ، ولا عضباء ، تنطحه بقرونها ، وتطؤه بأظلافها ، كلما مر عليه أولاها ، رد عليه أخراها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضي الله بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " . وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته ، مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع ، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، فيأخذ بلهزمتيه ، يعني : شدقيه ، ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثم تلا : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله } الآية . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز ، أديت منه الزكاة أو لم تؤد ، وما دونها نفقة . وقيل : ما فضل عن الحاجة فهو كنز . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا وكيع ، ثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال : " انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة ، فلما رآني قال : هم الأخسرون ورب الكعبة ، قال : فجئت حتى جلست ، فلم أتقار أن قمت فقلت : يا رسول الله فداك أبي وأمي ، من هم ؟ قال : هم الأكثرون أموالا إلا من قال : هكذا وهكذا وهكذا ، من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، وقليل ما هم " . وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه كان يقول : من ترك بيضاء ، أو حمراء ، كوي بها يوم القيامة . وروي عن أبي أمامة قال : " مات رجل من أهل الصفة ، فوجد في مئزره دينار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كية ، ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيتان " . والقول الأول أصح ، لأن الآية في منع الزكاة لا في جمع المال والحلال . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم المال الصالح للرجل الصالح " . وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت هذه الآية ، كبر ذلك على المسلمين وقالوا ما يستطيع أحد منا أن يدع لولده شيئا ، فذكر عمر ذلك لرسول الله فقال : " إن الله عز وجل لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم " . وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن هذه الآية ؟ فقال : كان ذلك قبل أن تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال . وقال ابن عمر : ما أبالي لو أن لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله . قوله عز وجل : { ولا ينفقونها في سبيل الله } ، ولم يقل : ولا ينفقونهما ، وقد ذكر الذهب والفضة جميعا ، قيل : أراد الكنوز وأعيان الذهب والفضة . وقيل : رد الكناية إلى الفضة لأنها أعم ، كما قال تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة } [ البقرة-45 ] ، رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم ، وكقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } [ الجمعة-11 ] رد الكناية إلى التجارة لأنها أعم .

قوله تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } . أي : أنذرهم .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ كَثِيراً مّنَ الأحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } .

يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بوحدانية ربهم ، إن كثيرا من العلماء والقرّاء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى ٍٍ " يَأْكُلُونَ أموَالَ النّاسِ بالباطِلِ " يقول : يأخذون الرُّشى في أحكامهم ، ويحرّفون كتاب الله ، ويكتبون بأيديهم كتباً ثم يقولون : هذه من عند الله ، ويأخذون بها ثمنا قليلاً من سِفْلَتِهم . وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ، يقول : ويمنعون من أراد الدخول في الإسلام الدخول فيه بنهيهم إيّاهم عنه .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

- حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّ كَثِيرا مِنَ الأحْبارِ وَالرّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوَالَ النّاسِ بالباطِلِ " أما " الأحبار " ؛ فمن اليهود . وأما " الرهبان " ؛ فمن النصارى . وأما " سبيل الله " ؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالفِضّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ } .

يقول تعالى ذكره : " إنّ كَثِيرا مِنَ الأحْبارِ وَالرّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوَالَ النّاسِ بالباطِلِ " ، ويأكلها أيضا معهم " الّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالفِضّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ " ، يقول : بشر الكثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ، بعذاب أليم لهم يوم القيامة مُوجع من الله .

واختلف أهل العلم في معنى " الكنز " ، فقال بعضهم : هو كلّ مال وجبت فيه الزكاة ، فلم تؤدّ زكاته . قالوا : وعنى بقوله : " ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، ولا يؤدون زكاتها . ذكر من قال ذلك :

- حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كلّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز ، وإن كان مدفونا ، وكلّ مال لم تؤدّ زكاته ، فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن ، يُكْوَى به صاحبه ، وإن لم يكن مدفونا .

- حدثنا الحسن بن الجنيد ، قال : حدثنا سعيد بن مسلمة ، قال : حدثنا إسماعيل بن أمية ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه قال : كلّ مال أدّيت منه الزكاة فليس بكنز ، وإن كان مدفونا ، وكلّ مال لم تؤدّ منه الزكاة وإن لم يكن مدفونا ، فهو كنز .

- حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يحيى بن سعيد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : أيمُّا مال أدّيت زكاته فليس بكنز ، وإن كان مدفونا في الأرض . وأيما مال لم تؤدّ زكاته ، فهو بكنز يكوى به صاحبه ، وإن كان على وجه الأرض .

- حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي وجرير ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن ابن عمر ، قال : ما أدّيت زكاته فليس بكنز .

- قال : حدثنا أبي ، عن العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ما أدّيت زكاته فليس بكنز ، وإن كان تحت سبع أرضين . وما لم تؤدّ زكاته فهو كنز ، وإن كان ظاهرا .

- قال : حدثنا جرير ، عن الشيباني ، عن عكرمة ، قال : ما أدّيت زكاته فليس بكنز .

- حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : " أما الذين يكنزون الذهب والفضة " ، فهؤلاء أهل القبلة . و " الكنز " : ما لم تؤدّ زكاته وإن كان على ظهر الأرض ، وإن قلّ . وإن كان كثيرا قد أدّيت زكاته ، فليس بكنز .

- حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، قال : قلت لعامر : مالٌ على رفّ بين السماء والأرض لا تؤدّى زكاته ، أكنز هو ؟ قال : يُكْوى به يوم القيامة .

وقال آخرون : كل مال زاد على أربعة آلاف درهم ، فهو كنز ، أدّيت منه الزكاة أو لم تؤدّ . ذكر من قال ذلك :

- حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن عليّ رحمة الله عليه قال : أربعة آلاف درهم فما دونها " نفقة " ، فما كان أكثر من ذلك فهو " كنز " .

- حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن عليّ ، مثله .

- حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الشعبيّ ، قال : أخبرني أبو حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن عليّ رحمة الله عليه ، في قوله : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ " ، قال : أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ، وما فوقها كنز .

وقال آخرون : " الكنز " كلّ ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه . ذكر من قال ذلك :

- حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أنس ، عن عبد الواحد : أنه سمع أبا مجيب قال : كان نعل سيف أبي هريرة من فضة ، فنهاه عنها أبو ذرّ ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ تَرَكَ صَفْرَاءَ أوْ بَيْضَاءَ كُوِيَ بِهَا » .

- حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن الأعمش وعمرو بن مرّة ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : لما نزلت : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «تَبًّا للذّهَبِ ! تَبًّا للفِضّةِ ! » يقولها ثلاثا . قال : فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : فأيَّ مال نتخذه ؟ فقال عمر : أنا أعلم لكم ذلك . فقال : يا رسول الله إن أصحابك قد شقّ عليهم ، وقالوا : فأيَّ المال نتخذ ؟ فقال : «لسانا ذَاكِرا ، وَقَلْبا شَاكِرا ، وَزَوْجَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على دِينِهِ » .

- حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ثوبان ، بمثله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن منصور ، عن عمرو بن مرّة ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : لما نزلت هذه الآية : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، قال المهاجرون : وأيَّ المال نتخذ ؟ فقال عمر : أسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه . قال : فأدركته على بعير ، فقلت : يا رسول الله إن المهاجرين قالوا : فأيَّ المال نتخذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لِسانا ذَاكِرا ، وقَلْبا شَاكِرا ، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على دِينِهِ » .

- حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة ، قال : توفي رجل من أهل الصُّفَّة ، فوُجد في مئزرِه دينارٌ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَيّةٌ ! » ثم توفي آخر ، فوُجد في مئزره ديناران ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :

«كَيّتانِ ! » .

- حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن صدى بن عجلان أبي أمامة ، قال : مات رجل من أهل الصفة ، فوجد في مئزره دينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَيّةٌ ! » ثم توفي آخر ، فوجد في مئزره ديناران فقال نبيّ الله :

«كَيّتانِ ! » .

- حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سالم ، عن ثوبان ، قال : كنا في سفر ، ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال المهاجرون : لوددنا أنا علمنا أيُّ المال خيرٌ فنتخذه ؟ إذ نزل في الذهب والفضة ما نزل ! فقال عمر : إن شئتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ! فقالوا : أجل ! فانطلق فتبعته أوضع على بعيري ، فقال : يا رسول الله إن المهاجرين لما أنزل الله في الذهب والفضة ما أنزل قالوا : وددنا أنا علمنا أيّ المال خير فنتخذه ، قال : «نَعَمْ ، فَيَتّخِذُ أحَدُكُمْ لِسانا ذَاكِرا ، وَقَلْبا شَاكِرا ، وَزَوْجَةً تُعِينُ أحَدَكُمْ على إيمَانِهِ » .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، القول الذي ذُكِر عن ابن عمر : من أن كلّ مال أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر ، وأن كلّ ما لم تؤدّ زكاته فصاحبه معاقب مستحقّ وعيد الله ، إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قل ، إذا كان مما يجب فيه الزكاة .

