قوله تعالى : { قل من ينجيكم } ، قرأ يعقوب بالتخفيف ، وقرأ العامة بالتشديد .
قوله تعالى : { من ظلمات البر والبحر } ، أي : من شدائدهما وأهوالهما ، كانوا إذا سافروا في البر والبحر فضلوا الطريق ، وخافوا الهلاك ، دعوا الله مخلصين له الدين ، فينجيهم .
قوله تعالى : { تدعونه تضرعاً وخفيةً } ، أي : علانية وسراً ، قرأ أبو بكر عن عاصم { وخفيةً } بكسر الخاء هاهنا وفي الأعراف ، وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان .
قوله تعالى : { لئن أنجانا } ، أي : يقولون : لئن أنجيتنا ، وقرأ أهل الكوفة : لئن أنجانا ، أي أنجانا الله .
قوله تعالى : { من هذه } ، يعني : من هذه الظلمات .
قوله تعالى : { لنكونن من الشاكرين } ، والشكر : هو معرفة النعمة مع القيام بحقها .
ثم ساق القرآن لوناً آخر من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله وسابغ رحمته وفضله وإحسانه فقال - تعالى - : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر } .
قال صاحب الكشاف : ظلمات البر والبحر مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما .
يقال لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب ، أى اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل "
وقيل : حمله على الحقيقة أولى فظلمة البر هى ما اجتمع فيه من ظلمة الليل ومن ظلمة السحاب فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب ، وظلمة البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضاً الخوف الشديد من الوقوع فى الهلاك .
والتضرع : المبالغة فى الضراعة مع الذل والخضوع . والخفية- بالضم والكسر - الخفاء والاستتار . وللكرب الغم الشديد مأخوذ من كرب الأرض وهو إثارتها وقلبها بالحفر . فالغم يثير النفس كما يثير الأرض كاربها .
والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء الغافلين من الذى ينجيكم من ظلمات البر والبحر عندما تغشاكم بأهوالها المرعبة ، وشدائدها المدهشة ، إنكم فى هذه الحالة تلجأون إلى الله وحده تدعونه إعلانا وإسرارا بذلة وخضوع وإخلاص قائلين له : لئن أنجيتنا يا ربنا من هذه الشدائد والدواهى المظلمة لنكونن لك من الراسخين فى الشكر المداومين عليه
يقول تعالى ممتنا على عباده في إنجائه المضطرين منهم { مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : الحائرين الواقعين في المهامه البرية ، وفي اللجج البحرية إذا هاجت الريح{[10755]} العاصفة ، فحينئذ يفردون الدعاء له وحده لا شريك له ، كما قال : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ [ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا ] }{[10756]} [ الإسراء : 67 ] وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }{[10757]} [ يونس : 22 ] وقال تعالى : { أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النمل : 63 ] .
وقال في هذه الآية الكريمة : { قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } أي : جهرا وسرا { لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ } أي : من هذه الضائقة { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي : بعدها ،
استئناف ابتدائي . ولمَّا كان هذا الكلام تهديداً وافتتح بالاستفهام التقريري تعيَّن أنّ المقصود بضمائر الخطاب المشركون دون المسلمين . وأصرح من ذلك قوله : { ثم أنتم تشركون } .
وإعادة الأمر بالقول للاهتمام ، كما تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { قل أرأيتِكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [ الأنعام : 40 ] الآية . والاستفهام مستعمل في التقرير والإلجاء ، لكون ذلك لا ينازعون فيه بحسب عقائد الشرك .
والظلمات قيل على حقيقتها ، فيتعيَّن تقدير مضاف ، أي من إضرار ظلمات البرّ والبحر ، فظلمات البرّ ظلمة الليل التي يلتبس فيها الطريق للسائر والتي يخشى فيها العدوّ للسائر وللقاطن ، أي ما يحصل في ظلمات البرّ من الآفات . وظلمات البحر يخشى فيها الغرق والضلال والعدوّ . وقيل : أطلقت الظلمات مجازاً على المخاوف الحاصلة في البرّ والبحر ، كما يقال : يوم مُظلم إذا حصلت فيه شدائد . ومن أمثال العرب ( رأى الكواكب مُظْهِراً ) ، أي أظلم عليه يومه إظلاماً في عينيه لما لاقاه من الشدائد حتَّى صار كأنَّه ليل يرى فيه الكواكب . والجمع على الوجهين روعي فيه تعدّد أنواع ما يعرض من الظلمات ، على أنَّنا قدّمنا في أوّل السورة أنّ الجمع في لفظ الظلمات جَرى على قانون الفصاحة . وجملة : { تدعونه } حال من الضمير المنصوب في { يُنَجِّكُمْ } .
وقرىء { من ينجِّيكم } بالتشديد لنافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبي عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبي جعفر ، وخلف . وقرأه يعقوب بالتخفيف .
والتضرّع : التذلّل ، كما تقدّم في قوله : { لعلَّهم يتضرّعون } في هذه السورة [ 42 ] . وهو منصوب على الحال مؤوّلاً باسم الفاعل . والخفية بضم الخاء وكسرها ضد الجهر . وقرأه الجمهور بضم الخاء . وقرأه أبو بكر عن عاصم بكسر الخاء وهو لغة مثل أسوة وإسوة . وعطف خفية } على { تضرّعاً } إمَّا عطف الحال على الحال كما تعطف الأوصاف فيكون مصدراً مؤوّلاً باسم الفاعل ، وإما أن يكون عطف المفعول المطلق على الحال على أنَّه مبيّن لنوع الدعاء ، أي تدعونه في الظلمات مخفين أصواتكم خشية انتباه العدوّ من النّاس أو الوحوش .
وجملة { لئِن أنجيتنا } في محلّ نصب بقول محذوف ، أي قائلين . وحذف القول كثير في القرآن إذا دلَّت عليه قرينة الكلام . واللام في { لئن } الموّطئة للقسم ، واللام في { لَنكوننّ } لام جواب القسم . وجيء بضمير الجمع إمَّا لأنّ المقصود حكاية اجتماعهم على الدعاء بحيث يدعو كلّ واحد عن نفسه وعن رفاقه . وإمَّا أريد التعبير عن الجمع باعتبار التوزيع مثل : ركِبَ القوم خَيْلَهم ، وإنَّما ركب كلّ واحد فَرَساً .
وقرأ الجمهور { أنجيتنا } بمثناة تحتية بعد الجيم ومثناة فوقية بعد التحتية . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي وخلف { أنجانا } بألف بعد الجيم والضمير عائد إلى { مَنْ } في قوله : { قل من ينجيّكم } .
والإشارة ب { هذه } إلى الظلمة المشاهدة للمتكلِّم باعتبار ما ينشأ عنها ، أو باعتبار المعنى المجازي وهو الشدّة ، أو إلى حالة يعبّر عنها بلفظ مؤنّث مثل الشدّة أو الورطة أو الربْقة .
والشاكر هو الذي يراعي نعمة المنعم فيحسن معاملته كلّما وجد لذلك سبيلاً . وقد كان العرب يرون الشكر حقَّاً عظيماً ويعيّرون من يكفر النعمة .
وقولهم : { من الشاكرين } أبلغ من أن يقال : لنكوننَّ شاكرين ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين } [ لأنعام : 56 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.