معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

قوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة } . نزلت في معاذ بن جبل ، وثعلبة ابن غنم الأنصاريين قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً ، ثم يزيد حتى يمتلئ نوراً ، ثم يعود دقيقاً كما بدأ ، ولا يكون على حاله ، فأنزل الله تعالى : ( يسألونك عن الأهلة ) وهي جمع هلال ، مثل رداء وأردية سمي هلالاً لأن الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته ، من قولهم استهل الصبي ، إذا صرخ حين يولد ، وأهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية .

قوله تعالى : { قل هي مواقيت للناس والحج } . جمع ميقات ، أي فعلنا ذلك فعلنا ذلك ليعلم ذلك ليعلم الناس أوقات الحج ، والعمرة ، والصوم ، والإفطار ، وآجال الديون ، وعدد النساء ، وغيرها ، فلذلك خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة .

قوله تعالى : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } . قال أهل التفسير : كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج ، أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه . فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته ليدخل منه ويخرج ، أو يتخذ سلماً فيصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك براً ، إلا أن يكون من الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخيثم وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو مضر بن معاوية ، سموا حمساً لتشددهم في دينهم ، والحماسة الشدة والصلابة ، قالوا : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار ، فدخل رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن التابوت على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم دخلت من الباب وأنت محرم : قال رأيتك دخلت فدخلت على أثرك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحمسي فقال الرجل : إن كنت أحمسياً فإني أحمسي ، رضيت بهديك ، وسمتك ودينك فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال الزهري : كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء ، وكان الرجل يخرج مهلاً بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت ، أن يحول بينه وبين السماء ، فيفتح الجدار من ورائه ، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته ، حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة فدخل رجل على أثره من الأنصار ، من بني سلمة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لم فعلت ذلك ؟ قال لأني رأيتك دخلت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أحمسي . فقال الأنصاري : وأنا أحمسي ، يقول وأنا على دينك ، فأنزل الله تعالى ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) . قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر : والبيوت ، والغيوب ، والجيوب ، والعيون ، وشيوخاً ، بكسر أوائلهن لمكان الياء ، وقرأ الباقون ، بالضم على الأصل ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي جيوب بكسر الجيم ، وقرأ أبو بكر وحمزة " العيوب " بكسر العين .

قوله تعالى : { ولكن البر من اتقى } . أي : البر : بر من اتقى .

قوله تعالى : { وأتوا البيوت من أبوابها } . في حال الإحرام .

قوله تعالى : { واتقوا الله لعلكم تفلحون } . أي في طاعة الله .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

ثم انتقل القرآن إلى الحديث عن الأهلة لما لها من صلة بالصيام وبالقتال في الأشهر الحرام وبمواقيت الحج فقال - تعالى - :

( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج وَلَيْسَ البر . . . )

ورد في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : " بلغنا أن بعض الناس قالوا : يا رسول الله ، لم خلقت الأهلة فنزلت " .

والأهلة : جمع الهلال ، وهو الكوكب الذي يبزغ في أول كل شهر ، ويسمى هلالا لثلثا ليال أو لسبع ليلا من ظهوره ، ثم يسمى بعد ذلك قمرا إلى أن يعود من الشهر الثاني .

قال بعضهم : وهو مشتق من استهل الصبي إذا بكى وصاح حين يولد ، ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية ، وسمى بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكره أو بالتكبير ، ولهذا يقال أهل الهلال واستهل .

والمواقيت : جمع ميقات بمعنى الوقت ، وهو ما يقدر لعمل من الأعمال وقيل : الميقات منتهى الوقت .

والمعنى : يسألك بعض الناس عن الحكمة من خلق الأهلة ، قل لهم - يا محمد 0 إن الله - تعالى - قد خلقها لتكون معالم يوقت ويحدد بها الناس صومهم ، وزكاتهم ، وحجهم ، وعدة نسائهم ، ومدد حملهن ، ومدة الرضاع ، وغير ذلك مما يتعلق بأمور معاشهم .