وذلك أن الله أوجب في خمس أواق من الوَرِق على لسان رسوله رُبع عُشرها ، وفي عشرين مثقالاً من الذهب مثل ذلك ربع عشرها . فإذ كان ذلك فرض الله في الذهب والفضة على لسان رسوله ، فمعلوم أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوفَ ألوفٍ لو كان ، وإن أدّيت زكاته من الكنوز التي أوعد الله أهلها عليها العقاب ، لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من ربع العشر . لأن ما كان فرضا إخراج جميعه من المال وحرامٌ اتخاذه ، فزكاته الخروج من جميعه إلى أهله لا ربع عشره ، وذلك مثل المال المغصوب الذي هو حرام على الغاصب إمساكه وفرضٌ عليه إخراجه من يده إلى يده ، فالتطهر منه : ردّه إلى صاحبه . فلو كان ما زاد من المال على أربعة آلاف درهم ، أو ما فضل عن حاجة ربه التي لا بد منها ، مما يستحق صاحبه باقتنائه إذا أدّى إلى أهل السهمان حقوقهم منها من الصدقة وعيد الله ، لم يكن اللازم ربه فيه ربع عشره ، بل كان اللازم له الخروج من جميعه إلى أهله وصرفه فيما يجب عليه صرفه ، كالذي ذكرنا من أن الواجب على غاصبِ رجلٍ مالَه ردُّه على ربه . وبعد ، فإن فيما :

- حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : قال معمر : أخبرني سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «ما مِنْ رَجُلٍ لا يُؤَدّي زَكَاةَ مالِهِ إلاّ جُعِلَ يَوْمَ القِيَامَةِ صفَائِحَ مِنْ نارٍ يُكْوَى بِها جَنْبُهُ وجَبْهَتُهُ وظَهْرُهُ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألُفَ سَنَةٍ ، حتى يُقْضَى بينَ النّاسِ ، ثُمّ يَرَى سَبِيلَه ، وَإنْ كانَتْ إبِلاً إلاّ بُطِحَ لَهَا بِقاعٍ قَرْقَرٍ ، تَطَؤُهُ بأخْفَافِها » حسبته قال :

«وَتَعَضّهُ بأفْوَاهِها ، يَرِدُ أُولاها على أُخْرَاها ، حتى يُقْضَى بينَ النّاسِ ثُمّ يَرَى سَبِيلَهُ . وَإنْ كانَتْ غَنَما فَمِثْلُ ذلكَ ، إلا أنّها تَنْطَحُهُ بقُرُونِها ، وَتَطَؤُهُ بأظْلاَفِها » .

وفي ذلك نظائر من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها ، الدلالة الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تؤدّ الوظائف المفروضة فيها لأهلها من الصدقة ، لا على اقتنائها واكتنازها .

وفيما بينا من ذلك البيان الواضح على أن الآية لخاصّ كما قال ابن عباس ، وذلك ما :

- حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ " يقول : هم أهل الكتاب ، وقال : هي خاصة وعامة .

يعني بقوله : " هي خاصة وعامة " ، هي خاصة من المسلمين فيمن لم يؤدّ زكاة ماله منهم ، وعامة في أهل الكتاب ، لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا .

يدلّ على صحة ما قلنا في تأويل قول ابن عباس هذا ما :

- حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها . . . " إلى قوله : " هَذَا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذَوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ " ، قال : هم الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم . قال : وكلّ مال لا تؤدّى زكاته كان على ظهر الأرض أو في بطنها فهو كنز ، وكل مال تؤدّى زكاته فليس بكنز كان على ظهر الأرض أو في بطنها .

- حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ " ، قال : " الكنز " : ما كنز عن طاعة الله وفريضته ، وذلك " الكنز " . وقال : افترضت الزكاة والصلاة جميعا ، لم يفرق بينهما .