قال - تعالى - : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وخص الجح بالكر مع أن الأهلة مواقيت لعبادات أخرى كالصوم والزكاة للتبيه على أن الحج مقصور وقد أدائه على الزمن الذي عينه الله - تعالى - وأنه لا يجوز نقله إلى وقت آخر كما كانت العرب تفعل ، إذ كانوا ينقلون ما شاؤوا من الأشهر الحرام الأربعة التي من جملتها ذو الحجدة إلى شهر آخر غير حرام ، وهو النسيء المشار إليه بقوله - تعالى - : { إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر } وخص الشارع المواقيت بالأهلة وأشهرها دون الشمس وأشهرها ، لأن الأشهر الهلالية تعرف برؤية الهلال ومحاقه ، وذلك ما لا يخفى على أحد من الخاصة أو العامة أينما كانوا بخلاف الأشهر الشمسية ، فإن معرفتها تنبني على النظر في حركات الفلك وهي لا تتيسر ألا للعارفين بدقائق علم الفلك .

هذا ، وم الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس قال : نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم قالا : يا رسول الله . ما بال الهلال يبدو - أو يطلع - دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستدير ، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان ، لا يكون على حال واحد ؟ فنزلت .

وعلى هذه الرواية يكون الجواب بقوله - تعالى - : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } من قبيل أسلوب الحكيم ، وهو إجابة السائل بغير ما يتطلبه سؤاله ، بتنزيل سؤاله منزلة غيره ، تنبيها له على أن ذلك الغير هو الأولى بالسؤال لأنه هو المهم بالنسبة له .

فأنت ترى هنا أن السائلين قد سألأوا عن سبب اختلاف الأهلة بالزيادة والنقصان ، فأجيبوا ببيان الحكمة من خلقها ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : عليكم أن تسألوا عن الحكمة والفائدة من خلق الأهلة لأن هذا هو الأليق بحالكم وهو ما أجبتكم عليه ، لا أن تسألوا عن سبب تزايدها في أول الشهر وتناقصها في آخره ، لأن هذا من اختصاص علماء الهيئة ، وأنتم لستم في حاجة إلى معرفة ذلك في هذا الوقت .

ولعلماء البلاغة كلام جيد في مزايا ما يسمونه بأسلوب الحكيم ، فقد قال السكاكي ما ملخصه : " ولهذا النوع - أعني إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر - أساليب متفننة ، ولكل من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتشرب من أفانين سحرها ، ولا كأسلوب الحكيم فيها . وهو تلقى المخاطب بغير ما يترقب ، أو السائل بغير ما يتطلب ، كما قال - تعالى - { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة } الآية . قالوا في السؤال ما بال الهلال يبدوا دقيقاً . . ألخ فأجيبوا بما ترى . وإن هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقور ، وأبرزه في معرض المسحور ، وهل ألان شكيمة " الحجاج الثقفي " لذلك الرجل الخارجي ، وسل سخيمته ، حتى آثر أن يحسن على أن يسيء غير أن سحره بهذا الأسلوب ؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله " لأحملنك على الأدهم " فقال الخارجي متغابيا : مثل الأمير بحمل على الأدهم الأشهب . مبرزاً وعيده في معرض الوعد ، متوصلا أن يريه بألطف وجه : أن رجلا مثله جدير بأن يعد لا أن يوعد " .

وقوله - تعالى - : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا } هذا القول الكريم نهى لجماعة المسلمين عن عادة كونا يفعلونها في الجاهلية ، وهي أنهم كانوا إذا عادوا من حجهم أو أحرموا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ، بل كانوا يدخلون من نقب ينقبونه في ظهور بيوتهم .

أخرج البخاري عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء - رضي الله عنه - يقول : نزلت هذه الآية فينا . كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عير بذلك فنزلت : { وَلَيْسَ البر } إلخ .

والمعنى : وليس من البر ما كنتم تفعلونهن في الجاهلية من دخولكم البيوت من ظهورها عند إحرامكم أو عودتكم من حجكم ، وكلن البر الحق الجامع لخصال الخير يكون في تقوى الله بأن تمتثلوا أوامرره وتجتنبوا نواهيه ، وإذا ثبت ذلك فعليكم أن تأتوا البيوت من أبوابها عند إحرامكم أو رجوعكم من حجكم .

وفي الأمر بأتيان البيوت من أبوابها إشعار بأن إيتانها من ظهورا ابسم الدين غير مأذون فيه ، وكل ما يفعل باسم الدين وليس له في الدين من شاهد فهو بدعة ، وكل بدعة ضلالة .

وفي الآية الكريمة تعريض بمن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما هو ليس من العلم المختص بالنبوة ، ولا تتوقف معرفته على الوحي ، فهذا السائل في سؤاله مثله كمثل من يدخل البيت من ظهره لا من بابه .

قال بعضهم : وذلك لأن العلم على ضربين : علم دنيوي يتعلق بأمر المعاش - كمعرفة الصنائع ومعرفة حركات ومعرفة المعادن والنبات ، وقد جعل الله لنا سبيلا إلى معرفة ذلك غير لسان بينه صلى الله عليه وسلم .

وعلم شرعي يتعلق بالعبادات والمعاملات والعقيدة ولا سبيل إلى أخذه إلا من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .

فلما جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما أمكنهم معرفته من غير جهته أجابهم . ثم بين لهم أن البر في التقوى وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين " .

قا صاحب الكشاف : فإن قلت . ما وجه اتصال قوله - تعالى - { وَلَيْسَ البر } إلخ بما قبله ؟ قلت : كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها : إن كل ما يفعله الله - تعالى - لا يكون إلا عن حكمة ومصلحة لعباده فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تعفلونهها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برا . ويجوز أن يكون ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج ، لأنه كان من أفعالهم في الحج . ويحتمل أن يكون هذا لتعكيسهم في سؤالهم وأن مثلهم كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره . والمعنى : ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البر بر من اتقى ذلبك وتجنبه ولم يجسر على مثله ثم قال : { وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا } أي : باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا ، والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب .

وقوله - تعالى - { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أمر بالتقوى التي تتضمن القيام بجميع الواجبات واجتناب البدع والمنكرات . أي : افعلوا ما أمركم الله به ، واجتنبوا ما نهاكم عنه ، لتكونوا من المفلحين ، وهم الفائزون بالحياة المطمئنة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة . وبذلك تكون الآية الكريمة قد رددت عقول الناس إلى النظر والتأمل في سنن الله وفي خلفه على النحو الذي ينشئ التقوى في النفوس ، ويوجه إلأى العمل الصالح الذي يرضى الله - تعالى - .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

قال العوفي عن ابن عباس : سأل الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [ وَالْحَجِّ ]{[3373]} } يعلمون بها حِلَّ دَيْنهم ، وعدّة نسائهم ، ووقتَ حَجِّهم .

وقال أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : بلغنا أنَّهم قالوا : يا رسول الله ، لم خُلِقَتْ الأهلة ؟ فأنزل الله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } يقول : جَعَلَهَا الله مواقيت لصَوْم المسلمين وإفطارهم ، وعدة نسائهم ، ومَحَلّ دَيْنهم .

وكذا رُوي عن عَطَاء ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، والربيع بن أنس ، نحو ذلك .

وقال عبد الرزاق ، عن عبد العزيز بن أبي رَوّاد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فَعُدُّوا ثلاثين يومًا " .

ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث ابن أبي رواد ، به{[3374]} . وقال : كان ثقة عابدًا مجتهدًا شريف النسب ، فهو صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .

وقال محمد بن جابر ، عن قيس بن طلق ؛ عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعل الله الأهلَّة ، فإذا رأيتم الهلال فصُوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن أغْمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " {[3375]} . وكذا روي من حديث أبي هريرة ، ومن كلام عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنه{[3376]} {[3377]} .

وقوله : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } قال البخاري : حدثنا عبيد الله{[3378]} بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتَوْا البيت من ظهره ، فأنزل الله { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا }{[3379]} .

وكذا رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كانت الأنصار إذا قدموا من سَفَر لم يدخل الرجل من قبل بابه ، فنزلت هذه الآية .

وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر : كانت قريش تدعى الحُمْس ، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام ، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذْ خرج من بابه ، وخرج معه قُطْبة بن عامر الأنصاري ، فقالوا : يا رسول الله ، إن قطبة ابن عامر رجل تاجر{[3380]} وإنه خرج معك من الباب . فقال له : " ما حملك على ما صنعت ؟ " قال : رأيتك فعلتَه ففعلتُ كما فعلتَ . فقال : " إني [ رجل ]{[3381]} أحمس " . قال له : فإن ديني دينك . فأنزل الله { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } رواه ابن أبي حاتم . ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه . وكذا روي عن مجاهد ، والزهري ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، والسدي ، والربيع بن أنس .

وقال الحسن البصري : كان أقوام من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدُهم سَفرًا وخرج من بيته يُريد سفره الذي خرج له ، ثم بدا له بَعْد خُروجه أن يُقيم ويدعَ سفره ، لم يدخل البيت من بابه ، ولكن يتسوّره من قبل ظهره ، فقال{[3382]} الله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ]{[3383]} } الآية .

وقال محمد بن كعب : كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت ، فأنزل الله هذه الآية .