وإنما قلنا ذلك على الخصوص ، لأن الكنز في كلام العرب : كلّ شيء مجموع بعضُه على بعض ، في بطن الأرض كان أو على ظهرها ، يدلّ على ذلك قول الشاعر :

لا دَرَّ دَرِّىَ إنْ أطْعَمْتُ نازِلَهُم *** قَرْفَ الحَتِيّ وعنْدي البُرّ مَكْنُوزُ

يعني بذلك : وعند البرّ مجموع بعضه على بعض ، وكذلك تقول العرب للبدن المجتمع : مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض .

وإذا كان ذلك معنى الكنز عندهم ، وكان قوله : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ " ، معناه : والذين يجمعون الذهب والفضة بعضَها إلى بعض ، ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ ، وهو عامّ في التلاوة ، لم يكن في الآية بيان كم ذلك القدر من الذهب والفضة الذي إذا جمع بعضه إلى بعض ، استحقّ الوعيد كان معلوما أن خصوص ذلك إنما أدرك ، لوقْف الرسول عليه ، وذلك كما بينا من أنه المال الذي لم يؤدّ حقّ الله منه من الزكاة ، دون غيره لما قد أوضحنا من الدلالة على صحته .

وقد كان بعض الصحابة يقول : هي عامة في كلّ كنز ، غير أنها خاصة في أهل الكتاب وإياهم عنى الله بها . ذكر من قال ذلك :

- حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا حصين عن زيد بن وهب ، قال : مررت بالرَّبَذَة ، فلقيت أبا ذرّ ، فقلت : يا أبا ذرّ ، ما أنزلك هذه البلاد ؟ قال : كنت بالشأم ، فقرأت هذه الآية : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ . . . " الآية ، فقال معاوية : ليست هذه الآية فينا ، إنما هذه الآية في أهل الكتاب ! قال : فقلت إنها لفينا وفيهم ! قال : فارتفع في ذلك بيني وبينه القول ، فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إليّ عثمان : أن أقبل إليّ ! قال : فأقبلت ، فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تنحّ قريبا . قلت : والله لن أدع ما كنت أقول .

- حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن وكيع ، قالوا : حدثنا ابن إدريس ، قال حدثنا حصين ، عن زيد بن وهب ، قال : مررنا بالربذة ، ثم ذكر عن أبي ذرّ نحوه .

- حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أشعث ، وهشام ، عن أبي بشر ، قال : قال أبو ذرّ : خرجت إلى الشام ، فقرأت هذه الآية : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، فقال معاوية : إنما هي في أهل الكتاب ! قال : فقلت : إنها لفينا وفيهم .

- حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن زيد بن وهب ، قال : مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذرّ ، قال : قلت له : ما أنزلك منزلك هذا ؟ قال : كنت بالشام ، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية : " وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، قال : فقال : نزلت في أهل الكتاب ! فقلت : نزلت فينا وفيهم . ثم ذكر نحو حديث هشيم عن حصين .

فإن قال قائل : فكيف قيل : " ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ " ، فأخرجت " الهاء " و " الألف " مخرج الكناية عن أحد النوعين ؟

قيل : يحتمل ذلك وجهين : أحدهما أن يكون الذهب والفضة مرادا بها الكنوز ، كأنه قيل : وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الكنوزولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ ، لأن الذهب والفضة هي " الكنوز " في هذا الموضع . والاَخر أن يكون استغنى بالخبر عن إحداهما في عائد ذكرهما من الخبر عن الأخرى ، لدلالة الكلام على الخبر عن الأخرى مثل الخبر عنها . وذلك كثير موجود في كلام العرب وأشعارها ، ومنه قول الشاعر :

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنا وأنْتَ بِمَا *** عِنْدَكَ رَاضٍ ، والرأْيُ مُخْتَلِفُ

فقال : " راض " ، ولم يقل : " رضوان " . وقال الاَخر :

إنّ شَرْخَ الشّبابِ والشّعَرَ الأسْ *** وَدَ مَا لَمْ يُعاصَ كَانَ جُنُونَا

فقال : " يعاص " ، ولم يقل : «يعاصيا » في أشياء كثيرة . ومنه قول الله : " وإذَا رأَوْا تِجَارَةً أوْ لَهْوا انْفَضُّوا إلَيْها " ، ولم يقل : «إليهما » .