وقال عطاء بن أبي رباح : كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ويَرَوْنَ أن ذلك أدنى إلى البر ، فقال الله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا }

وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به ، واتركوا ما نهاكم عنه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } غدا إذا وقفتم بين يديه ، فيجزيكم{[3384]} بأعمالكم على التمام ، والكمال .


[3373]:زيادة من أ.
[3374]:المستدرك (1/423).
[3375]:رواه أحمد في المسند (4/23) من طريق محمد بن جابر به.
[3376]:في جـ: "عنهم".
[3377]:حديث أبي هريرة رواه البخاري في صحيحه برقم (1909) ومسلم في صحيحه برقم (1081).
[3378]:في أ: "عبد الله".
[3379]:صحيح البخاري برقم (4512).
[3380]:في جـ: "فاجر".
[3381]:زيادة من جـ، أ.
[3382]:في أ: "فأنزل".
[3383]:زيادة من جـ.
[3384]:في جـ، أ: "فيجازيكم".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }( 189 )

وقوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة } الآية ، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم : نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس ؟ ، وجمع { الأهلّة } وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالاً في شهر غير كونه هلالاً في الآخر ، فإنما جمع أحواله( {[1763]} ) من الهلالية( {[1764]} ) ، والهلال ليلتان بلا خلاف ثم يقمر( {[1765]} ) ، وقيل ثلاث .

وقال الأصمعي : هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق( {[1766]} ) ، وقيل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء وذلك ليلة سبع .

وقوله : { مواقيت } معناه لمحل( {[1767]} ) الديون وانقضاء العدد والأكرية وما أشبه هذا من مصالح العباد( {[1768]} ) ، ومواقيت الحج أيضاً يعرف بها وقته وأشهره ، و { مواقيت } لا ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الآحاد ، فهو جمع ونهاية إذ ليس يجمع ، وقرأ ابن أبي إسحاق «والحِج » بكسر الحاء في جميع القرآن ، وفي قوله «حج البيت » في آل عمران .

قال سيبويه : الحج كالرد والشد ، والحج كالذكر ، فهما مصدران بمعنى ، وقيل : الفتح مصدر والكسر الاسم .

وقوله تعالى : { وليس البر } الآية( {[1769]} ) ، قال البراء بن عازب والزهري وقتادة : سببها أن الأنصار كانوا إذا حجوا أو اعتمروا يلتزمون تشرعاً أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل ، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدرات ، وقيل : كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فتوحاً يدخلون منها ولا يدخلون من الأبواب ، وقيل غير هذا مما يشبهه فاختصرته ، فجاء رجل منهم فدخل من باب بيته فعيّر بذلك ، فنزلت الآية فيه( {[1770]} ) .

وقال إبراهيم : «كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز » .

وقال السدي : ناس من العرب ، وهم الذين يسمون الحمس ، قال : فدخل النبي صلى الله عليه وسلم باباً ومعه رجل منهم ، فوقف ذلك الرجل( {[1771]} ) وقال إني أحمس ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أحمس ، ونزلت الآية .

وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وخلفه رجل أنصاري فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم دخلت وأنت قد أحرمت ؟ ، قال : دخلت أنت فدخلت بدخولك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إني أحمس ، أي من قوم لا يدينون بذلك ، فقال الرجل : وأنا ديني دينك ، فنزلت الآية .

قال أبو عبيدة( {[1772]} ) : الآية ضرب مثل ، المعنى : ليس البر أن تسألوا الجهَّال ولكن اتقوا واسألوا العلماء ، فهذا كما يقال أتيت هذا الأمر من بابه .

وقال غير أبي عبيدة : «المعنى ليس البر أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلّة وغيرها فتأتون الأمور على غير ما يجب »( {[1773]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يحتمل والأول أسدُّ( {[1774]} ) ، وأما ما حكاه المهدوي ومكي عن ابن الأنباري من أن الآية مثل في جماع النساء( {[1775]} ) فبعيد مغير نمط الكلام ، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي ونافع بخلاف عنه «البِيوت » بكسر الباء ، وقرأ بعض القراء «ولكنَّ البرَّ » بتشديد نون «لكنَّ » ونصب «البرَّ » ، وقد تقدم القول على { من } في قوله { من آمن بالله } [ البقرة : 177 ] { واتقوا } معناه اجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية ، و { لعلكم } ترجٍّ في حق البشر ، والفلاح درك البغية .


[1763]:- يعني أن جمعه باعتبار أحواله واختلاف زمانه تنزيلا لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات.
[1764]:- أي من صفاته الهلالية في كل شهر، أو في كل ليلة.
[1765]:- اختلف في تسميته هلالا بعد ليلتين، فقيل: يسمى هلالا ثلاث ليال، وبعدها يسمى قمراً وقيل يسمى هلالا إلى سبع ليال ثم يكون قمراً.
[1766]:- تفسير لما قبله.
[1767]:- المحِلّ (بكسر الحاء) أجل الدين.
[1768]:- أشار بهذا إلى قوله تعالى: (للناس) على حذف مضاف، أي: لمصالحهم ومقاصدهم، فالحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف تشكلاتها ما يتعلق بها من مصالح الدنيا والدين – وفي الآية دلالة على أن الصوم لا يثبت بالعدد، بل بالهلال لأنه سبحانه نص على أن الأهلة هي المعتبرة في المواقيت، ولذلك اختلف حالها عن حال الشمس. تنبيه: السؤال كان عن السبب في التشكلات والتغيّرات النورية حيث قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان ولا يكون على حال واحدة؟ ولما كان ذلك مبنيا على أمور عقلية خفية تدرك من علم الفلك والهيئة. والشريعة إنما جاءت لتعلم الناس ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم لا لتعلم علوم الفلك والطبيعة أجابهم إلى ما هو خير من طلبهم، ونبههم إلى أن السؤال عن الغاية والفائدة هو أليق بحالهم، ولو كان ما طلبوه مما يقصد شرعا لأجابهم إليه، وهذا الجواب يسمى عند علماء البيان بالأسلوب الحكيم، وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب، والمخاطب بغير ما يترقب رعاية لمصلحته، وتحقيقا لما يتوقف عليه في حياته. ونص القزويني في تلخيص المفتاح في هذا الموضوع: «ومن خلاف المقتضى تلقي (المخاطب) بغير ما يترقب، بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنه الأولى بالقصد كقول القبعثري للحجاج – وقد قال له متوعدا – لأحملنك على الأدهم: (مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب). أي من كان مثل الأمير في السلطان وبسطة اليد، فجدير بأن يصفُد لا أن يُصْفَد – أو السامع بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيهاً على أنه الأولى بحاله أو المهم له. كقوله تعالى: [يسألونك عن الأهلة قل: هي مواقيت للناس والحج]. قال سعد الدين التفتازاني رحمه الله بعد ذكر سبب الآية ما نصه: والأليق بحالهم أن يسألوا عن ذلك، أي عن الغرض والحكمة، لأنهم ليسوا ممن يطلعون بسهولة على دقائق علم الهيئة، ولا يتعلق لهم به غرض» ا. هـ. وهذه كلمة نابية في حق الصحابة رضوان الله عليهم، كيف وهم قادرون على إدراك ذلك وأكثر منه لفرط ذكائهم وسلامة فطرتهم وصفاء سريرتهم – فقد قال الإمام القرافي رحمه الله في كتاب الفروق: «أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بحاراً في العلوم على اختلاف أنواعها من الشرعيات والعقليات والحسابيات والسياسيات والعلوم الباطنة والظاهرة، حتى يروى أن عليا رضي الله عنه جلس عند ابن عباس في الباء من (بسم الله) من العشاء إلى أن طلع الفجر، مع أنهم لم يدرسوا ورقة ولا قرؤوا كتاباً، ولا تفرغوا من الجهاد وقتال الأعداء، ومع ذلك كانوا على هذه الحالة حتى قال بعض الأصوليين: لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته» ا. هـ. وقال أيضا: من نوادر المسائل الفقهية التي يدخل فيها الحساب المسألة المحكية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أن رجلين كان لأحدهما خمسة أرغفة وللآخر ثلاثة أرغفة، فجلسا يأكلان فأكل معهما ثالث ثم بعد الفراغ من الأكل دفع لهما ثمانية دراهم وقال: اقسما هذه الدراهم – على قدر ما أكلته – لكما. فقال صاحب الثلاثة: إنه أكل نصف أكله من أرغفتي ونصف أكله من أرغفتك فأعطني النصف من الدراهم، فقال له الآخر: لا أعطيك إلا ثلاثة دراهم لأن لي خمسة أرغفة، ولك ثلاثة أرغفة فآخذ خمسة دراهم، وتأخذ ثلاثة دراهم، فحلف صاحب الثلاثة لا يأخذ إلا ما حكم به الشرع فترافعا إلى علي رضي الله عنه فحكم لصاحب الثلاثة بدرهم واحد، ولصاحب الخمسة بسبعة دراهم فشكا من ذلك صاحب الثلاثة، فقال له علي رضي الله عنه: الأرغفة ثمانية، وأنتم ثلاثة، أكل كل واحد منكم ثلاثة أرغفة إلا ثلثا بقي لك ثلث من أرغفتك أكله صاحب الدراهم، وأكل صاحبك من أرغفته ثلاثة إلا ثلثا وهي خمسة يبقى له رغيفان وثلث، وذلك سبعة أثلاث أكلها صاحب الدراهم فأكل لك ثلثا، وأكل له سبعة أثلاث، فلك درهم وله سبعة دراهم. فهذه مسألة من دقيق الحساب أدركها رضي الله عنه بمجرد الالتفات إليها، وكم له رضي الله عنه من جواب خاص في مسائل من الفرائض والمساحات كمسألة حفر البئر المشهورة. ومن هنا كان من الواجب طلب العلوم والاطلاع عليها، فإن كثيرا من مسائل الحياة لا تعلم إلا بالعمليات الحسابية والهندسية الدقيقة. والله أعلم.
[1769]:- لما ذكر الله سبحانه وقت الإحرام الذي هو من فوائد الأهلة بقوله: [يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج] استطرد منه إلى ذكر ما كانوا يفعلونه في الحج بقوله: [وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها]، وهذا الاستطراد موجود في كتاب الله عز وجل، ومن ذلك قوله تعالى: [يا أيها النبي اتّق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما، واتّبع ما يوحى إليك من ربّك إن الله كان بما تعملون خبيرا، وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا] أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بتقواه، واتباع ما أوحى إليه والتوكل عليه دون غيره، ثم اتبع ذلك بقوله: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)، ويعني أن الإنسان ليس له إلا قلب واحد، وأن القلب ليس له إلا وجهة واحدة، فإن لم يتجه إلى تقوى ربه، واتباع وحيه، والتوكل عليه، ولم يفرد ربه بذلك، انصرف عنه إلى غيره، ثم استطرد من ذلك أن الله لم يجعل زوج الرجل أمه، ولم يجعل دعيَّه ابنه، وهذا من الوحي الذي يجب اتباعه ظاهرا والإيمان به باطنا، فانظر ما أحلى هذا الاستطراد وما أحسنه.
[1770]:- روى البخاري، وغيره، عن أبي اسحق قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عُيِّر بذلك فنزلت: [وليس البر] الآية، وجاء في بعض الروايات تعيين الرجل وأنه قطبة بن عامر الأنصاري.
[1771]:- أي لم يدخل الباب لأنه من الحمس، وهذا على ما قاله السدي. وهناك قول آخر وهو أنهم لا يدينون بهذا الدين، وهو ترك الدخول من باب البيت كما يأتي عند ابن عطية في قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاري: (إني أحمس)، أي من قوم لا يدينون بذلك. ففي الحمس قولان – قيل: إنهم يفعلون ذلك، وقيل إنهم لا يدينون بذلك. وإنما سموا حمسا لتشددهم في دينهم، والحماسة الشدة، والحمس جمع أحمس وحمساء.
[1772]:- الآية حملت على معنى حقيقي ومعنى مجازي في إتيان البيوت من أبوابها، والمعنى الحقيقي هو ما شرح به ابن عطية أولا، ونقله عن البراء بن عازب، وقتادة، والزهري، والسدي، والربيع بن أنس، وقد أشار بقوله: «وقال أبو عبيدة» إلى حمل الآية على المعنى المجازي.
[1773]:- يعني أن إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح. وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق الصحيح، وذلك أن الاستدلال بالعلوم على المظنون هو الطريق المستقيم، وقد ثبت أن الصانع حكيم لا يفعل إلا الصواب، وقد عرفنا أن اختلاف أحوال القمر في نوره من فعله، فيعلم أن فيه مصلحة وحكمة وذلك هو الطريق الصحيح، أما أن نستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بحكيم فهو استدلال بالمجهول على المعلوم، فالمعنى أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق فقد أتيتم البيت من ظهره لا من بابه، وهذا غير ما يجب، فإن الواجب هو أن تستدلوا بالمعلوم على المجهول، لا بالمجهول على المعلوم. قال معناه (ح).
[1774]:- هو ما قاله أبو عبيدة: اطلبوا البر من أهله ووجهه، ولا تطلبوه من الجهلة المشركين فمن أتى البيت من بابه فقد أصاب، ومن أتاه من خلفه فقد أخطأ.
[1775]:- أي لا تأتوا النساء في أدبارهن بل في قبلهن.